تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَسُئِلَ عَنْ الزَّيْت إذَا وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ مِثْلُ الْفَأْرَةِ وَنَحْوِهَا وَمَاتَتْ فِيهِ . هَلْ يَنْجُسُ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا قِيلَ يَنْجُسُ : فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُكَاثَرَ بِغَيْرِهِ حَتَّى يَبْلُغَ قُلَّتَيْنِ أَمْ لَا ؟ . وَإِذَا قِيلَ تَجُوزُ الْمُكَاثَرَةُ هَلْ يَجُوزُ إلْقَاءُ الطَّاهِرِ عَلَى النَّجِسِ أَوْ بِالْعَكْسِ أَوْ لَا فَرْقَ . وَإِذَا لَمْ تَجُزْ الْمُكَاثَرَةُ وَقِيلَ بِنَجَاسَتِهِ هَلْ لَهُمْ طَرِيقٌ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ مِثْلَ الِاسْتِصْبَاحِ بِهِ أَوْ غَسْلِهِ إذَا قِيلَ يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا كَانَتْ الْمِيَاهُ النَّجِسَةُ الْيَسِيرَةُ تَطْهُرُ بِالْمُكَاثَرَةِ هَلْ تَطْهُرُ سَائِرُ الْمَائِعَاتِ بِالْمُكَاثَرَةِ أَمْ لَا ؟ .
1234
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ فَصْلٌ وَأَمَّا الْمَائِعَاتُ : كَالزَّيْتِ وَالسَّمْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَدْهَانِ كَالْخَلِّ وَاللَّبَنِ وَغَيْرِهِمَا إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ مِثْلُ الْفَأْرَةِ الْمَيِّتَةِ وَنَحْوِهَا مِنْ النَّجَاسَاتِ فَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّ حُكْمَ ذَلِكَ حُكْمُ الْمَاءِ وَهَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَيُذْكَرُ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَهَذَا هُوَ أَصْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ قَاسَ الْمَاءَ عَلَى الْمَائِعَاتِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَائِعَاتِ تُنَجَّسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهَا بِخِلَافِ الْمَاءِ فَإِنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ . وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَد . وَفِيهَا قَوْلٌ ثَالِثٌ : هُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَائِعَاتِ الْمَائِيَّةِ وَغَيْرِهَا فَخَلُّ التَّمْرِ يَلْحَقُ بِالْمَاءِ وَخَلُّ الْعِنَبِ لَا يَلْحَقُ بِهِ . وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ إذَا كَانَ الزَّيْتُ كَثِيرًا مِثْلُ أَنْ يَكُونَ قُلَّتَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يُنَجَّسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَد فِي كَلْبٍ وَلَغَ فِي زَيْتٍ كَثِيرٍ . فَقَالَ : لَا يُنَجَّسُ . وَإِنْ كَانَ الْمَائِعُ قَلِيلًا انْبَنَى عَلَى النِّزَاعِ الْمُتَقَدِّمِ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ . فَمَنْ قَالَ . إنَّ الْقَلِيلَ لَا يُنَجَّسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ قَالَ : ذَلِكَ فِي الزَّيْتِ وَغَيْرِهِ وَبِذَلِكَ أَفْتَى الزُّهْرِيُّ لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْفَأْرَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الدَّوَابِّ . تَمُوتُ فِي سَمْنٍ أَوْ غَيْرِهِ مَنَّ الْأَدْهَانِ فَقَالَ : تُلْقَى وَمَا قَرُبَ مِنْهَا وَيُؤْكَلُ سَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا وَسَوَاءٌ كَانَ جَامِدًا أَوْ مَائِعًا . وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ فِي صَحِيحِهِ لِمَعْنًى سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ الْمَائِعَ الْقَلِيلَ يَنْجُسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ قَالَ : إنَّهُ كَالْمَاءِ فَإِنَّهُ يَطْهُرُ بِالْمُكَاثَرَةِ كَمَا يَطْهُرُ الْمَاءُ بِالْمُكَاثَرَةِ فَإِذَا صُبَّ عَلَيْهِ زَيْتٌ كَثِيرٌ طَهُرَ الْجَمِيعُ وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْمَائِعَاتِ لَا تُنَجَّسُ كَمَا لَا يُنَجَّسُ الْمَاءُ هُوَ الْقَوْلُ الرَّاجِحُ بَلْ هِيَ أَوْلَى بِعَدَمِ التَّنْجِيسِ مِنْ الْمَاءِ . وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ أَحَلَّ لَنَا الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ عَلَيْنَا الْخَبَائِثَ وَالْأَطْعِمَةُ وَالْأَشْرِبَةُ - مِنْ الْأَدْهَانِ وَالْأَلْبَانِ وَالزَّيْتِ وَالْخُلُولِ وَالْأَطْعِمَةِ الْمَائِعَةِ - هِيَ مِنْ الطَّيِّبَاتِ الَّتِي أَحَلَّهَا اللَّهُ لَنَا فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ فِيهَا صِفَةُ الْخَبَثِ : لَا طَعْمُهُ وَلَا لَوْنُهُ وَلَا رِيحُهُ وَلَا شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ : كَانَتْ عَلَى حَالِهَا فِي الطَّيِّبِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ مِنْ الْخَبِيثِ الْمُحَرَّمَةِ مَعَ أَنَّ صِفَاتِهَا صِفَاتُ الطَّيِّبِ لَا صِفَاتُ الْخَبَائِثِ فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الطَّيِّبَاتِ وَالْخَبَائِثِ بِالصِّفَاتِ الْمُمَيِّزَةِ بَيْنَهُمَا . وَلِأَجْلِ تِلْكَ الصِّفَاتِ حُرِّمَ هَذَا وَأُحِلَّ هَذَا وَإِذَا كَانَ هَذَا الْحَبُّ وَقَعَ فِيهِ قَطْرَةُ دَمٍ أَوْ قَطْرَةُ خَمْرٍ وَقَدْ اسْتَحَالَتْ وَاللَّبَنُ بَاقٍ عَلَى صِفَتِهِ وَالزَّيْتُ بَاقٍ عَلَى صِفَتِهِ لَمْ يَكُنْ لِتَحْرِيمِ ذَلِكَ وَجْهٌ فَإِنَّ تِلْكَ قَدْ اُسْتُهْلِكَتْ وَاسْتَحَالَتْ وَلَمْ يَبْقَ لَهَا حَقِيقَةٌ مِنْ الْأَحْكَامِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الدَّمِ وَالْخَمْرِ . وَإِنَّمَا كَانَتْ أَوْلَى بِالطَّهَارَةِ مِنْ الْمَاءِ لِأَنَّ الشَّارِعَ رَخَّصَ فِي إرَاقَةِ الْمَاءِ وَإِتْلَافِهِ حَيْثُ لَمْ يُرَخِّصْ فِي إتْلَافِ الْمَائِعَاتِ كَالِاسْتِنْجَاءِ فَإِنَّهُ يُسْتَنْجَى بِالْمَاءِ دُونَ هَذِهِ وَكَذَلِكَ إزَالَةُ سَائِرِ النَّجَاسَاتِ بِالْمَاءِ . وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ الْمَائِعَاتِ فِي ذَلِكَ فَلَا يَصِحُّ : سَوَاءٌ قِيلَ تَزُولُ النَّجَاسَةُ أَوْ لَا تَزُولُ . وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاءِ : إنَّ الْمَاءَ يُرَاقُ إذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ وَلَا تُرَاقُ آنِيَةُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَاءَ أَسْرَعُ تَغَيُّرًا بِالنَّجَاسَةِ مِنْ الْمِلْحِ وَالنَّجَاسَةُ أَشَدُّ اسْتِحَالَةً فِي غَيْرِ الْمَاءِ مِنْهَا فِي الْمَاءِ فَالْمَائِعَاتُ أَبْعَدُ عَنْ قَبُولِ التَّنْجِيسِ حِسًّا وَشَرْعًا مِنْ الْمَاءِ فَحَيْثُ لَا يُنَجَّسُ الْمَاءُ فَالْمَائِعَاتُ أَوْلَى أَنْ لَا تُنَجَّسَ . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ : { أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوا سَمْنَكُمْ } . فَأَجَابَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَوَابًا عَامًّا مُطْلَقًا بِأَنْ يُلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَأَنْ يَأْكُلُوا سَمْنَهُمْ وَلَمْ يستفصلهم هَلْ كَانَ مَائِعًا أَوْ جَامِدًا . وَتَرْكُ الاستفصال فِي حِكَايَةِ الْحَالِ مَعَ قِيَامِ الِاحْتِمَالِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ . مَعَ أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى سَمْنِ الْحِجَازِ أَنْ يَكُونَ ذَائِبًا . وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا ذَائِبًا وَالْغَالِبُ عَلَى السَّمْنِ أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ الْقُلَّتَيْنِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَفْصِلْ هَلْ كَانَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ { إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوا سَمْنَكُمْ وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ } . رَوَاهُ أَبُو داود وَغَيْرُهُ . قِيلَ : هَذِهِ الزِّيَادَةُ هِيَ الَّتِي اعْتَمَدَ عَلَيْهَا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْمَائِعِ وَالْجَامِدِ وَاعْتَقَدُوا أَنَّهَا ثَابِتَةٌ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانُوا فِي ذَلِكَ مُجْتَهِدِينَ قَائِلِينَ بِمَبْلَغِ عِلْمِهِمْ وَاجْتِهَادِهِمْ . وَقَدْ ضَعَّفَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذهلي حَدِيثَ الزُّهْرِيِّ وَصَحَّحَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ ; لَكِنْ قَدْ تَبَيَّنَ لِغَيْرِهِمْ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ وَقَعَتْ خَطَأً فِي الْحَدِيثِ لَيْسَتْ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي تَبَيَّنَ لَنَا وَلِغَيْرِنَا وَنَحْنُ جَازِمُونَ بِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلِذَلِكَ رَجَعْنَا عَنْ الْإِفْتَاءِ بِهَا بَعْدَ أَنْ كُنَّا نُفْتِي بِهَا أَوَّلًا فَإِنَّ الرُّجُوعَ إلَى الْحَقِّ خَيْرٌ مِنْ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ قَدْ بَيَّنُوا لَنَا أَنَّهَا بَاطِلَةٌ وَأَنَّ مَعْمَرًا غَلِطَ فِي رِوَايَتِهِ لَهَا عَنْ الزُّهْرِيِّ وَكَانَ مَعْمَرٌ كَثِيرَ الْغَلَطِ والأثبات مِنْ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ : كَمَالِكِ . وَيُونُسَ وَابْنِ عيينة خَالَفُوهُ فِي ذَلِكَ وَهُوَ نَفْسُهُ اضْطَرَبَتْ رِوَايَتُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إسْنَادًا وَمَتْنًا فَجَعَلَهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَإِنَّمَا هُوَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْن عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ وَرُوِيَ عَنْهُ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَنَّهُ قَالَ : { إنْ كَانَ مَائِعًا فَاسْتَصْبِحُوا بِهِ . وَفِي بَعْضِهَا فَلَا تَقْرَبُوهُ } . وَالْبُخَارِيُّ بَيَّنَ غَلَطَهُ فِي هَذَا بِأَنْ ذَكَرَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ يُونُسَ مِنْ الزُّهْرِيِّ نَفْسِهِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ : إنْ كَانَ جَامِدًا أَوْ مَائِعًا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا تُلْقَى وَمَا قَرُبَ مِنْهَا وَيُؤْكَلُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ : { أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوا سَمْنَكُمْ } فَالزُّهْرِيُّ الَّذِي مَدَارُ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ قَدْ أَفْتَى فِي الْمَائِعِ وَالْجَامِدِ بِأَنْ تُلْقَى الْفَأْرَةُ وَمَا قَرُبَ مِنْهَا وَيُؤْكَلَ وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ كَمَا رَوَاهُ عَنْهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ ذَكَرَ عَنْهُ الْفَرْقَ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ فَقَدْ غَلِطَ . وَأَيْضًا فَالْجُمُودُ والميعان أَمْرٌ لَا يَنْضَبِطُ بَلْ يَقَعُ الِاشْتِبَاهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَطْعِمَةِ هَلْ تَلْحَقُ بِالْجَامِدِ أَوْ الْمَائِعِ . وَالشَّارِعُ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ إلَّا بِفَصْلِ مُبَيِّنٍ لَا اشْتِبَاهَ فِيهِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ } . وَالْمُحَرَّمَاتُ مِمَّا يَتَّقُونَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ الْمُحَرَّمَاتِ بَيَانًا فَاصِلًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحَلَالِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ } . وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَتْ الْخَمْرُ الَّتِي هِيَ أُمُّ الْخَبَائِثِ إذَا انْقَلَبَتْ بِنَفْسِهَا حَلَّتْ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَغَيْرُهَا مِنْ النَّجَاسَاتِ أَوْلَى أَنْ تَطْهُرَ بِالِانْقِلَابِ وَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ قَطْرَةَ خَمْرٍ وَقَعَتْ فِي خَلِّ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَاسْتَحَالَتْ كَانَتْ أَوْلَى بِالطَّهَارَةِ . فَإِنْ قِيلَ : الْخَمْرُ لَمَّا نَجُسَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ طَهُرَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ ; بِخِلَافِ غَيْرِهَا ؟ وَالْخَمْرُ إذَا قُصِدَ تَخْلِيلُهَا لَمْ تَطْهُرْ . قِيلَ فِي الْجَوَابِ عَنْ الْأَوَّلِ : إنَّ جَمِيعَ النَّجَاسَاتِ نَجُسَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَشْرَبُ الشَّرَابَ وَهِيَ طَاهِرَةٌ ثُمَّ تَسْتَحِيلُ دَمًا وَبَوْلًا وَغَائِطًا فَتَنْجُسُ . وَكَذَلِكَ الْحَيَوَانُ يَكُونُ طَاهِرًا فَإِذَا مَاتَ احْتَبَسَتْ فِيهِ الْفَضَلَاتُ وَصَارَ حَالُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ خِلَافَ حَالِهِ فِي الْحَيَاةِ فَيَنْجُسُ وَلِهَذَا يَطْهُرُ الْجِلْدُ بَعْدَ الدِّبَاغِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ سَوَاءٌ قِيلَ : إنَّ الدِّبَاغَ كَالْحَيَاةِ أَوْ قِيلَ إنَّهُ كَالذَّكَاةِ ; فَإِنَّ فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ وَالسُّنَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدِّبَاغَ كَالذَّكَاةِ . وَأَمَّا مَا قُصِدَ تَخْلِيلُهُ : فَذَلِكَ لِأَنَّ حَبْسَ الْخَمْرِ حَرَامٌ سَوَاءٌ حُبِسَتْ لِقَصْدِ التَّخْلِيلِ أَوْ لَا . وَالطَّهَارَةُ نِعْمَةٌ فَلَا تَثْبُتُ النِّعْمَةُ بِالْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ .