كان مع رفْضه للدنيا وتقلُّله منها، مؤثِرًا بما عساه يجده منها؛ قليلاً كان أو كثيرًا، ولا يحتقر القليلَ فيمنعه ذلك عن التصدُّق به، حتى إنه إذا لم يجد شيئًا يتصدَّق به نزَع بعض ثيابه فيصِلُ بها الفقراء، وكان يستفضِل من قُوته الرغيف والرغيفين، فيؤثر بذلك على نفسِه" ، وفي مرَّة رأى "الشيخُ محتاجًا إلى ما يعتمُّ به، فنزع عمامته من غير أن يسألَه الرجل ذلك، فقطعها نِصفين، واعتمَّ بنصفها، ودفع النصف الآخر إلى ذلك الرجل" [1]
لقد عُرِف الإمام ابن تيمية بالكرم؛ لأنَّه "كان مجبولاً عليه، لا يتطبَّعه ولا يتصنَّعه؛ بل هو له سجية؛ فكان لا يردُّ مَنْ يسأله شيئًا يقدِر عليه مِن دراهم ولا دنانير ولا ثياب، ولا كتب، ولا غير ذلك، ولقد كان يجود بالميسور كائنًا ما كان، وقد جاءَه يومًا إنسانٌ يسأله كتابًا ينتفع به، فأمَرَه أن يأخُذ كتابًا يختاره، فرأى ذلك الرجل بيْن كتب الشيخ مصحفًا قدِ اشْتُري بدراهم كثيرة، فأخَذَه ومضى.
ومِن كرَمِه أنه كان ينكر إنكارًا شديدًا على مَن يُسأل شيئًا من كتب العلم التي يملِكها ويمنعها من السائل، ويقول: ما ينبغي أن يمنع العلم ممَّن يطلبه" [2] ، ومن جُودِه في العلم أنَّه كان كريمًا في نشْره للعلم، وبثِّه بين صفوف المجتمع كله، كما ذكر ذلك تلميذُه النجيب الإمام ابن القيم: "ولقد شاهدتُ من شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله رُوحَه - في ذلك أمرًا عجيبًا: كان إذا سُئل عن مسألة حُكمية ذَكَر في جوابها مذاهبَ الأئمة الأربعة إذا قدَر، ومأخذ الخلاف، وترجيح القول الراجح، وذكَر متعلِّقات المسألة التي ربَّما تكون أنفعَ للسائل من مسألته، فيكون فرحُه بتلك المتعلقات واللوازم أعظمَ من فرحه بمسألته، وهذه فتاويه - رحمه الله - بيْن الناس، فمن أحب الوقوفَ عليها رأَى ذلك، فمن جُودِ الإنسان بالعلم: أنه لا يقتصر على مسألةِ السائل؛ بل يذكر له نظائرَها ومتعلقها ومأخذها، بحيث يشفيه ويكفيه" [3] ، وهذه حال هذا الإمام مع مَن يسأله كلها كَرَم.
فكان مِن الغاية التي يُنتهى إليها في الورَع؛ لأنَّ الله - تعالى - أجراه مدةَ عمره كلها على الوَرَع، فإنَّه ما خالطَ الناس في بيع ولا شراء، ولا معاملة ولا تجارة، ولا مشاركة ولا مزارعة ولا عمارة، ولا كان ناظرًا أو مباشرًا لمال وقْف، ولم يقبل جراية ولا صِلةً لنفسه مِن سلطان ولا أمير ولا تاجر، ولا كان مدَّخرًا دِينارًا ولا درهمًا ولا طعامًا؛ وإنما كانت بضاعتُه مدَّةَ حياته وميراثه بعدَ وفاته - رضي الله عنه - العلمَ؛ اقتداءً بسيد المرسَلين وخاتم النبيين سيِّدنا محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعلى آله وصحْبه أجمعين، فإنَّه قال: ((إنَّ العلماء ورثةُ الأنبياء، وإنَّ الأنبياء لم يورِّثوا دِينارًا ولا درهمًا، إنَّما ورَثَّوا العلم، فمَن أخذ به، أخذ بحظٍّ وافر))[4]
والاتِّصاف بصِفة الورع من أبرز صِفات العالِم الربَّاني؛ ذلك أنَّه متطلع إلى ما عند الله، متسامٍ عن الدنيا، ومترفعٌ على مناصبها وزخارفها.
لقد أظْهر الله - تعالى - على يدي هذا الإمام كراماتٍ، وأعطاه فِراسةً عُرِفت عنه، وشاهدها مَن رافقه؛ وذلك لاتِّباعه للكتاب والسنة، وهدْي السلف الصالح، ومنها ما حكاه الإمام البزَّار نفسه وشاهده، حيث قال: "جرى بيني وبيْن بعض الفضلاء منازعةٌ في عدة مسائلَ، وطال كلامنا فيها، وجعلنا نقطع الكلام في كلِّ مسألة بأن نرجع إلى الشيخ وما يرجِّحه من القول فيها، ثم إنَّ الشيخ - رضي الله عنه - حضَر، فلما هممنا بسؤاله عن ذلك سبقَنا هو، وشَرَع يذكر لنا مسألةً مسألةً كما كنا فيه، وقال: وكنت في خلال الأيام التي صحبتُه فيها إذا بحَث مسألة يحضر لي إيراد، فما يستتمُّ خاطري به حتى يشرَعَ فيورده، ويذكر الجواب من عدَّة وجوه، وحكَى عن رجل أنه قدم دمشق وأنفق ما معه فقابلَه الشيخ(46) ولم يعرفْه، فجاءَه وهشَّ في وجهه، ووضع في يده صُرَّة فيها دراهم صالِحة، فسأل: من هذا؟! قالوا: هذا ابن تيمية، وإنه لم يمرَّ بهذا الدرب منذ مدة طويلة.
وحدَّث عن شخص آخَر قال: إنَّه ذهب إلى مصر ومرِض، ولم يعرف أحد بحاله، واتَّفق أنَّ ذلك كان حين إقامة الشيخ بها، فما أحسَّ إلا بمن يناديه باسمه وكنيته، فدخل عليه ناسٌ وسألوه عن مرِضه ونقلوه، فقال لهم: كيف عرفتُم بقدومي وأنا قدمتُ في هذه الساعة؟ فذكروا أنَّ الشيخ أخبرَنا بأنك قدمتَ وأنت مريض!
وحكَى أنَّ من عادة الشيخ أنه كان يزور المرضى في البيمارستان بدمشق في كلِّ أسبوع، فجاء على عادته فعادَهم، فوصل إلى شابٍّ منهم، فدعا له، فُشفي سريعًا، وجاء إلى الشيخ يقصد السلامَ عليه، فلما رآه هشَّ لـه وأدناه، ثم دفع إليه نفقة، وقال: قد شفاك الله، فعاهِدِ الله أن تعجِّلَ الرجوع إلى بلدك، أيجوز أن تتركَ زوجتَك وبناتِك أربعًا ضيعةً، وتقيم ها هنا؟! فقبَّل يده وقال: يا سيِّدي، أنا تائب إلى الله تعالى، وقال الفتى: وعجبتُ ممَّا كاشفني به، وكنت قد تركتُهم بلا نفقة، ولم يكن قد عرَف بحالي أحدٌ من أهل دمشق.
وكراماتُ الشيخ - رضي الله عنه - كثيرة جدًّا، ومِن أظهر كراماته أنَّه ما سمع بأحد عاداه أو غضَّ منه إلا وابتُلي بعدَه بلايا، غالبها في دِينه، وهذا ظاهرٌ مشهور، لا يحتاج فيه إلى شرْح صفته" [5]
تواضعه وعدم تكبُّره: وهذا الخُلُق عرَفه كلُّ مَن رأى الشيخ، أو تعامل معه، فلم يُعهد عليه تكبُّر على أحدٍ مِن خلْق الله؛ بل كان دائمَ التودُّد إلى الناس، خاصَّة عوام الناس والمرْضى، والمساكين والمعوزين، فقد كان يختلط بهم، ويتكلَّم معهم، ويتعرَّف أخبارَهم، ويقضي لهم حاجاتِهم.
كما كان يذهب إلى الظَّلَمة ويردُّ إلى المسلمين الضعاف أموالَهم، كما حَدَث مع قطلو بك الكبير، وكذلك كان حريصًا على زيارة المرضى في البيمارستان كلَّ أسبوع، ولا يشغله عِلمُه وتعليمُه وجهادُه عن فِعْل تلك الأشياء، فكانت محبَّته في قلوب الصِّغار والكبار، حُكَّامًا ومحكومين، وعندما يقابل محتاجًا أو مسكينًا يهشُّ في وجهه ويُعطيه ما تيسَّر، وأحق الناس بالكلام عن تِلك الصفة مَن عاشره ولازَمه من تلاميذه، كما قال الحافظ البزار: "وأمَّا تواضعه، فما رأيتُ ولا سمعتُ بأحد من أهل عصره مثله في ذلك، كان يتواضع للكبير والصغير، والجليل والحقير، والغني والصالح والفقير، وكان يُدني الفقيرَ الصالح، ويكرمه ويؤنسه، ويباسطه بحَديثه المستحلى زِيادةً على مثله مِن الأغنياء، حتى إنه ربما خدَمه بنفسه، وأعانه بحَمْل حاجته؛ جبرًا لقلْبه، وتقربًا بذلك إلى ربِّه، وكان لا يسأم ممن يستفتيه أو يسأله؛ بل يُقبِل عليه ببشاشة وجه، ولِين عَرِيكة، ويقف معه حتى يكونَ هو الذي يفارقه؛ كبيرًا كان أو صغيرًا، رجلاً أو امرأةً، حرًّا أو عبدًا، عالمًا أو عاميًّا، حاضرًا أو باديًا، ولقد بالَغ معي [القائل الحافظ البزار] في حال إقامتي بحضرتِه في التواضُع والإكرام، حتى إنه لا يذكرني باسمي؛ بل يُلقِّبني بأحسن الألقاب"
كذلك كان يداعِب الصغار ويلاطفهم، وكان مِن تواضعه أنَّه إذا خرَج مع بعض تلاميذه لقِراءة الحديث "كان هو بنفسه يحمل الكِتاب، ولا يدع أحدًا يحمله، فلما قيل له في ذلك، وأنهم يخافون من سوء الأدب، فيقول: لو حملتُه على رأسي لكان ينبغي ألاَّ أحملَ ما فيه كلام رسولِ الله - صلَّى الله عليه وآله وسلَّم؟ وكان يجلس تحتَ الكرسي ويدَع صدر المجالِس، فيعجب تلاميذه مِن تواضعه، ورَفْعهم عليه في المجلس" ، وكان هذا حالَه مع غيره ممَّن يتعامل معه، حتى كانتْ محبته في قلوب كلِّ مَن رآه، أو سمع به. [6]