وَسُئِلَ عَنْ الزَّيْت إذَا وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ مِثْلُ الْفَأْرَةِ وَنَحْوِهَا وَمَاتَتْ فِيهِ . هَلْ يَنْجُسُ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا قِيلَ يَنْجُسُ : فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُكَاثَرَ بِغَيْرِهِ حَتَّى يَبْلُغَ قُلَّتَيْنِ أَمْ لَا ؟ . وَإِذَا قِيلَ تَجُوزُ الْمُكَاثَرَةُ هَلْ يَجُوزُ إلْقَاءُ الطَّاهِرِ عَلَى النَّجِسِ أَوْ بِالْعَكْسِ أَوْ لَا فَرْقَ . وَإِذَا لَمْ تَجُزْ الْمُكَاثَرَةُ وَقِيلَ بِنَجَاسَتِهِ هَلْ لَهُمْ طَرِيقٌ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ مِثْلَ الِاسْتِصْبَاحِ بِهِ أَوْ غَسْلِهِ إذَا قِيلَ يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا كَانَتْ الْمِيَاهُ النَّجِسَةُ الْيَسِيرَةُ تَطْهُرُ بِالْمُكَاثَرَةِ هَلْ تَطْهُرُ سَائِرُ الْمَائِعَاتِ بِالْمُكَاثَرَةِ أَمْ لَا ؟ .
فَصْلٌ وَإِذَا عُرِفَ أَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : فَالْحُكْمُ إذَا ثَبَتَ بِعِلَّةِ زَالَ بِزَوَالِهَا ; كَالْخَمْرِ لَمَّا كَانَ الْمُوجِبُ لِتَحْرِيمِهَا وَنَجَاسَتِهَا هِيَ الشِّدَّةَ الْمُطْرِبَةَ فَإِذَا زَالَتْ بِفِعْلِ اللَّهِ طَهُرَتْ ; بِخِلَافِ مَا إذَا زَالَتْ بِقَصْدِ الْآدَمِيِّ عَلَى الصَّحِيحِ . كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " لَا تَأْكُلُوا خَلَّ خَمْرٍ إلَّا خَمْرًا بَدَأَ اللَّهُ بِفَسَادِهَا " وَلَا جُنَاحَ عَلَى مُسْلِمٍ أَنْ يَشْتَرِيَ خَلَّ خَمْرٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُمْ تَعَمَّدُوا فَسَادَهَا . وَذَلِكَ لِأَنَّ اقْتِنَاءَ الْخَمْرِ مُحَرَّمٌ فَمَتَى قَصَدَ بِاقْتِنَائِهَا التَّخْلِيلَ كَانَ قَدْ فَعَلَ مُحَرَّمًا وَالْفِعْلُ الْمُحَرَّمُ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْحِلِّ وَالْإِبَاحَةِ وَأَمَّا إذَا اقْتَنَاهَا لِشُرْبِهَا وَاسْتِعْمَالِهَا خَمْرًا فَهُوَ لَا يُرِيدُ تَخْلِيلَهَا وَإِذَا جَعَلَهَا اللَّهُ خَلًّا كَانَ مُعَاقَبَةً لَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ فَلَا يَكُونُ فِي حِلِّهَا وَطَهَارَتِهَا مَفْسَدَةٌ . وَأَمَّا سَائِرُ النَّجَاسَاتِ فَيَجُوزُ التَّعَمُّدُ لِإِفْسَادِهَا ; لِأَنَّ إفْسَادَهَا لَيْسَ بِمُحَرَّمِ . كَمَا لَا يُحَدُّ شَارِبُهَا ; لِأَنَّ النُّفُوسَ لَا يُخَافُ عَلَيْهَا بِمُقَارَبَتِهَا الْمَحْظُورَ كَمَا يُخَافُ مِنْ مُقَارَبَةِ الْخَمْرِ ; وَلِهَذَا جَوَّزَ الْجُمْهُورُ أَنْ تُدْبَغَ جُلُودُ الْمَيْتَةِ وَجَوَّزُوا أَيْضًا إحَالَةَ النَّجَاسَةِ بِالنَّارِ وَغَيْرِهَا وَالْمَاءُ لِنَجَاسَتِهِ سَبَبَانِ : أَحَدُهُمَا : مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَالْآخَرُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ . فَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ التَّغَيُّرُ بِالنَّجَاسَةِ فَمَتَى كَانَ الْمُوجِبُ لِنَجَاسَتِهِ التَّغَيُّرَ فَزَالَ التَّغَيُّرُ كَانَ طَاهِرًا . كَالثَّوْبِ الْمُضَمَّخِ بِالدَّمِ إذَا غُسِلَ عَادَ طَاهِرًا . وَالثَّانِي : الْقُلَّةُ : فَإِذَا كَانَ الْمَاءُ قَلِيلًا وَوَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَفِي نَجَاسَتِهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ : فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ أَنَّهُ يُنَجَّسُ مَا دُونُ الْقُلَّتَيْنِ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْهُ يُسْتَثْنَى الْبَوْلُ وَالْعَذِرَةُ الْمَائِعَةُ فَيُجْعَلُ مَا أَمْكَنَ نَزْحُهُ نَجِسًا بِوُقُوعِ ذَلِكَ فِيهِ . وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ يُنَجَّسُ مَا وَصَلَتْ إلَيْهِ الْحَرَكَةُ وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ أَنَّهُ لَا يُنَجَّسُ وَلَوْ لَمْ يَبْلُغْ قُلَّتَيْنِ وَاخْتَارَ هَذَا الْأَوَّلَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ كَإِحْدَى الرِّوَايَاتِ وَقَدْ نَصَرَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ كَمَا نَصَرَ الْأُولَى طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد لَكِنَّ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ قَالُوا : إنَّ قَلِيلَ الْمَاءِ يُنَجَّسُ بِقَلِيلِ النَّجَاسَةِ وَلَمْ يَحُدُّوا ذَلِكَ بِقُلَّتَيْنِ وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَطْلَقُوا الْقَوْلَ فَهَؤُلَاءِ لَا يُنَجِّسُونَ شَيْئًا إلَّا بِالتَّغَيُّرِ وَمَنْ سَوَّى بَيْنَ الْمَاءِ وَالْمَائِعَاتِ كَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَقَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ الَّذِي هُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد قَالَ فِي الْمَائِعَاتِ كَذَلِكَ كَمَا قَالَهُ الزُّهْرِيُّ وَغَيْرُهُ . فَهَؤُلَاءِ لَا يُنَجِّسُونَ شَيْئًا مِنْ الْمَائِعَاتِ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ كَمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ ; لَكِنْ عَلَى الْمَشْهُورِ عَنْ أَحْمَد اعْتِبَارُ الْقُلَّتَيْنِ فِي الْمَاءِ . وَكَذَلِكَ فِي الْمَائِعَاتِ إذَا سُوِّيَتْ بِهِ . فَنَقُولُ : إذَا وَقَعَ فِي الْمَائِعِ الْقَلِيلِ نَجَاسَةٌ فَصُبَّ عَلَيْهِ مَائِعٌ كَثِيرٌ فَيَكُونُ الْجَمِيعُ طَاهِرًا إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَغَيِّرًا وَإِنْ صُبَّ عَلَيْهِ مَاءٌ قَلِيلٌ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَصَارَ الْجَمِيعُ كَثِيرًا فَوْقَ الْقُلَّتَيْنِ فَفِي ذَلِكَ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَاءِ أَنَّ الْجَمِيعَ طَاهِرٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَكُونُ طَاهِرًا حَتَّى يَكُونَ الْمُضَافُ كَثِيرًا . وَالْمُكَاثَرَةُ الْمُعْتَبَرَةُ أَنْ يُصَبَّ الطَّاهِرُ عَلَى النَّجِسِ وَلَوْ صُبَّ النَّجِسُ عَلَى الطَّاهِرِ الْكَثِيرِ كَانَ كَمَا لَوْ صُبَّ الْمَاءُ النَّجِسُ عَلَى مَاءٍ كَثِيرٍ طَاهِرٍ أَيْضًا وَذَلِكَ مُطَهِّرٌ لَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَغَيِّرًا وَإِنْ صُبَّ الْقَلِيلُ الَّذِي لَاقَتْهُ النَّجَاسَةُ عَلَى قَلِيلٍ لَمْ تُلَاقِهِ النَّجَاسَةُ - وَكَانَ الْجَمِيعُ كَثِيرًا فَوْقَ الْقُلَّتَيْنِ - كَانَ كَالْمَاءِ الْقَلِيلِ إذَا ضُمَّ إلَى الْقَلِيلِ وَفِي ذَلِكَ الْوَجْهَانِ الْمُتَقَدِّمَانِ . وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمَائِعَاتِ كَالْمَاءِ أَوْلَى بِعَدَمِ التَّنْجِيسِ مِنْ الْمَاءِ هُوَ الْأَظْهَرُ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ بَلْ لَوْ نُجِّسَ الْقَلِيلُ مِنْ الْمَاءِ لَمْ يَلْزَمْ تَنْجِيسُ الْأَشْرِبَةِ وَالْأَطْعِمَةِ وَلِهَذَا أَمَرَ مَالِكٌ بِإِرَاقَةِ مَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ مِنْ الْمَاءِ الْقَلِيلِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ وَلَمْ يَأْمُرْ بِإِرَاقَةِ مَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ وَاسْتَعْظَمَ إرَاقَةَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَاءَ لَا ثَمَنَ لَهُ فِي الْعَادَةِ بِخِلَافِ أَشْرِبَةِ الْمُسْلِمِينَ وَأَطْعِمَتِهِمْ فَإِنَّ فِي نَجَاسَتِهَا مِنْ الْمَشَقَّةِ وَالْحَرَجِ وَالضِّيقِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى النَّاسِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ جَمِيعَ الْفُقَهَاءِ يَعْتَبِرُونَ رَفْعَ الْحَرَجِ فِي هَذَا الْبَابِ فَإِذَا لَمْ يُنَجِّسُوا الْمَاءَ الْكَثِيرَ رَفْعًا لِلْحَرَجِ . فَكَيْفَ يُنَجِّسُونَ نَظِيرَهُ مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ ؟ وَالْحَرَجُ فِي هَذَا أَشَقُّ وَلَعَلَّ أَكْثَرَ الْمَائِعَاتِ الْكَثِيرَةِ لَا تَكَادُ تَخْلُو مِنْ نَجَاسَةٍ . فَإِنْ قِيلَ : الْمَاءُ يَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنْ غَيْرِهِ فَعَنْ نَفْسِهِ أَوْلَى وَأَحْرَى بِخِلَافِ الْمَائِعَاتِ . قِيلَ : الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ . أَحَدُهَا : أَنَّ الْمَاءَ إنَّمَا دَفَعَهَا عَنْ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ يُزِيلُهَا عَنْ ذَلِكَ الْمَحَلِّ وَتَنْتَقِلُ مَعَهُ فَلَا يَبْقَى عَلَى الْمَحَلِّ نَجَاسَةٌ وَأَمَّا إذَا وَقَعَتْ فِيهِ فَإِنَّمَا كَانَ طَاهِرًا لِاسْتِحَالَتِهَا فِيهِ لَا لِكَوْنِهِ أَزَالَهَا عَنْ نَفْسِهِ ; وَلِهَذَا يَقُولُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ : إنَّ الْمَائِعَاتِ كَالْمَاءِ فِي الْإِزَالَةِ وَهِيَ كَالْمَاءِ فِي التَّنْجِيسِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ كَوْنِ الْمَاءِ يُزِيلُهَا إذَا زَالَتْ مَعَهُ أَنْ يُزِيلَهَا إذَا كَانَتْ فِيهِ .