تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رُكْنُ الشَّرِيعَةِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ تيمية - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ : - عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا } هَلْ الِاسْتِوَاءُ وَالنُّزُولُ حَقِيقَةً أَمْ لَا ؟ وَمَا مَعْنَى كَوْنِهِ حَقِيقَةً ؟ وَهَلْ الْحَقِيقَةُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِيمَا وُضِعَ لَهُ كَمَا يَقُولُهُ الْأُصُولِيُّونَ أَمْ لَا ؟ وَمَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ آيَاتِ الصِّفَاتِ حَقِيقَةً ؟ .
123456
فَصْلٌ : وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ : مَا مَعْنَى كَوْنِ ذَلِكَ حَقِيقَةً ؟ " فَالْحَقِيقَةُ " هُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ وَقَدْ يُرَادُ بِهَا الْمَعْنَى الْمَوْضُوعُ لِلَّفْظِ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ اللَّفْظُ فِيهِ . فَالْحَقِيقَةُ أَوْ الْمَجَازُ هِيَ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْأُصُولِ وَقَدْ يَجْعَلُونَهُ مِنْ عَوَارِضِ الْمَعَانِي لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَشْهَرُ وَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ لَمْ تُوضَعْ لِخَصَائِصِ الْمَخْلُوقِينَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَلَا عِنْدَ الْإِضَافَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنْ عِنْدَ الْإِضَافَةِ إلَيْهِمْ . فَاسْمُ الْعِلْمِ يُسْتَعْمَلُ مُطْلَقًا وَيُسْتَعْمَلُ مُضَافًا إلَى الْعَبْدِ كَقَوْلِهِ : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ } وَيُسْتَعْمَلُ مُضَافًا إلَى اللَّهِ كَقَوْلِهِ : { وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ } فَإِذَا أُضِيفَ الْعِلْمُ إلَى الْمَخْلُوقِ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ عِلْمُ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَلَمْ يَكُنْ عِلْمُ الْمَخْلُوقِ كَعِلْمِ الْخَالِقِ وَإِذَا أُضِيفَ إلَى الْخَالِقِ كَقَوْلِهِ : { أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ } لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ عِلْمُ الْمَخْلُوقِينَ وَلَمْ يَكُنْ عِلْمُهُ كَعِلْمِهِمْ . وَإِذَا قِيلَ : الْعِلْمُ مُطْلَقًا أَمْكَنَ تَقْسِيمُهُ فَيُقَالُ : الْعِلْمُ يَنْقَسِمُ إلَى الْعِلْمِ الْقَدِيمِ وَالْعِلْمِ الْمُحْدَثِ ; فَلَفْظُ الْعِلْمِ عَامٌّ فِيهِمَا مُتَنَاوِلٌ لَهُمَا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : الْوُجُودُ يَنْقَسِمُ إلَى قَدِيمٍ وَمُحْدَثٍ وَوَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ ; وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ فِي الِاسْتِوَاءِ : يَنْقَسِمُ إلَى اسْتِوَاءِ الْخَالِقِ وَاسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقِ ; وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : الْإِرَادَةُ وَالرَّحْمَةُ وَالْهِبَةُ تَنْقَسِمُ إلَى إرَادَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَإِرَادَةِ الْعَبْدِ وَمَحَبَّتِهِ وَرَحْمَتِهِ . فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ " الْحَقِيقَةَ " إنَّمَا تَتَنَاوَلُ صِفَةَ الْعَبْدِ الْمَخْلُوقَةَ الْمُحْدَثَةَ دُونَ صِفَةِ الْخَالِقِ كَانَ فِي غَايَةِ الْجَهْلِ ; فَإِنَّ صِفَةَ اللَّهِ أَكْمَلُ وَأَتَمُّ وَأَحَقُّ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى فَلَا نِسْبَةَ بَيْنَ صِفَةِ الْعَبْدِ وَصِفَةِ الرَّبِّ كَمَا لَا نِسْبَةَ بَيْنَ ذَاتِهِ وَذَاتِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ الْعَبْدُ مُسْتَحِقًّا لِلْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى حَقِيقَةً : فَيَسْتَحِقُّ أَنْ يُقَالَ لَهُ : عَالِمٌ قَادِرٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ; وَالرَّبُّ لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ إلَّا مَجَازًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ كَمَالٍ حَصَلَ لِلْمَخْلُوقِ فَهُوَ مِنْ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى ; فَكُلُّ كَمَالٍ حَصَلَ لِلْمَخْلُوقِ فَالْخَالِقُ أَحَقُّ بِهِ ; وَكُلُّ نَقْصٍ تَنَزَّهَ عَنْهُ الْمَخْلُوقُ فَالْخَالِقُ أَحَقُّ أَنْ يُنَزَّهَ عَنْهُ ; وَلِهَذَا كَانَ اللَّهُ " الْمَثَلُ الْأَعْلَى " فَإِنَّهُ لَا يُقَاسُ بِخَلْقِهِ وَلَا يُمَثَّلُ بِهِمْ وَلَا تُضْرَبُ لَهُ الْأَمْثَالُ . فَلَا يَشْتَرِكُ هُوَ وَالْمَخْلُوقُ فِي قِيَاسِ تَمْثِيلٍ بِمَثَلِ ; وَلَا فِي قِيَاسِ شُمُولٍ تَسْتَوِي أَفْرَادُهُ بَلْ { وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُسَمِّي هَذِهِ الْأَسْمَاءَ " الْمُشَكِّكَةَ " لِكَوْنِ الْمَعْنَى فِي أَحَدِ الْمَحَلَّيْنِ أَكْمَلَ مِنْهُ فِي الْآخَرِ فَإِنَّ الْوُجُودَ بِالْوَاجِبِ أَحَقُّ مِنْهُ بِالْمُمْكِنِ وَالْبَيَاضَ بِالثَّلْجِ أَحَقُّ مِنْهُ بِالْعَاجِ وَأَسْمَاؤُهُ وَصِفَاتُهُ مِنْ هَذَا الْبَابِ ; فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُوصَفُ بِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُمَاثِلُ أَحَدًا مِنْ الْمَخْلُوقِينَ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ كُلِّ قِسْمَيْنِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا وَذَلِكَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ هُوَ مُسَمَّى اللَّفْظِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَإِذَا قُيِّدَ بِأَحَدِ الْمَحَلَّيْنِ تَقَيَّدَ بِهِ . فَإِذَا قِيلَ : وُجُودٌ وَمَاهِيَّةٌ وَذَاتٌ كَانَ هَذَا الِاسْمُ مُتَنَاوِلًا لِلْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ وَإِنْ كَانَ الْخَالِقُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ الْمَخْلُوقِ وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا . فَإِذَا قِيلَ : وُجُودُ اللَّهِ وَمَاهِيَّتُهُ وَذَاتُهُ اخْتَصَّ هَذَا بِاَللَّهِ ; وَلَمْ يَبْقَ لِلْمَخْلُوقِ دُخُولٌ فِي هَذَا الْمُسَمَّى وَكَانَ حَقِيقَةً لِلَّهِ وَحْدَهُ . وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ وُجُودُ الْمَخْلُوقِ وَذَاتُهُ اخْتَصَّ ذَلِكَ بِالْمَخْلُوقِ وَكَانَ حَقِيقَةً لِلْمَخْلُوقِ . فَإِذَا قِيلَ : وُجُودُ الْعَبْدِ وَمَاهِيَّتُهُ وَحَقِيقَتُهُ لَمْ يَدْخُلْ الْخَالِقُ فِي هَذَا الْمُسَمَّى وَكَانَ حَقِيقَةً لِلْمَخْلُوقِ وَحْدَهُ . وَالْجَاهِلُ يَظُنُّ أَنَّ اسْمَ الْحَقِيقَةِ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْمَخْلُوقَ وَحْدَهُ وَهَذَا ضَلَالٌ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ فِي " الْعُقُولِ " وَ " الشَّرَائِعِ " و " اللُّغَاتِ " فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ بَيْنَ كُلِّ مَوْجُودَيْنِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا وَقَدْرًا مُمَيَّزًا وَالدَّالُّ عَلَى مَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ وَحْدَهُ لَا يَسْتَلْزِمُ مَا بِهِ الِامْتِيَازَ وَمَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ اللَّهَ مُسْتَحِقٌّ لِلْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَقَدْ سَمَّى بَعْضَ عِبَادِهِ بِبَعْضِ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ كَمَا سَمَّى الْعَبْدَ سَمِيعًا بَصِيرًا وَحَيًّا وَعَلِيمًا وَحَكِيمًا وَرَءُوفًا رَحِيمًا وَمَلِكًا وَعَزِيزًا وَمُؤْمِنًا وَكَرِيمًا وَغَيْرَ ذَلِكَ . مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الِاتِّفَاقَ فِي الِاسْمِ لَا يُوجِبُ مُمَاثِلَةَ الْخَالِقِ بِالْمَخْلُوقِ وَإِنَّمَا يُوجِبُ الدَّلَالَةَ عَلَى أَنَّ بَيْنَ الْمُسَمَّيَيْنِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا فَقَطْ ; مَعَ أَنَّ الْمُمَيِّزَ الْفَارِقَ أَعْظَمُ مِنْ الْمُشْتَرَكِ الْجَامِعِ . وَأَمَّا " اللُّغَاتُ " فَإِنَّ جَمِيعَ أَهْلِ اللُّغَاتِ - مِنْ الْعَرَبِ وَالرُّومِ وَالْفُرْسِ وَالتُّرْكِ وَالْبَرْبَرِ وَغَيْرِهِمْ - يَقَعُ مِثْلُ هَذَا فِي لُغَاتِهِمْ وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي لُغَاتِ جَمِيعِ الْأُمَمِ ; بَلْ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَحَقُّ بِأَنْ يَكُونَ قَادِرًا فَاعِلًا مِنْ الْعَبْدِ ; وَأَنَّ اسْتِحْقَاقَ اسْمِ الرَّبِّ الْقَادِرِ لَهُ حَقِيقَةٌ أَعْظَمُ مِنْ اسْتِحْقَاقِ الْعَبْدِ لِذَلِكَ وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى .