تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هَلْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الْمَطْعُومَاتُ الَّتِي يُؤْخَذُ عَلَيْهَا الْمَكْسُ وَهِيَ مُضَمَّنَةٌ أَوْ مُحْتَكَرَةٌ هَلْ يَحْرُمُ عَلَى مَنْ يَشْتَرِي مِنْهَا شَيْئًا وَيَأْكُلُ مِنْهَا ؟ وَإِنْ عَامَلَ رَجُلٌ لِإِنْسَانِ كُلُّ مَالِهِ حَرَامٌ مِثْلَ ضَامِنِ الْمَكْسِ أَوْ مَنْ لَيْسَ لَهُ مَالٌ سِوَى الْمَكْسِ فَهَلْ يَفْسُقُ بِذَلِكَ .
1234
وَأَمَّا إذَا اسْتَخْرَجَ نُوَّابُ السُّلْطَانِ بِغَيْرِ حَقٍّ مَنْ يَسْتَخْرِجُ تِلْكَ الْمُبَاحَاتِ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَغْصِبَ مَنْ يَطْبُخُ لَهُ طَعَامًا أَوْ يَنْسِجُ لَهُ ثَوْبًا وَبِمَنْزِلَةِ أَنْ يَطْبُخَ الطَّعَامَ بِحَطَبِ مَغْصُوبٍ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا تَكُونُ الْعَيْنُ فِيهِ مُبَاحَةً ; لَكِنْ وَقَعَ الظُّلْمُ فِي تَحْوِيلِهَا مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ . فَهَذَا فِيهِ شُبْهَةٌ وَطَرِيقُ التَّخَلُّصِ مِنْهَا أَنْ يَنْظُرَ النَّفْعَ الْحَاصِلَ فِي تِلْكَ الْعَيْنِ بِعَمَلِ الْمَظْلُومِ فَيُعْطِي الْمَظْلُومَ أَجْرَهُ وَإِنْ تَعَذَّرَ مَعْرِفَةُ الْمَظْلُومِ تَصَدَّقَ بِهِ عَنْهُ ; فَإِنَّ هَذَا غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ قَدْ اخْتَلَطَ حَلَالٌ وَحَرَامٌ ; وَلَوْ اخْتَلَطَتْ الْأَعْيَانُ الَّتِي يَمْلِكُهَا بِالْأَثْمَانِ الَّتِي غَصَبَهَا وَأَخَذَهَا حَرَامًا مِثْلَ أَنْ تَخْتَلِطَ دَرَاهِمُهُ وَدَنَانِيرُهُ بِمَا غَصَبَهُ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَاخْتَلَطَ حَبُّهُ أَوْ ثَمَرُهُ أَوْ دَقِيقُهُ أَوْ خَلُّهُ أَوْ ذَهَبُهُ بِمَا غَصَبَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ فَإِنَّ هَذَا الِاخْتِلَاطَ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ مَالِهِ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ نَوْعَانِ . مُحَرَّمٌ لِوَصْفِهِ وَعَيْنِهِ كَالدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ . فَهَذَا إذَا اخْتَلَطَ بِالْمَائِعِ وَظَهَرَ فِيهِ طَعْمُ الْخُبْثِ أَوْ لَوْنُهُ أَوْ رِيحُهُ حَرُمَ . وَمُحَرَّمٌ لِكَسْبِهِ كَالنَّقْدَيْنِ وَالْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . فَهَذِهِ لَا تَحْرُمُ أَعْيَانُهَا تَحْرِيمًا مُطْلَقًا بِحَالِ وَلَكِنْ تَحْرُمُ عَلَى مَنْ أَخَذَهَا ظُلْمًا أَوْ بِوَجْهٍ مُحَرَّمٍ فَإِذَا أَخَذَ الرَّجُلُ مِنْهَا شَيْئًا وَخَلَطَهُ بِمَالِهِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ ذَلِكَ الْقَدْرَ الْمُحَرَّمَ وَقَدْرُ مَالِهِ حَلَالٌ لَهُ . وَلَوْ أَخْرَجَ مِثْلَهُ مِنْ غَيْرِهِ ؟ فَفِيهِ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . أَحَدُهُمَا : أَنَّ الِاخْتِلَاطَ كَالتَّلَفِ فَإِذَا أَخْرَجَ مِثْلَهُ أَجْزَأَ . وَالثَّانِي : أَنَّ حَقَّ الْمَظْلُومِ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ مَعَ الْخَلْطِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُخْرِجَ قَدْرَ حَقِّ الْمَظْلُومِ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ الْمُخْتَلَطِ . إذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَإِذَا كَانَ أَثَرُ عَمَلِ الْمَظْلُومِ قَائِمًا بِالْعَيْنِ ; مِثْلَ طَبْخِهِ أَوْ نَسْجِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ; فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ قِيمَةَ ذَلِكَ النَّفْعِ فَإِذَا أَعْطَى الْمَظْلُومَ قِيمَةَ ذَلِكَ النَّفْعِ أَخَذَ حَقَّهُ فَلَا يَبْقَى لِصَاحِبِ الْعَيْنِ شَرِيكٌ فَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ . وَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْرِفْ الْمَظْلُومَ فَإِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَنْهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَا لَوْ حَصَلَ بِيَدِهِ أَثْمَانٌ مِنْ غصوب وَعَوَارٍ وَوَدَائِعَ لَا يَعْرِفُ أَصْحَابَهَا فَإِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهَا عَنْهُمْ ; لِأَنَّ الْمَجْهُولَ كَالْمَعْدُومِ فِي الشَّرِيعَةِ وَالْمَعْجُوزُ عَنْهُ كَالْمَعْدُومِ ; وَلِهَذَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اللُّقَطَةِ : فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَأَدِّهَا إلَيْهِ وَإِلَّا فَهِيَ مَالُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ } . فَإِذَا كَانَ فِي اللُّقَطَةِ الَّتِي تَحْرُمُ بِأَنَّهَا سَقَطَتْ مِنْ مَالِكٍ لَمَّا تَعَذَّرَ مَعْرِفَةُ صَاحِبِهَا جَعَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُلْتَقِطِ - وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي جَوَازِ صَدَقَتِهِ بِهَا وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ تَمَلُّكِهِ لَهَا مَعَ الْغِنَى وَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ - فَكَيْفَ مَا يَجْهَلُ فِيهِ ذَلِكَ . وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ آثَارٌ مَعْرُوفَةٌ مِثْلُ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ لَمَّا اشْتَرَى جَارِيَةً ثُمَّ خَرَجَ لِيُوَفِّيَ الْبَائِعَ الثَّمَنَ فَلَمْ يَجِدْهُ فَجَعَلَ يَطُوفُ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَيَقُولُ : اللَّهُمَّ هَذِهِ عَنْ صَاحِبِ الْجَارِيَةِ فَإِنْ رَضِيَ فَقَدْ بَرِئَتْ ذِمَّتِي وَإِنْ لَمْ يَرْضَ فَهُوَ عَنِّي وَلَهُ عَلَيَّ مِثْلُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَحَدِيثُ الرَّجُلِ الَّذِي غَلَّ مِنْ الْغَنِيمَةِ فِي غَزْوَةِ قُبْرُصَ وَجَاءَ إلَى مُعَاوِيَةَ يَرُدُّ إلَيْهِ الْمَغْلُولَ فَلَمْ يَأْخُذْهُ فَاسْتَفْتَى بَعْضَ التَّابِعِينَ فَأَفْتَاهُ بِأَنْ يَتَصَدَّقَ بِذَلِكَ عَنْ الْجَيْشِ وَرَجَعَ إلَى مُعَاوِيَةَ فَأَخْبَرَهُ فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } .