تُوفِّي الإمام ابن تيمية في ليلة الاثنين، العشرين من ذي القعدة سنة 728هـ، بقلعة دمشق بالقاعة التي كان محبوسًا بها، وحضَر جمعٌ كثيرٌ إلى القلعة، وأُذِن لهم في الدخول عليه، ثم انصرفوا، واقتصر الجلوسُ على مَن يُغسِّله، أو يساعد على تغسيله، وكانوا جماعةً من أكابر الصالحين، وأهل العلم كالمِزِّيِّ وغيره، وما فُرغ من تغسيله حتى امتلأتِ القلعة وما حولها، واجتمع الخَلْق بالقلعة والطريق إلى الجامِع، ولمَّا سَمِع الناس بموته لم يبقَ في دمشق مَن يستطيع المجيء للصلاة عليه وأراده إلا حضر لذلك، وضجَّ الناس بالبكاء والثناء والترحم، وأُخرج الشيخ إلى جامع بني أُميَّة؛ ظنًّا أنه يسع الناس، فصُلِّي عليه في الجامع، وبقي كثير من الناس خارجَ الجامع، ثم حُمل على أيدي الكبراء والأشراف، ومَن حصل له ذلك مِن جميع الناس، ووضع بأرْضٍ فسيحة متسعة الأطراف، وصلَّى عليه الناس، وأخرج النعش، واشتد الزحام، وعلت الأصوات بالبكاء والنحيب، والترحم عليه والثناء والدعاء له، وصار النعش على الرؤوس، تارةً يتقدم، وتارةً يتأخر، وتارة يقف حتى يمرَّ الناس، وصرخ صارِخ: هكذا تكون جنائز أئمَّة السُّنة، فبكى الناس بكاءً كثيرًا، ووضعت الجنازة فدُفِن في مقبرة الصوفية، وكان دفنه قبلَ العصر بيسير، وحُرز مَن حضر من النساء بـ(15) ألفًا، والرِّجال ما بين (60 - 200) ألف، ولم يُرَ لجنازة أحدٍ ما رُؤي لجنازته مِن الوقار والهَيْبة، والعظمة والجلالة، وتعظيم الناس لها، وتوقيرهم إيَّاها، وتفخيمهم أمْر صاحبها، وثنائهم عليه، إلاَّ ما كان للإمام أحمد بن حنبل؛ لِمَا كان عليه من العِلم والعمل، والزهادة والعبادة، والإعراض عن الدنيا، والاشتغال بالآخرة، وكانت وفاته قد ابتدأتْ بمرَضٍ يسير .
ولقد فاضتْ رُوح هذا الإمام إلى بارئها، وهو على حاله مجاهدًا في ذات الله - تعالى - صابرًا محتسبًا، لم يجبن ولم يهلَعْ، ولم يضعف ولم يتتعتع؛ بل كان إلى حين وفاته مشتغلاً بالله عن جميع ما سواه، وإنَّ مِن حُسْن الختام لهذا الإمام أن يموتَ بعد انتهائه من قراءة قوله - تعالى -: ?إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ?[القمر: 54 - 55] [2]
فموتُ الإمام ابن تيمية جعَل كثيرًا من الفضلاء والعلماء يَرْثُونهُ بقصائدَ متعدِّدة، وإنَّما قيلت هذه القصائد في حقِّ الشيخ من قِبل قائليها؛ "لِمَا وجب للشيخ - رضي الله عنه - عليهم من الحقِّ في إرْشادهم إلى الحقِّ والمنهج المستقيم، بالأدلة الواضحة الجلية، النقلية والعقلية، خصوصًا في أصول الدين" [3] ، ولقد قال الإمام ابنُ فضْل الله العمري : "رثاه جماعاتٌ من الناس بالشام ومصر، والعراق والحجاز، والعرب من آل فضل" بِمَراثٍ كثيرة، نثرًا ونظمًا، وقد قال الإمامُ ابن حجر العسقلاني: "ورَثَاه شهابُ الدين بن فضل الله بقصيدة رائية مليحة... ورثاه زَينُ الدين ابن الوردي بقصيدة لطيفة طائية" [4]
أما قصيدة الإمام ابن فضْل الله العمري، فمنها:[5]
أَهَكَذَا فِي الدَّيَاجِي يُحْجَبُ الْقَمَرُ ... وَيُحْبَسُ النَّوْءُ حَتَّى يَذْهَبَ الْمَطَرُ طَرِيقُهُ كَانَ يَمْشِي قَبْلَ مِشْيَتِهِ ... بِهَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ أَوْ عُمَرُ مِثْلُ الأَئِمَّةِ قَدْ أَحْيَا زَمَانَهُمُ ... كَأَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ وَهْوَ مُنْتَظِرُ مِثْلُ ابْنِ تَيْمِيَّةٍ فِي السِّجْنِ مُعْتَقَلٌ ... وَالسِّجْنُ كَالْغِمْدِ وَهْوَ الصَّارِمُ الذَّكَرُ فِي يُوسُفٍ فِي دُخُولِ السِّجْنِ مَنْقَبَةٌ ... لِمَنْ يُكَابِدُ مَا يَلْقَى وَيَصْطَبِرُ يَا لَيْتَ شِعْرِيَ هَلْ فِي الْحَاسِدِينَ لَهُ ... نَظِيرُهُ فِي جَمِيعِ الْقَوْمِ إِنْ ذُكِرُوا؟! هَلْ فِيهِمُ صَادِعٌ لِلْحَقِّ مَقْوَلَةٌ ... أَوْ خَائِضٌ لِلْوَغَى وَالْحَرْبُ تَسْتَعِرُ قَدَّمْتَ لِلَّهِ مَا قَدَّمْتَ مِنْ عَمَلٍ ... وَمَا عَلَيْكَ بِهِمْ ذَمُّوكَ أَوْ شَكَرُوا وَكَيْفَ تَحْذَرُ مِنْ شَيْءٍ تَزِلُّ بِهِ ... أَنْتَ التَّقِيُّ فَمَاذَا الْخَوْفُ وَالْحَذَرُ؟