تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : فَرِيدُ الزَّمَانِ بَحْرُ الْعُلُومِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تيمية رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ رَجُلَيْنِ تَبَاحَثَا فِي " مَسْأَلَةِ الْإِثْبَاتِ لِلصِّفَاتِ وَالْجَزْمِ بِإِثْبَاتِ الْعُلُوِّ عَلَى الْعَرْشِ " . فَقَالَ أَحَدُهُمَا : لَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ مَعْرِفَةُ هَذَا وَلَا الْبَحْثُ عَنْهُ ; بَلْ يُكْرَهُ لَهُ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ لِلسَّائِلِ : وَمَا أَرَاك إلَّا رَجُلُ سُوءٍ . وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ وَيَعْتَقِدَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَاحِدٌ فِي مُلْكِهِ وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَخَالِقُهُ وَمَلِيكُهُ ; بَلْ وَمَنْ تَكَلَّمَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا فَهُوَ مُجَسِّمٌ حَشْوِيٌّ . فَهَلْ هَذَا الْقَائِلُ لِهَذَا الْكَلَامِ مُصِيبٌ أَمْ مُخْطِئٌ ؟ فَإِذَا كَانَ مُخْطِئًا فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَعْتَقِدُوا إثْبَاتَ الصِّفَاتِ وَالْعُلُوِّ عَلَى الْعَرْشِ - الَّذِي هُوَ أَعْلَى الْمَخْلُوقَاتِ - وَيَعْرِفُوهُ ؟ وَمَا مَعْنَى التَّجْسِيمِ وَالْحَشْوِ ؟ . أَفْتُونَا وَابْسُطُوا الْقَوْلَ بَسْطًا شَافِيًا يُزِيلُ الشُّبُهَاتِ فِي هَذَا مُثَابِينَ مَأْجُورِينَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
12345678
وَكَلَامُ الْمَالِكِيَّةِ فِي ذَمِّ الجهمية النفاة مَشْهُورٌ فِي كُتُبِهِمْ وَكَلَامُ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ وَقُدَمَائِهِمْ فِي الْإِثْبَاتِ كَثِيرٌ مَشْهُورٌ ; حَتَّى عُلَمَاءَهُمْ حَكَوْا إجْمَاعَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ بِذَاتِهِ فَوْقَ عَرْشِهِ وَابْنُ أَبِي زَيْدٍ إنَّمَا ذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ سَائِرُ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ مَنْ خَالَفَ ابْنَ أَبِي زَيْدٍ فِي هَذَا . وَهُوَ إنَّمَا ذَكَرَ هَذَا فِي مُقَدِّمَةِ الرِّسَالَةِ لِتُلَقَّنَ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّهُ عِنْدَ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ مِنْ الِاعْتِقَادَاتِ الَّتِي يُلَقَّنُهَا كُلُّ أَحَدٍ . وَلَمْ يَرُدَّ عَلَى " ابْنِ أَبِي زَيْدٍ فِي هَذَا إلَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَتْبَاعِ الجهمية النفاة لَمْ يَعْتَمِدْ مَنْ خَالَفَهُ عَلَى أَنَّهُ بِدْعَةٌ وَلَا أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ; وَلَكِنْ زَعَمَ مَنْ خَالَفَ ابْنَ أَبِي زَيْدٍ وَأَمْثَالُهُ أَنَّ مَا قَالَهُ مُخَالِفٌ لِلْعَقْلِ . وَقَالُوا : إنَّ ابْنَ أَبِي زَيْدٍ لَمْ يَكُنْ يُحْسِنُ فَنَّ الْكَلَامِ الَّذِي يَعْرِفُ فِيهِ مَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَا لَا يَجُوزُ . وَاَلَّذِينَ أَنْكَرُوا عَلَى ابْنِ أَبِي زَيْدٍ وَأَمْثَالِهِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ تَلَقَّوْا هَذَا الْإِنْكَارَ عَنْ مُتَأَخِّرِي الْأَشْعَرِيَّةِ - كَأَبِي الْمَعَالِي وَأَتْبَاعِهِ - وَهَؤُلَاءِ تَلَقَّوْا هَذَا الْإِنْكَارَ عَنْ الْأُصُولِ الَّتِي شَارَكُوا فِيهَا الْمُعْتَزِلَةَ وَنَحْوَهُمْ مِنْ الجهمية فالجهمية - مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ - هُمْ أَصْلُ هَذَا الْإِنْكَارِ . وَسَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا مُتَّفِقُونَ عَلَى الْإِثْبَاتِ رَادُّونَ عَلَى الْوَاقِفَةِ والنفاة مِثْلُ مَا رَوَاهُ البيهقي وَغَيْرُهُ عَنْ الأوزاعي قَالَ : كُنَّا - وَالتَّابِعُونَ مُتَوَافِرُونَ - نَقُولُ : إنَّ اللَّهَ فَوْقَ عَرْشِهِ وَنُؤْمِنُ بِمَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنْ صِفَاتِهِ . وَقَالَ أَبُو مُطِيعٍ البلخي فِي كِتَابِ " الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ " الْمَشْهُورِ : سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ عَمَّنْ يَقُولُ لَا أَعْرِفُ رَبِّي فِي السَّمَاءِ أَوْ فِي الْأَرْضِ . قَالَ : قَدْ كَفَرَ ; لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وَعَرْشُهُ فَوْقَ سَبْعِ سَمَوَاتِهِ فَقُلْت إنَّهُ يَقُولُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى وَلَكِنْ لَا يَدْرِي الْعَرْشُ فِي السَّمَاءِ أَوْ فِي الْأَرْضِ ; فَقَالَ إذَا أَنْكَرَ أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ كَفَرَ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ ; وَأَنَّهُ يُدْعَى مِنْ أَعْلَى لَا مِنْ أَسْفَلُ . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ كَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يَقُولُ : اللَّهُ فِي السَّمَاءِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ . وَقَالَ معدان : سَأَلْت سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ عَنْ قَوْله تَعَالَى { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } قَالَ عِلْمُهُ . وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ فِيمَا ثَبَتَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبُخَارِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد وَغَيْرُهُمْ : إنَّمَا يَدُورُ كَلَامُ الجهمية عَلَى أَنْ يَقُولُوا لَيْسَ فِي السَّمَاءِ شَيْءٌ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ قُلْت لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ : بِمَاذَا نَعْرِفُ رَبَّنَا ؟ قَالَ ; بِأَنَّهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ . قُلْت بِحَدِّ ؟ قَالَ : بِحَدِّ لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ وَهَذَا مَشْهُورٌ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ ثَابِتٌ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ ; وَهُوَ أَيْضًا صَحِيحٌ ثَابِتٌ عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ راهويه وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ . وَقَالَ رَجُلٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَدْ خِفْت اللَّهَ مِنْ كَثْرَةِ مَا أَدْعُو عَلَى الجهمية . قَالَ : لَا تَخَفْ فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ إلَهَك الَّذِي فِي السَّمَاءِ لَيْسَ بِشَيْءِ . وَقَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ ; كَلَامُ الجهمية أَوَّلُهُ شَهْدٌ وَآخِرُهُ سُمٌّ وَإِنَّمَا يُحَاوِلُونَ أَنْ يَقُولُوا لَيْسَ فِي السَّمَاءِ إلَهٌ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ . وَرَوَاهُ هُوَ وَغَيْرُهُ بِأَسَانِيدَ ثَابِتَةٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ قَالَ : إنَّ الجهمية أَرَادُوا أَنْ يَنْفُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كَلَّمَ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ وَأَنْ يَكُونَ عَلَى الْعَرْشِ أَرَى أَنْ يُسْتَتَابُوا فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا ضُرِبَتْ أَعْنَاقُهُمْ . وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ : مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى عَلَى خِلَافِ مَا يَقِرُّ فِي قُلُوبِ الْعَامَّةِ فَهُوَ جهمي . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ الضبعي - وَذَكَرَ عِنْدَهُ الجهمية فَقَالَ - هُمْ أَشَرُّ قَوْلًا مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْأَدْيَانِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَلَى الْعَرْشِ وَقَالُوا هُمْ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ . وَقَالَ عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ الواسطي : كَلَّمْت بِشْرًا الْمَرِيسِيَّ وَأَصْحَابَهُ فَرَأَيْت آخِرَ كَلَامِهِمْ يَنْتَهِي إلَى أَنْ يَقُولُوا لَيْسَ فِي السَّمَاءِ شَيْءٌ أَرَى وَاَللَّهِ أَنْ لَا يُنَاكَحُوا وَلَا يوارثوا . وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ . وَهَكَذَا ذَكَرَ أَهْلُ الْكَلَامِ الَّذِينَ يَنْقُلُونَ مَقَالَاتِ النَّاسِ " مَقَالَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ " كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ فِي كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي " اخْتِلَافِ الْمُصَلِّينَ وَمَقَالَاتِ الْإِسْلَامِيِّينَ " فَذَكَرَ فِيهِ أَقْوَالَ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَغَيْرِهِمْ . ثُمَّ قَالَ : ذَكَرَ " مَقَالَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ " وَجُمْلَةُ قَوْلِهِمْ : الْإِقْرَارُ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَبِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَبِمَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرُدُّونَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا - إلَى أَنْ قَالَ - وَأَنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وَأَنَّ لَهُ يَدَيْنِ بِلَا كَيْفٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } وَأَقَرُّوا أَنَّ لِلَّهِ عِلْمًا كَمَا قَالَ : { أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ } { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إلَّا بِعِلْمِهِ } وَأَثْبَتُوا السَّمْعَ وَالْبَصَرَ ; وَلَمْ يَنْفُوا ذَلِكَ عَنْ اللَّهِ كَمَا نَفَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَقَالُوا : إنَّهُ لَا يَكُونُ فِي الْأَرْضِ مِنْ خَيْرٍ وَلَا شَرٍّ إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَإِنَّ الْأَشْيَاءَ تَكُونُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ كَمَا قَالَ { وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } إلَى أَنْ قَالَ : وَيَقُولُونَ إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ ; وَيُصَدِّقُونَ بِالْأَحَادِيثِ الَّتِي جَاءَتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ : { إنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ : هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ ؟ } كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ . وَيُقِرُّونَ أَنَّ اللَّهَ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ : { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } وَأَنَّ اللَّهَ يَقْرَبُ مِنْ خَلْقِهِ كَيْفَ شَاءَ كَمَا قَالَ : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } وَذَكَرَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً إلَى أَنْ قَالَ : فَهَذِهِ جُمْلَةُ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ ويستعملونه وَيَرَوْنَهُ وَبِكُلِّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِهِمْ نَقُولُ وَإِلَيْهِ نَذْهَبُ . قَالَ الْأَشْعَرِيُّ أَيْضًا فِي " مَسْأَلَةِ الِاسْتِوَاءِ " قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ لَيْسَ بِجِسْمِ وَلَا يُشْبِهُ الْأَشْيَاءَ وَأَنَّهُ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وَلَا نَتَقَدَّمُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي الْقَوْلِ بَلْ نَقُولُ اسْتَوَى بِلَا كَيْفٍ وَأَنَّ لَهُ يَدَيْنِ بِلَا كَيْفٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } . وَأَنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ . قَالَ : وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ بِمَعْنَى اسْتَوْلَى . وَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ أَيْضًا فِي كِتَابِهِ " الْإِبَانَةُ فِي أُصُولِ الدِّيَانَةِ " فِي ( بَابِ الِاسْتِوَاءِ إنْ قَالَ قَائِلٌ : مَا تَقُولُونَ فِي الِاسْتِوَاءِ ؟ قِيلَ : نَقُولُ لَهُ إنَّ اللَّهَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وَقَالَ : { إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } وَقَالَ : { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ } . وَقَالَ حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ : { يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ } { أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا } كَذَّبَ فِرْعَوْنُ مُوسَى فِي قَوْلِهِ : إنَّ اللَّهَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ } فَالسَّمَوَاتُ فَوْقَهَا الْعَرْشُ وَكُلُّ مَا عَلَا فَهُوَ سَمَاءٌ وَلَيْسَ إذَا قَالَ : { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } يَعْنِي جَمِيعَ السَّمَوَاتِ وَإِنَّمَا أَرَادَ الْعَرْشَ الَّذِي هُوَ أَعْلَى السَّمَوَاتِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ ذَكَرَ السَّمَوَاتِ فَقَالَ : { وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا } وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُ يَمْلَأُ السَّمَوَاتِ جَمِيعًا ؟ وَرَأَيْنَا الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ إذَا دَعَوْا نَحْوَ السَّمَاءِ ; لِأَنَّ اللَّهَ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ الَّذِي هُوَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ فَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ عَلَى الْعَرْشِ لَمْ يَرْفَعُوا أَيْدِيَهُمْ نَحْوَ الْعَرْشِ . وَقَدْ قَالَ قَائِلُونَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ والجهمية والحرورية : أَنَّ مَعْنَى اسْتَوَى اسْتَوْلَى وَمَلَكَ وَقَهَرَ وَأَنَّ اللَّهَ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَجَحَدُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ أَهْلُ الْحَقِّ وَذَهَبُوا فِي الِاسْتِوَاءِ إلَى الْقُدْرَةِ فَلَوْ كَانَ كَمَا قَالُوا كَانَ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَرْشِ وَالْأَرْضِ السَّابِعَةِ ; لِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَالْأَرْضُ فَاَللَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهَا وَعَلَى الْحُشُوشِ والأخلية فَلَوْ كَانَ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ بِمَعْنَى الِاسْتِيلَاءِ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ : هُوَ مُسْتَوٍ عَلَى الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُقَالَ : إنَّ اللَّهَ مُسْتَوٍ عَلَى الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا وَعَلَى الْحُشُوشِ والأخلية بَطَلَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ الِاسْتِيلَاءُ الَّذِي هُوَ عَامٌّ فِي الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا . وَقَدْ نَقَلَ هَذَا عَنْ الْأَشْعَرِيِّ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ أَصْحَابِهِ كَابْنِ فورك وَالْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي كِتَابِهِ الَّذِي جَمَعَهُ فِي " تَبْيِينِ كَذِبِ الْمُفْتَرِي فِيمَا يُنْسَبُ إلَى الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ " وَذَكَرَ اعْتِقَادَهُ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ " الْإِبَانَةِ " وَقَوْلُهُ فِيهِ : فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ أَنْكَرْتُمْ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ والجهمية والحرورية وَالرَّافِضَةِ وَالْمُرْجِئَةِ فَعَرِّفُونَا قَوْلَكُمْ الَّذِي بِهِ تَقُولُونَ وَدِيَانَتَكُمْ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ قِيل لَهُ : قَوْلُنَا الَّذِي بِهِ نَقُولُ وَدِيَانَتُنَا الَّتِي نَدِينُ ( بِهَا التَّمَسُّكُ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَنَحْنُ بِذَلِكَ مُعْتَصِمُونَ وَبِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ - نَضَّرَ اللَّهُ وَجْهَهُ - قَائِلُونَ وَلِمَا خَالَفَ قَوْلَهُ مُجَانِبُونَ ; لِأَنَّهُ الْإِمَامُ الْفَاضِلُ وَالرَّئِيسُ الْكَامِلُ الَّذِي أَبَانَ اللَّهُ بِهِ الْحَقَّ عِنْدَ ظُهُورِ الضَّلَالِ وَأَوْضَحَ الْمِنْهَاجَ بِهِ وَقَمَعَ بِهِ بِدَعَ الْمُبْتَدِعِينَ وَزَيْغَ الزَّائِغِينَ وَشَكَّ الشَّاكِّينَ فَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنْ إمَامٍ مُقَدَّمٍ وَكَبِيرٍ مُفْهِمٍ وَعَلَى جَمِيعِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ . " وَجُمْلَةُ قَوْلِنَا " : إنَّا نُقِرُّ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ مَا تَقَدَّمَ وَغَيْرِهِ مِنْ جُمَلٍ كَثِيرَةٍ أُورِدَتْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الآجري فِي " كِتَابِ الشَّرِيعَةِ " الَّذِي يَذْهَبُ إلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى عَرْشِهِ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ وَعِلْمُهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ قَدْ أَحَاطَ بِجَمِيعِ مَا خَلَقَ فِي السَّمَوَاتِ الْعُلَى وَجَمِيعِ مَا فِي سَبْعِ أَرْضِينَ يُرْفَعُ إلَيْهِ أَفْعَالُ الْعِبَادِ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : أَيُّ شَيْءٍ مَعْنَى قَوْلِهِ : { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ } الْآيَةَ قِيلَ لَهُ عِلْمُهُ وَاَللَّهُ عَلَى عَرْشِهِ وَعِلْمُهُ مُحِيطٌ بِهِمْ ; كَذَا فَسَّرَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ . وَالْآيَةُ يَدُلُّ أَوَّلُهَا وَآخِرُهَا أَنَّهُ الْعِلْمُ وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ هَذَا قَوْلُ الْمُسْلِمِينَ . وَالْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ الشَّيْخُ " مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي زَيْدٍ وَأَنَّهُ فَوْقَ عَرْشِهِ الْمَجِيدُ بِذَاتِهِ وَهُوَ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِعِلْمِهِ قَدْ تَأَوَّلَهُ بَعْضُ الْمُبْطِلِينَ بِأَنْ رَفَعَ الْمَجِيدَ . وَمُرَادُهُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَجِيدُ بِذَاتِهِ وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ جَهْلٌ وَاضِحٌ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُقَالَ : الرَّحْمَنُ بِذَاتِهِ وَالرَّحِيمُ بِذَاتِهِ وَالْعَزِيزُ بِذَاتِهِ . وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي خُطْبَةِ " الرِّسَالَةِ " أَيْضًا عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى وَعَلَى الْمُلْكِ احْتَوَى فَفَرَّقَ بَيْنَ الِاسْتِوَاءِ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى قَاعِدَةِ الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ وَمَعَ هَذَا فَقَدَ صَرَّحَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي " الْمُخْتَصَرِ " بِأَنَّ اللَّهَ فِي سَمَائِهِ دُونَ أَرْضِهِ هَذَا لَفْظُهُ وَاَلَّذِي قَالَهُ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ مَا زَالَتْ تَقُولُهُ أَئِمَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ . وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو الطلمنكي الْإِمَامُ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ " الْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَةِ الْأُصُولِ " : أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ اسْتَوَى بِذَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ . وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ حَافِظُ الْكُوفَةِ فِي طَبَقَةِ الْبُخَارِيِّ وَنَحْوِهِ ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ . وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ يَحْيَى بْنُ عَمَّارٍ السجستاني الْإِمَامُ فِي رِسَالَتِهِ الْمَشْهُورَةِ فِي السُّنَّةِ الَّتِي كَتَبَهَا إلَى مَلِكِ بِلَادِهِ . وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَبُو نَصْرٍ السجزي الْحَافِظُ فِي كِتَابِ " الْإِبَانَةِ " لَهُ . قَالَ : وَأَئِمَّتُنَا كَالثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ وَابْنِ عيينة وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وفضيل بْنِ عِيَاضٍ وَأَحْمَد وَإِسْحَاقَ : مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ بِذَاتِهِ ; وَأَنَّ عِلْمَهُ بِكُلِّ مَكَانٍ وَكَذَلِكَ ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْأَنْصَارِيُّ وَأَبُو الْعَبَّاسِ الطَّرْقِيُّ وَالشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ الجيلي وَمَنْ لَا يُحْصِي عَدَدَهُ إلَّا اللَّهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَشُيُوخِهِ .