سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :  فَرِيدُ الزَّمَانِ بَحْرُ الْعُلُومِ  تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ  أَحْمَد بْنُ تيمية   رَحِمَهُ اللَّهُ  عَنْ رَجُلَيْنِ  تَبَاحَثَا  فِي "   مَسْأَلَةِ الْإِثْبَاتِ لِلصِّفَاتِ وَالْجَزْمِ بِإِثْبَاتِ الْعُلُوِّ  عَلَى الْعَرْشِ  " .  فَقَالَ أَحَدُهُمَا : لَا يَجِبُ  عَلَى أَحَدٍ مَعْرِفَةُ  هَذَا وَلَا الْبَحْثُ عَنْهُ ; بَلْ يُكْرَهُ لَهُ  كَمَا  قَالَ  الْإِمَامُ مَالِكٌ  لِلسَّائِلِ : وَمَا  أَرَاك إلَّا رَجُلُ سُوءٍ . وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ وَيَعْتَقِدَ  أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَاحِدٌ  فِي مُلْكِهِ وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَخَالِقُهُ وَمَلِيكُهُ ; بَلْ وَمَنْ  تَكَلَّمَ  فِي شَيْءٍ  مِنْ  هَذَا فَهُوَ مُجَسِّمٌ حَشْوِيٌّ .  فَهَلْ  هَذَا  الْقَائِلُ لِهَذَا الْكَلَامِ مُصِيبٌ أَمْ مُخْطِئٌ ؟ فَإِذَا  كَانَ مُخْطِئًا  فَمَا الدَّلِيلُ  عَلَى  أَنَّهُ يَجِبُ  عَلَى النَّاسِ أَنْ يَعْتَقِدُوا إثْبَاتَ الصِّفَاتِ وَالْعُلُوِّ  عَلَى الْعَرْشِ  - الَّذِي هُوَ  أَعْلَى الْمَخْلُوقَاتِ - وَيَعْرِفُوهُ ؟ وَمَا   مَعْنَى التَّجْسِيمِ وَالْحَشْوِ   ؟ .  أَفْتُونَا وَابْسُطُوا الْقَوْلَ بَسْطًا شَافِيًا يُزِيلُ الشُّبُهَاتِ  فِي  هَذَا مُثَابِينَ مَأْجُورِينَ إنْ  شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى  . 
				
				
				 ( الْوَجْهُ الثَّانِي )  فِي تَبْيِينِ وُجُوبِ   الْإِقْرَارِ بِالْإِثْبَاتِ وَعُلُوِّ اللَّهِ  عَلَى السَّمَوَاتِ  أَنْ  يُقَالَ :  مِنْ الْمَعْلُومِ  أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى  أَكْمَلَ الدِّينَ  وَأَتَمَّ النِّعْمَةَ ;  وَأَنَّ اللَّهَ  أَنْزَلَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ;  وَأَنَّ مَعْرِفَةَ مَا يَسْتَحِقُّهُ اللَّهُ وَمَا يُنَزَّهُ عَنْهُ هُوَ  مِنْ  أَجَلِّ أُمُورِ الدِّينِ وَأَعْظَمِ أُصُولِهِ ;  وَأَنَّ بَيَانَ  هَذَا وَتَفْصِيلَهُ  أَوْلَى مَنْ كُلِّ شَيْءٍ . فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ  يَكُونَ  هَذَا الْبَابُ لَمْ يُبَيِّنْهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  وَلَمْ يُفَصِّلْهُ وَلَمْ يُعْلِمْ  أُمَّتَهُ مَا يَقُولُونَ  فِي  هَذَا الْبَابِ وَكَيْفَ يَكُونُ الدِّينُ قَدْ كَمُلَ وَقَدْ تُرِكُوا  عَلَى الطَّرِيقَةِ الْبَيْضَاءِ وَهُمْ لَا يَدْرُونَ بِمَاذَا يَعْرِفُونَ  رَبَّهُمْ : أَبِمَا تَقُولُهُ النفاة أَوْ بِأَقْوَالِ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ  ( الْوَجْهُ الثَّالِثُ ) أَنْ  يُقَالَ : كُلُّ مَنْ  فِيهِ  أَدْنَى مَحَبَّةٍ لِلْعِلْمِ أَوْ  أَدْنَى مَحَبَّةٍ لِلْعِبَادَةِ : لَا  بُدَّ أَنْ يَخْطِرَ بِقَلْبِهِ  هَذَا الْبَابُ وَيَقْصِدَ  فِيهِ الْحَقَّ وَمَعْرِفَةَ الْخَطَأِ  مِنْ الصَّوَابِ  فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ  يَكُونَ   الصَّحَابَةُ   وَالتَّابِعُونَ  كُلُّهُمْ  كَانُوا مُعْرِضِينَ عَنْ  هَذَا لَا يَسْأَلُونَ عَنْهُ وَلَا يَشْتَاقُونَ إلَى مَعْرِفَتِهِ وَلَا تَطْلُبُ قُلُوبُهُمْ الْحَقَّ وَهُمْ لَيْلًا وَنَهَارًا يَتَوَجَّهُونَ بِقُلُوبِهِمْ إلَيْهِ وَيَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا  وَخِيفَةً وَرَغَبًا وَرَهَبًا وَالْقُلُوبُ مَجْبُولَةٌ مَفْطُورَةٌ  عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ بِهَذَا وَمَعْرِفَةِ الْحَقِّ  فِيهِ وَهِيَ  مُشْتَاقَةٌ إلَيْهِ  أَكْثَرَ مَنْ شَوْقِهَا إلَى كَثِيرٍ  مِنْ الْأُمُورِ وَمَعَ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ وَالْقُدْرَةِ يَجِبُ حُصُولُ الْمُرَادِ وَهُمْ قَادِرُونَ  عَلَى سُؤَالِ الرَّسُولِ   صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُؤَالِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا . وَقَدْ سَأَلُوهُ  عَمَّا هُوَ  دُونَ  هَذَا : سَأَلُوهُ هَلْ نَرَى  رَبَّنَا يَوْمَ  الْقِيَامَةِ ؟ فَأَجَابَهُمْ {   وَسَأَلَهُ  أَبُو رَزِينٍ  : أَيَضْحَكُ رَبُّنَا ؟  فَقَالَ : نَعَمْ  فَقَالَ : لَنْ نَعْدَمَ  مِنْ رَبٍّ يَضْحَكُ خَيْرًا   }  .  ثُمَّ إنَّهُمْ  لَمَّا سَأَلُوهُ عَنْ ( الرُّؤْيَةِ )  قَالَ : {   إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ  رَبَّكُمْ  كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ   }  فَشَبَّهَ الرُّؤْيَةَ بِالرُّؤْيَةِ ; لَا الْمَرْئِيَّ بِالْمَرْئِيِّ . والنفاة لَا يَقُولُونَ يُرَى  كَمَا تُرَى الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ; بَلْ قَوْلُهُمْ الْحَقِيقِيُّ  أَنَّهُ لَا يُرَى بِحَالِ وَمَنْ  قَالَ يُرَى  مُوَافَقَةً لِأَهْلِ الْإِثْبَاتِ وَمُنَافَقَةً  لَهُمْ : فَسَّرَ الرُّؤْيَةَ  بِمَزِيدِ عِلْمٍ  فَلَا تَكُونُ كَرُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا :  أَنَّهُمْ لَا  بُدَّ أَنْ يَسْأَلُوهُ عَنْ  رَبِّهِمْ الَّذِي يَعْبُدُونَهُ وَإِذَا سَأَلُوهُ  فَلَا  بُدَّ أَنْ يُجِيبَهُمْ .  وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ  أَنَّ مَا تَقُولُهُ   الجهمية النفاة  لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ  مِنْ أَهْلِ التَّبْلِيغِ عَنْهُ وَإِنَّمَا نَقَلُوا عَنْهُ مَا يُوَافِقُ قَوْلَ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ . ( الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنْ  يُقَالَ : إمَّا أَنْ  يَكُونَ اللَّهُ يُحِبُّ  مِنَّا أَنْ نَعْتَقِدَ قَوْلَ النفاة أَوْ نَعْتَقِدَ قَوْلَ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ أَوْ لَا نَعْتَقِدَ وَاحِدًا مِنْهُمَا .  فَإِنْ  كَانَ مَطْلُوبُهُ  مِنَّا اعْتِقَادَ قَوْلِ النفاة : وَهُوَ  أَنَّهُ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ ;  وَأَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ رَبٌّ وَلَا  عَلَى الْعَرْشِ إلَهٌ  وَأَنَّ   مُحَمَّدًا   صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  لَمْ يُعْرَجْ  بِهِ إلَى اللَّهِ وَإِنَّمَا عُرِجَ  بِهِ إلَى السَّمَوَاتِ  فَقَطْ لَا إلَى اللَّهِ  وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَعْرُجُ إلَى اللَّهِ بَلْ إلَى مَلَكُوتِهِ  وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَنْزِلُ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا يَصْعَدُ إلَيْهِ شَيْءٌ وَأَمْثَالُ  ذَلِكَ .  وَإِنْ  كَانُوا يُعَبِّرُونَ عَنْ  ذَلِكَ بِعِبَارَاتِ مُبْتَدَعَةٍ  فِيهَا إجْمَالٌ وَإِبْهَامٌ وَإِيهَامٌ كَقَوْلِهِمْ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزِ وَلَا جِسْمٍ وَلَا جَوْهَرٍ وَلَا هُوَ  فِي جِهَةٍ وَلَا  مَكَانٍ ; وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ الَّتِي تَفْهَمُ مِنْهَا الْعَامَّةُ تَنْزِيهَ الرَّبِّ تَعَالَى عَنْ النَّقَائِصِ وَمَقْصِدُهُمْ بِهَا  أَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ رَبٌّ ; وَلَا  عَلَى الْعَرْشِ إلَهٌ يُعْبَدُ وَلَا عُرِجَ بِالرَّسُولِ إلَى اللَّهِ . وَ ( الْمَقْصُودُ :  أَنَّهُ إنْ  كَانَ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ لَنَا أَنْ نَعْتَقِدَ  هَذَا النَّفْيَ ;   فَالصَّحَابَةُ   وَالتَّابِعُونَ  أَفْضَلُ  مِنَّا فَقَدْ  كَانُوا يَعْتَقِدُونَ  هَذَا النَّفْيَ وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  كَانَ يَعْتَقِدُهُ وَإِذَا  كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ يَرْضَاهُ لَنَا وَهُوَ إمَّا وَاجِبٌ  عَلَيْنَا أَوْ مُسْتَحَبٌّ لَنَا ;  فَلَا  بُدَّ أَنْ يَأْمُرَنَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  بِمَا هُوَ وَاجِبٌ  عَلَيْنَا وَيَنْدُبُنَا إلَى مَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ لَنَا وَلَا  بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ عَنْهُ وَعَنْ الْمُؤْمِنِينَ مَا  فِيهِ إثْبَاتٌ لِمَحْبُوبِ اللَّهِ وَمُرْضِيهِ وَمَا يُقَرِّبُ إلَيْهِ ; لَا سِيَّمَا مَعَ قَوْلِهِ  عَزَّ  وَجَلَّ : {   الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي   }  لَا سِيَّمَا   والجهمية  تَجْعَلُ  هَذَا  أَصْلَ الدِّينِ وَهُوَ عِنْدَهُمْ " التَّوْحِيدُ " الَّذِي لَا يُخَالِفُهُ إلَّا شَقِيٌّ  فَكَيْفَ لَا يُعَلِّمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  أُمَّتَهُ التَّوْحِيدَ ؟  وَكَيْفَ لَا يَكُونُ " التَّوْحِيدُ " مَعْرُوفًا عِنْدَ   الصَّحَابَةِ   وَالتَّابِعِينَ  ؟ .   وَالْفَلَاسِفَةُ   وَالْمُعْتَزِلَةُ  وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ  يُسَمُّونَ مَذْهَبَ  النفاة " التَّوْحِيدَ " وَقَدْ سَمَّى صَاحِبُ الْمُرْشِدَةِ أَصْحَابَهُ الْمُوَحِّدِينَ ; إذْ عِنْدَهُمْ مَذْهَبُ النفاة هُوَ " التَّوْحِيدُ " . وَإِذَا  كَانَ  كَذَلِكَ :  كَانَ  مِنْ الْمَعْلُومِ  أَنَّهُ لَا  بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  وَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ  أَنَّ الرَّسُولَ   صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ لَمْ يَتَكَلَّمُوا بِمَذْهَبِ النفاة . فَعُلِمَ  أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مُسْتَحَبٍّ ; بَلْ عُلِمَ  أَنَّهُ لَيْسَ  مِنْ " التَّوْحِيدِ " الَّذِي  شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ .  وَإِنْ  كَانَ يُحِبُّ  مِنَّا مَذْهَبَ الْإِثْبَاتِ ; وَهُوَ الَّذِي أُمِرْنَا  بِهِ ;  فَلَا  بُدَّ أَيْضًا أَنْ يُبَيِّنَ  ذَلِكَ لَنَا .