وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هَلْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الْمَطْعُومَاتُ الَّتِي يُؤْخَذُ عَلَيْهَا الْمَكْسُ وَهِيَ مُضَمَّنَةٌ أَوْ مُحْتَكَرَةٌ هَلْ يَحْرُمُ عَلَى مَنْ يَشْتَرِي مِنْهَا شَيْئًا وَيَأْكُلُ مِنْهَا ؟ وَإِنْ عَامَلَ رَجُلٌ لِإِنْسَانِ كُلُّ مَالِهِ حَرَامٌ مِثْلَ ضَامِنِ الْمَكْسِ أَوْ مَنْ لَيْسَ لَهُ مَالٌ سِوَى الْمَكْسِ فَهَلْ يَفْسُقُ بِذَلِكَ .
وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الشَّرِيعَةِ ; فَإِنَّ التَّحْرِيمَ فِي حَقِّ الْآدَمِيِّينَ إذَا كَانَ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ لَمْ يَثْبُتْ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ كَمَا لَوْ اشْتَرَى الرَّجُلُ مِلْكَهُ الْمَغْصُوبَ مِنْ الْغَاصِبِ فَإِنَّ الْبَائِعَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَخْذُ الثَّمَنِ وَالْمُشْتَرِي لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَخْذُ مِلْكِهِ وَلَا بَذْلُ مَا بَذَلَهُ مِنْ الثَّمَنِ ; وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ : يَجُوزُ رِشْوَةُ الْعَامِلِ لِدَفْعِ الظُّلْمِ لَا لِمَنْعِ الْحَقِّ وَإِرْشَاؤُهُ حَرَامٌ فِيهِمَا وَكَذَلِكَ الْأَسِيرُ وَالْعَبْدُ الْمُعْتَقُ . إذَا أَنْكَرَ سَيِّدُهُ عِتْقَهُ لَهُ أَنْ يَفْتَدِيَ نَفْسَهُ بِمَالٍ يَبْذُلُهُ يَجُوزُ لَهُ بَذْلُهُ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ لِلْمُسْتَوْلِي عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ أَخْذُهُ . وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا إذَا جَحَدَ الزَّوْجُ طَلَاقَهَا فَافْتَدَتْ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْخُلْعِ فِي الظَّاهِرِ كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِ مَا بَذَلَتْهُ وَيُخَلِّصُهَا مِنْ رِقِّ اسْتِيلَائِهِ ; وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنِّي لَأُعْطِي أَحَدَهُمْ الْعَطِيَّةَ فَيَخْرُجُ بِهَا يتلظاها نَارًا قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلِمَ تُعْطِيهِمْ ؟ قَالَ : يَأْبَوْنَ إلَّا أَنْ يَسْأَلُونِي وَيَأْبَى اللَّهُ لِي الْبُخْلَ } . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ : { مَا وَقَى بِهِ الْمَرْءُ عِرْضَهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ } . فَلَوْ أَعْطَى الرَّجُلُ شَاعِرًا أَوْ غَيْرَ شَاعِرٍ ; لِئَلَّا يَكْذِبَ عَلَيْهِ بِهَجْوٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ لِئَلَّا يَقُولَ فِي عِرْضِهِ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ كَانَ بَذْلُهُ لِذَلِكَ جَائِزًا وَكَانَ مَا أَخَذَهُ ذَلِكَ لِئَلَّا يَظْلِمَهُ حَرَامًا عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُ ظُلْمِهِ . وَالْكَذِبُ عَلَيْهِ بِالْهَجْوِ مِنْ جِنْسِ تَسْمِيَةِ الْعَامَّةِ : " قَطَعَ مَصَانِعَهُ " وَهُوَ الَّذِي يَتَعَرَّضُ لِلنَّاسِ وَإِنْ لَمْ يُعْطُوهُ اعْتَدَى عَلَيْهِمْ بِأَنْ يَكُونَ عَوْنًا عَلَيْهِمْ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ أَوْ بِأَنْ يَكْذِبَ عَلَيْهِمْ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . فَكُلُّ مَنْ أَخَذَ الْمَالَ لِئَلَّا يَكْذِبَ عَلَى النَّاسِ أَوْ لِئَلَّا يَظْلِمَهُمْ كَانَ ذَلِكَ خَبِيثًا سُحْتًا ; لِأَنَّ الظُّلْمَ وَالْكَذِبَ حَرَامٌ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتْرُكَهُ بِلَا عِوَضٍ يَأْخُذُهُ مِنْ الْمَظْلُومِ فَإِذَا لَمْ يَتْرُكْهُ إلَّا بِالْعِوَضِ كَانَ سُحْتًا . فَالْمُبَاحَاتُ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ فِي الْأَصْلِ : كَالصَّيُودِ الْبَرِّيَّةِ وَالْبَحْرِيَّةِ وَالْمُبَاحَاتِ النَّابِتَةِ فِي الْأَرْضِ وَالْمُبَاحَةِ مِنْ الْجِبَالِ وَالْبَرَارِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَالْمَعَادِنِ وَكَالْمِلْحِ وكالأطرون وَغَيْرِهَا إذَا حَجَرَهَا السُّلْطَانُ وَأَمَرَ أَنْ لَا يَأْخُذَهَا إلَّا نُوَّابُهُ وَأَنْ تُبَاعَ لِلنَّاسِ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِمْ شِرَاؤُهَا ; لِأَنَّهُمْ لَا يَظْلِمُونَ فِيهَا أَحَدًا وَلِأَنَّهُمْ هُمْ الْمَظْلُومُونَ بِحَجْرِهَا عَلَيْهِمْ فَكَيْفَ يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَشْتَرُوا مَا لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوهُ بِلَا عِوَضٍ ; فَإِنَّ نُوَّابَ السُّلْطَانِ لَا يَسْتَخْرِجُونَهَا إلَّا بِأَثْمَانِهَا الَّتِي أَخَذُوهَا ظُلْمًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الظُّلْمِ . قِيلَ : تِلْكَ الْأَمْوَالُ أُخِذَتْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ظُلْمًا وَالْمُسْلِمُونَ هُمْ الْمَظْلُومُونَ فَقَدْ مُنِعُوا حُقُوقَهُمْ مِنْ الْمُبَاحَاتِ إلَّا بِمَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ يُسْتَخْرَجُ بِبَعْضِهِ تِلْكَ الْمُبَاحَاتُ وَالْبَاقِي يُؤْخَذُ وَذَلِكَ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مَا كَانَ حَلَالًا لَهُمْ وَهَذَا ظَاهِرٌ فِيمَا كَانَ الظُّلْمُ فِيهِ مُنَاسِبًا مِثْلَ أَنْ يُبَاعَ كُلُّ مِقْدَارٍ بِثَمَنٍ مُعَيَّنٍ وَيُؤْخَذُ مِنْ تِلْكَ الْأَثْمَانِ مَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ تِلْكَ الْمُبَاحَاتُ وَهُنَا لَا شُبْهَةَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَصْلًا ; فَإِنَّ مَا اُسْتُخْرِجَتْ بِهِ الْمُبَاحَاتُ هُوَ حَقُّهُمْ أَيْضًا . فَهُوَ كَمَا لَوْ غَصَبَ رَجُلٌ بَيْتَ رَجُلٍ وَأَمَرَ غِلْمَانَ الْمَالِكِ أَنْ يَطْبُخُوا مِمَّا فِي بَيْتِهِ طَعَامًا فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَحْرُمُ عَلَى الْمَغْصُوبِ ; لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْأَعْيَانَ وَالْمَنَافِعَ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ التَّصَرُّفُ وَقَعَ بِغَيْرِ وِكَالَةٍ مِنْهُ وَلَا وِلَايَةٍ عَلَيْهِ وَهَذَا لَا يَحْرُمُ مَالُهُ ; بَلْ وَلَا بَذْلُ مَالِهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَإِنْ كَانَ مَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ تِلْكَ الْمُبَاحَاتُ بِدُونِ الْمُعَامَلَةِ بِالْأَمْوَالِ السُّلْطَانِيَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ .