من خلال بحثنا في شخصية ابن تيمية وجدناها شخصية شجاعة دافعت عن الاسلام والمسلمين وعملت على وحدة الكلمة والصف ، وأمرت باوامر الله وانتهت عن نواهيه لتخليص الدين الاسلامي وتصفيته من البدع والانحرافات والرجوع به الى ايامه الأولى في حياة الرسول الكريم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم اجمعين ، فكان لا يخشى في الحق لومة لائم ، فكان لابد لتلك الشجاعة من ان تترك له اعداءً وخصوما يحركون عليه السلاطين ويثيرون له المشكلات والفتن بين الحين والآخر ، وكان هؤلاء يثيرون تلك المزاعم بأهوائهم من غير حكمة أو علم فكان دافعهم بذلك ان يسيروا بالاسلام على هواهم دون أن يستندوا في ذلك الى مصادر أو مراجع ، وقد ذكر لنا المؤرخون الكثير من هذه المحن ومنها ما يذكره ابن الوردي في تاريخه من ان الامام (ابن تيمية) رحمه الله ، قد اصدر فتاوى ودخل في مسائل كبار لا تحتملها عقول ابناء زمانه ولا علومهم كمسألة التكفير في الحلف بالطلاق ومسألة ان الطلاق بالثلاث لا يقع الا واحدة ، أي ان الطلاق عندئذ لا يقع ولكنه يلزم الحالف عند الحتث كفارة اليمين .[1]
وفي سنة 698 هـ ، افتى عن سؤال كان قد ورد من (حماة) ، والخاص بآيات الصفات في قوله تعالى :
( الرحمن على العرش استوى )[2]
وقد رد ابن تيمية على المتكلمين وقولهم في الصفات رداً لا يخلو من عنف فهو يقول : " القول الفاصل هو ما عليه الأمة الوسط من ان الله مستوٍ على عرشه استواء يليق بجلاله ويختص به فكما إنه موصوف بأنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وانه سميع بصير وغير ذلك ولا يجوز ان تثبت للعلم والقدرة خصائص الاعراض التي لعلم المخلوقين وقدرتهم فكذلك هو سبحانه فوق العرض ولا تثبت لفوقيته خصائص فوقية المخلوق على المخلوق ولوازمها[3]
وقد قام جماعة من العلماء على ابن تيمية بسبب هذه الفتوى وبحثوا معه ومنع من الكلام ، ثم حضر مع القاضي امام الدين القزويني فأنتصر له وكان مما قاله القاضي عن الشيخ : " من قال عن الشيخ تقي الدين عزرناه " . وفي سنة 720 هـ عقد مجلس لابن تيمية وعاتبوه بمسألة الطلاق ، وحبسوه في القلعة ثم أخرج بعد ان قضى في السجن خمسة أشهر وثمانية عشر يوما ، وفي نهاية الأمر كادوا له بمسألة لزيارة قبور الانبياء وان السفر وشد الرحال منهي عنه لقوله (صلى الله عليه وسلم) : " لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد المسجد الحرام ، والمسجد الاقصى ، ومسجدي هذا " [4]
مع اعتراضه بان الزيارة بلا شد رحل قرية ، فشنوا عليه حربا لا هوادة فيها وكفروه بها ، بينما افتى آخرون بأن حكمه في ذلك حكم المجتهد الذي اذا اجتهد واصاب فله أجران ، وإذا اجتهد وأخطأ فله أجر واحد وهو أجر الاجتهاد على ما أجتهد عليه . إلا ان القضية لم تنته بذلك فاعتقل الشيخ بقلعة دمشق سنة 726 هـ مع عدد من اصحابه واطلق سراحهم ، باستثناء تلميذه ابن القيم الذي بقي معه في السجن ، وكان ابن تيمية يعاني فوق الم الاعتقال والسجن الماً آخر أشد وقعاً على نفسه الا وهو الامتناع من المطالعة والكتابة ، فاخرجوا ما عنده من الكتب ولم يتركوا له دواة ولا قلماً ولا ورقاً وكتب بعد ذلك
بالفحم ثم مرض الشيخ عشرين يوماً وكان في وقتها مشغول بتلاوة القرآن وقد ختم القرآن أكثر من ثمانين مرة في وجوده في السجن ، حتى انتهى عند قوله تعالى " ان المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر "[5] .. وكانت وفاة ابن تيمية (رحمه الله) سحر ليلة عشرين من ذي القعدة سنة 728هـ فكانت حياة حافلة قضاها شيخ الاسلام بالدفاع عن دينه وعروبته ، بعلمه وزهده وورعه ، وبقلمه الذي لم يتوقف مادام هناك قلب ينبض ، وعقل وروح تتحرك [6].
ولقد عز على الاسلام والمسلمين ان يروا شيخ الاسلام والمسلمين وهو يرمى في السجن لا لتهمة او لسبب مخل به او يدينه ، بل ان كل مافي الأمر انه دافع عن الاسلام ، واسهم البدع والضللات ، وعلى الرغم مما لاقاه ابن تيمية من اولئك الذين ضيقوا عليه ، كتب علماء بغداد الى السلطان الناصر بمصر آنذاك كتابا يبينون فيه المأساة التي لحقت بالمسلمين من جراء التضييق على شيخ الاسلام ابن تيمية وقد جاء فيه : " لما قرع اسماع أهل البلاد الشرقية والنواحي العراقية التضييق على شيخ الاسلام تقي الدين احمد ابن تيمية سلمه الله ، عظم ذلك على المسلمين وشق على ذوي الدين وارتفعت رؤوس الملحدين وطابت نفوس أهل الأهواء والمبتدعين ، ولما رأى علماء أهل البلاد عظم هذه النازلة من شماتة أهل البدع والأهواء بأكابر الفضلاء وأئمة العلماء ، انهوا حال هذا الأمر الفضيع والأمر الشنيع الى الحضرة الشريفة السلطانية زادها الله شرفاً ، وكتبوا اجوبتهم في تصويب ما أجاب به الشيخ سلمه الله في فتواه وذكروا من علمه وفضائله بعض ماهو فيه وحملو ذلك بين يدي مولانا ملك الامراء أعز الله انصاره وضاعف اقتداءه ، غيرة منهم على هذا الدين ونصيحة للاسلام وامراء المؤمنين "[7]
وإن دلت هذه الرسالة على شيء انما تدل على انتشار آراء ابن تيمية وافكاره وفتاواه في جميع البلاد الاسلامية ولم تنحصر في بلاد الشام فحسب ، وكذلك توضح ان ابن تيمية لم يكن مدافعاً أو مسيراً لمنهج أو مذهب معين من مذاهب الاسلام ، بل ان كل ما يهمه هو اعلاء كلمة الاسلام والدفاع عنه وكذلك تدل على انتشار فكر ابن تيمية ومنهجه في بلاد الشام . وتأييد المسلمين له وكذلك اشارت الرسالة الى وجود جماعة او فئة معينة ، اظهرت الشماتة والعداوة لأبن تيمية بعد ان كلنوا يتحفون تلك العداوة ، وهؤلاء للأسف اعدى اعداء الاسلام ، فهم يحسبون انفسهم عليه ولكنهم يخفون في قلوبهم الحقد والكراهية على الاسلام ، حتى اذا ما بدت الفرصة سانحة لهم ، اظهروا حقدهم وعداوتهم للاسلام والمسلمين .[8]
وقد كان ابن تيمية ، رغم هذه الفتن والمكائد التي حلت به من اعدائه ، ذا سماحةٍ ، والعفو شيمته ، فقد كان كاظماً للغيظ ، ( والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس ، والله يحب المحسنين ) [9]، فلما اشتدت الدسائس عليه وكثر خصومه ، وامر الملك بوقتها المظفر بيبرس بحبسه ، عندما رفض السكوت عن الحق ، وبقي مدة في السجن ، فلما عاد الملك الناصر بن قلاوون الى السلطة أمر باحضار الشيخ الى القاهرة ، وأكرمه اكراماً زائداً ، ثم استشاره في خصومة ، إذ كان الملك قد هم بقتلهم ، فصرفه الامام ابن تيمية عن ذلك ، واثنى عليهم ، وقال أحدهم – ابن مخلوف المالكي – ما رأينا اكرم من ابن تيمية ، سعينا في دمه ، فلما قدر علينا عفا عنا .