سُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ ( الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ هَلْ فَوْقَهُ مَقَامٌ مِنْ الْمَقَامَاتِ أَوْ حَالٌ مِنْ الْأَحْوَالِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ الْمَقَامَاتِ وَالْأَحْوَالِ الْمَحْمُودَةِ عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ تَكُونُ صِفَةُ الْإِيمَانِ نُورًا يُوقِعُهُ اللَّهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ وَيَعْرِفُ الْعَبْدُ عِنْدَ وُقُوعِهِ فِي قَلْبِهِ الْحَقَّ مِنْ الْبَاطِلِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَكُونُ لِأَوَّلِ حُصُولِهِ سَبَبٌ مِنْ الْأَسْبَابِ - مِثْلَ رُؤْيَةِ أَهْلِ الْخَيْرِ أَوْ مُجَالَسَتِهِمْ وَصُحْبَتِهِمْ أَوْ تَعَلُّمِ عَمَلٍ مِنْ الْأَعْمَالِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ؟ . فَإِنْ كَانَ لِأَوَّلِ حُصُولِهِ سَبَبٌ فَمَا هُوَ ذَلِكَ السَّبَبُ ؟ وَمَا الْأَسْبَابُ أَيْضًا الَّتِي يَقْوَى بِهَا الْإِيمَانُ - إلَى أَنْ يَكْمُلَ عَلَى تَرْتِيبِهَا ؟ هَلْ يَبْدَأُ بِالزُّهْدِ حَتَّى يُصَحِّحَهُ ؟ أَمْ بِالْعِلْمِ حَتَّى يَرْسَخَ فِيهِ ؟ أَمْ بِالْعِبَادَةِ حَتَّى يُجْهِدَ نَفْسَهُ ؟ أَمْ يَجْمَعُ بَيْنَ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ طَاقَتِهِ ؟ أَمْ كَيْفَ يَتَوَصَّلُ إلَى حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ الَّذِي مَدَحَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؟ بَيِّنُوا لَنَا الْأَسْبَابَ وَأَنْوَاعَهَا وَشَرْحَهَا الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَمَا وَصْفُ صَاحِبِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْكُمْ
بَقِيَ أَنْ يُقَالَ : فَهَلْ اسْمُ الْإِيمَانِ لِلْأَصْلِ فَقَطْ أَوْ لَهُ وَلِفُرُوعِهِ ؟ . وَالتَّحْقِيقُ : أَنَّ الِاسْمَ الْمُطْلَقَ يَتَنَاوَلُهُمَا وَقَدْ يَخُصُّ الِاسْمُ وَحْدَهُ بِالِاسْمِ مَعَ الِاقْتِرَانِ وَقَدْ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا الْأَصْلَ إذَا لَمْ يَخُصَّ إلَّا هُوَ ; كَاسْمِ الشَّجَرَةِ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْأَصْلَ وَالْفَرْعَ إذَا وُجِدَتْ وَلَوْ قُطِعَتْ الْفُرُوعُ لَكَانَ اسْمُ الشَّجَرَةِ يَتَنَاوَلُ الْأَصْلَ وَحْدَهُ وَكَذَلِكَ اسْمُ الْحَجِّ هُوَ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُشْرَعُ فِيهِ مِنْ رُكْنٍ وَوَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ وَهُوَ حَجٌّ أَيْضًا تَامٌّ بِدُونِ الْمُسْتَحَبَّاتِ وَهُوَ حَجٌّ نَاقِصٌ بِدُونِ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي يَجْبُرُهَا دَمٌ . وَالشَّارِعُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنْفِي الْإِيمَانَ عَنْ الْعَبْدِ لِتَرْكِ مُسْتَحَبٍّ لَكِنْ لِتَرْكِ وَاجِبٍ ; بِحَيْثُ تَرَكَ مَا يَجِبُ مِنْ كَمَالِهِ وَتَمَامِهِ ; لَا بِانْتِفَاءِ مَا يُسْتَحَبُّ فِي ذَلِكَ وَلَفْظُ الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ : قَدْ يُرَادُ بِهِ الْكَمَالُ الْوَاجِبُ وَالْكَمَالُ الْمُسْتَحَبُّ ; كَمَا يَقُولُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ : الْغُسْلُ يَنْقَسِمُ : إلَى كَامِلٍ وَمُجْزِئٍ فَإِذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ } وَ { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ } . وَنَحْوَ ذَلِكَ كَانَ لِانْتِفَاءِ بَعْضِ مَا يَجِبُ فِيهِ ; لَا لِانْتِفَاءِ الْكَمَالِ الْمُسْتَحَبِّ . وَالْإِيمَانُ يَتَبَعَّضُ وَيَتَفَاضَلُ النَّاسُ فِيهِ : كَالْحَجِّ وَالصَّلَاةِ ; وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ وَمِثْقَالُ شُعَيْرَةٍ مِنْ إيمَانٍ } . وَأَمَّا إذَا اُسْتُعْمِلَ اسْمُ الْإِيمَانِ مُقَيَّدًا : كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } وَقَوْلِهِ : { الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ } وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهُنَا قَدْ يُقَالُ : إنَّهُ مُتَنَاوِلٌ لِذَلِكَ وَإِنَّ عَطْفَ ذَلِكَ عَلَيْهِ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } وَقَوْلِهِ : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } . وَقَدْ يُقَالُ : إنَّ دَلَالَةَ الِاسْمِ تَنَوَّعَتْ بِالْإِفْرَادِ وَالِاقْتِرَانِ كَلَفْظِ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ فَإِنَّ أَحَدَهُمَا إذَا أُفْرِدَ تَنَاوَلَ الْآخَرَ وَإِذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا كَانَا صِنْفَيْنِ : كَمَا فِي آيَةِ الصَّدَقَةِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ فُرُوعَ الْإِيمَانِ مَعَ أُصُولِهِ كَالْمَعْطُوفَيْنِ وَهِيَ مَعَ جَمِيعِهِ كَالْبَعْضِ مَعَ الْكُلِّ وَمِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ نَشَأَ نِزَاعٌ وَاشْتِبَاهٌ هَلْ الْأَعْمَالُ دَاخِلَةٌ فِي الْإِيمَانِ أَمْ لَا ؟ لِكَوْنِهَا عُطِفَتْ عَلَيْهِ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَدْ يُعْطَفُ عَلَى الْإِيمَانِ بَعْضُ شُعَبِهِ الْعَالِيَةِ أَوْ بَعْضُ أَنْوَاعِهِ الرَّفِيعَةِ : كَالْيَقِينِ وَالْعِلْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيُشْعِرُ الْعَطْفُ بِالْمُغَايَرَةِ ; فَيُقَالُ هَذَا : أَرْفَعُ الْإِيمَانِ - أَيْ الْيَقِينُ وَالْعِلْمُ أَرْفَعُ مِنْ الْإِيمَانِ الَّذِي لَيْسَ مَعَهُ هَذَا الْيَقِينُ وَالْعِلْمُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّاسَ يَتَفَاضَلُونَ فِي نَفْسِ الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ فِي قُوَّتِهِ وَضَعْفِهِ وَفِي عُمُومِهِ وَخُصُوصِهِ وَفِي بَقَائِهِ وَدَوَامِهِ وَفِي مُوجِبِهِ وَنَقِيضِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِهِ فَيُخَصُّ أَحَدُ نَوْعَيْهِ بِاسْمِ يَفْضُلُ بِهِ عَلَى النَّوْعِ الْآخَرِ وَيَبْقَى اسْمُ الْإِيمَانِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ مُتَنَاوِلًا لِلْقِسْمِ الْآخَرِ وَكَذَلِكَ يُفْعَلُ فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ ; كَمَا يُقَالُ : الْإِنْسَانُ خَيْرٌ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالْإِنْسَانُ خَيْرٌ مِنْ الدَّوَابِّ وَإِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ يَدْخُلُ فِي الدَّوَابِّ فِي قَوْلِهِ : { إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ } . فَإِذَا عُرِفَ هَذَا ; فَحَيْثُ وُجِدَ فِي كَلَامٍ مَقْبُولٍ تَفْضِيلُ شَيْءٍ عَلَى الْإِيمَانِ فَإِنَّمَا هُوَ تَفْضِيلُ نَوْعٍ خَاصٍّ عَلَى عُمُومِهِ أَوْ تَفْضِيلُ بَعْضِ شُعَبِهِ الْعَالِيَةِ عَلَى غَيْرِهِ وَاسْمُ الْإِيمَانِ قَدْ يَتَنَاوَلُ النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا وَقَدْ يَخُصُّ أَحَدَهُمَا كَمَا تَقَدَّمَ وَقَدْ قِيلَ : أَكْثَرُ اخْتِلَافِ الْعُقَلَاءِ مِنْ جِهَةِ أَسْمَائِهِ .