سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رُكْنُ الشَّرِيعَةِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ تيمية - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ : - عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا } هَلْ الِاسْتِوَاءُ وَالنُّزُولُ حَقِيقَةً أَمْ لَا ؟ وَمَا مَعْنَى كَوْنِهِ حَقِيقَةً ؟ وَهَلْ الْحَقِيقَةُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِيمَا وُضِعَ لَهُ كَمَا يَقُولُهُ الْأُصُولِيُّونَ أَمْ لَا ؟ وَمَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ آيَاتِ الصِّفَاتِ حَقِيقَةً ؟ .
( الْوَجْهُ الثَّانِي ) فِي بَيَانِ بُطْلَانِ مَا ذَكَرَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ أَنْ يُقَالَ : إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ شَيْءٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ : لَا أَجْسَادَ الْآدَمِيِّينَ وَلَا أَرْوَاحَهُمْ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ ; فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مَنْ جِنْسِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِحَيْثُ تَكُونُ حَقِيقَتُهُ كَحَقِيقَتِهِ لَلَزِمَ أَنْ يَجُوزَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا مَا يَجُوزُ عَلَى الْآخَرِ وَيَجِبُ لَهُ مَا يَجِبُ لَهُ وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ مَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ ; لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ الْقَدِيمُ الْوَاجِبُ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ ; غَيْرَ قَدِيمٍ وَاجِبِ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ وَأَنْ يَكُونَ الْمَخْلُوقُ الَّذِي يَمْتَنِعُ غِنَاهُ غَنِيًّا يَمْتَنِعُ افْتِقَارُهُ إلَى الْخَالِقِ ; وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْمُتَنَاقِضَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى نَزَّهَ نَفْسَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ كُفُؤٌ أَوْ مِثْلٌ أَوْ سَمِيٌّ أَوْ نِدٌّ . فَهَذِهِ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ يُعْلَمُ بِهَا تَنَزُّهُ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ أَجْسَادِ الْآدَمِيِّينَ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ ; لَكِنَّ الْمُسْتَدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ } اسْتَدَلَّ بِحُجَّةِ ضَعِيفَةٍ فَإِنَّ " الْجَسَدَ " وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ : إنَّ الْجَسَدَ هُوَ الْبَدَنُ يُقَالُ مِنْهُ تَجَسَّدَ كَمَا يُقَالُ : مِنْ الْجِسْمِ تَجَسَّمَ وَالْجَسَدُ أَيْضًا الزَّعْفَرَانُ وَنَحْوُهُ مِنْ الصَّبْغِ وَهُوَ الدَّمُ أَيْضًا . كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ : وَمَا أُرِيقَ عَلَى الْأَصْنَامِ مِنْ جَسَدٍ فَلَيْسَ الْمُرَاد بِالْجَسَدِ فِي الْقُرْآنِ لَا هَذَا وَلَا هَذَا فَلَيْسَ الْمُرَاد مِنْ الْعِجْلِ أَنَّ لَهُ بَدَنًا مِثْلُ بَدَنِ الْآدَمِيِّينَ وَلَا بَدَنًا كَأَبْدَانِ الْبَقَرِ فَإِنَّ الْعِجْلَ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَالْعَرَبُ تَقُولُ جَسِدَ بِهِ الدَّمُ يَجْسَدُ جَسَدًا إذَا لَصِقَ بِهِ فَهُوَ جَاسِدٌ وَجَسِدٌ . قَالَ الشَّاعِر : - سَاعِدٌ بِهِ جَسِدٌ مُوَرَّسُ مِنْ الدِّمَاءِ مَائِعٌ وَيَبِسُ وَالْجَسَدُ الْأَحْمَرُ وَالْجَسَدُ مَا أُشْبِعَ صَبْغُهُ مِنْ الثِّيَابِ ; لِكَمَالِ مَا لَصِقَ بِهِ مِنْ الصَّبْغِ فَاللَّفْظُ فِيهِ مَعْنَى التَّكَاثُفِ وَالتَّلَاصُقِ ; وَلِهَذَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ نَجَاسَةٌ مُتَجَسِّدَةٌ وَغَيْرُ مُتَجَسِّدَةٍ وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ يُرَادُ بِهِ الْجَسَدُ الْمُصْمَتُ الْمُتَلَاصِقُ الْمُتَكَاثِفُ أَوْ الَّذِي لَا حَيَاةَ فِيهِ . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَفْظَةَ الْجَسَدِ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ . فَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ } وَقَالَ : { وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ } كَأَنَّهُ عِجْلٌ مُصْمَتٌ لَا جَوْفَ لَهُ . وَقَدْ يُقَالُ : إنَّهُ لَا حَيَاةَ فِيهِ خَارَ خورة . وَلَمْ يَقُلْ عِجْلًا لَهُ جَسَدٌ لَهُ بَدَنٌ لَهُ جِسْمٌ ; لِأَنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلَّ عِجْلٍ لَهُ جَسَدٌ هُوَ بَدَنُهُ وَهُوَ جِسْمُهُ وَالْعِجْلُ الْمَعْرُوفُ جَسَدٌ فِيهِ رُوحٌ . وَالْمَقْصُودُ : أَنَّ مَا أَخْرَجَهُ كَانَ جَسَدًا مُصْمَتًا لَا رُوحَ فِيهِ حَتَّى تَبَيَّنَ نَقْصُهُ وَأَنَّهُ كَانَ مَسْلُوبَ الْحَيَاةِ وَالْحَرَكَةِ . وَقَدْ رُوِيَ : أَنَّهُ إنَّمَا خَارَ خورة وَاحِدَةً وَقَدْ يُقَالُ : إنْ أُرِيدَ بِالْجَسَدِ الْمُصْمَتُ أَوْ الْغَلِيظُ وَنَحْوُهُ فَلِمَ قِيلَ إنَّ ذَلِكَ ذَكَرَ لِبَيَانِ نَقْصِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ; بَلْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ضَلُّوا بِهِ وَإِنَّمَا كَانَ النَّقْصُ مِنْ جِهَةِ { أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا } وَقَدْ يُقَالُ : إذَا كَانَ لَا حَيَاةَ فِيهِ فَالنَّقْصُ كَانَ فِيهِ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ الْحَيَاةِ وَغَيْرِهَا مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ ; لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ لَهُ بَدَنٌ أَوْ لَيْسَ لَهُ بَدَنٌ ; فَالْآدَمِيُّ لَهُ بَدَنٌ . وَلَوْ أَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا كَسَائِرِ الْعُجُولِ أَوْ آدَمِيًّا كَامِلًا أَوْ فَرَسًا حَيًّا أَوْ جَمَلًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْحَيَوَانِ : لَكَانَ أَيْضًا لَهُ بَدَنٌ وَلَكِنَّ ذَلِكَ أُعْجُوبَةٌ عَظِيمَةٌ وَكَانَتْ الْفِتْنَةُ بِهِ أَشَدَّ ; وَلَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ أَنَّ الْمُخْرَجَ كَانَ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ النَّقْصِ يُحَقِّقُ ذَلِكَ . ( الْوَجْهُ الثَّالِثُ ) : وَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ : { أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا } فَلَمْ يَذْكُرْ فِيمَا عَابَهُ بِهِ كَوْنَهُ ذَا جَسَدٍ ; وَلَكِنْ ذَكَرَ فِيمَا عَابَهُ بِهِ { أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا } وَلَوْ كَانَ مُجَرَّدَ كَوْنِهِ ذَا بَدَنٍ عَيْبًا وَنَقْصًا لَذَكَرَ ذَلِكَ . فَعُلِمَ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى نَقْصِ حُجَّةِ مَنْ يَحْتَجُّ بِهَا عَلَى أَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ ذَا بَدَنٍ عَيْبًا وَنَقْصًا وَهَذِهِ الْحُجَّةُ نَظِيرُ احْتِجَاجِهِمْ بِالْأُفُولِ فَإِنَّهُمْ غَيَّرُوا مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ وَجَعَلُوهُ الْحَرَكَةَ فَظَنُّوا أَنَّ إبْرَاهِيمَ احْتَجَّ بِذَلِكَ عَلَى كَوْنِهِ لَيْسَ رَبَّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ كَانَ كَمَا ذَكَرُوهُ : لَكَانَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ . ( الْوَجْهُ الرَّابِعُ ) : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ ثُمَّ قَالَ : { أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا } وَقَالَ فِي السُّورَةِ الْأُخْرَى : { فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ } { فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ } { أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا } فَلَمْ يَقْتَصِرْ فِي وَصْفِهِ عَلَى مُجَرَّدِ كَوْنِهِ جَسَدًا . بَلْ وَصَفَهُ بِأَنَّ لَهُ خُوَارًا وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا . فَالْمُوجِبُ لِنَقْصِهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعَ الصِّفَاتِ أَوْ بَعْضَهَا أَوْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا ; فَإِنْ كَانَ الْمَجْمُوعَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ نَقْصَهَا وَاحِدَةً نَقْصٌ وَإِنْ كَانَ بَعْضَهَا فَلَيْسَ كَوْنُهُ جَسَدًا بِأَوْلَى مِنْ كَوْنِهِ لَهُ خُوَارٌ . وَلَيْسَ هَذَا وَهَذَا بِأَوْلَى مِنْ كَوْنِهِ مَسْلُوبَ التَّكَلُّمِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى النَّفْعِ وَالضُّرِّ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا ; فَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ إنَّمَا ضَلُّوا بِخُوَارِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِعَدَمِ التَّكَلُّمِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى النَّفْعِ وَالضُّرِّ . ( الْوَجْهُ الْخَامِسُ ) : أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ كَوْنَهُ جَسَدًا وَكَوْنَهُ لَهُ خُوَارٌ صِفَةَ نَقْصٍ ; وَإِنَّمَا الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَنَّ كَوْنَهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى نَفْعِهِمْ وَضَرِّهِمْ نَقْصٌ يُبَيِّنُ ذَلِكَ : أَنَّ الْخُوَارَ هُوَ الصَّوْتُ وَالْإِنْسَانُ الَّذِي يُصَوِّتُ ; وَيُقَالُ : خَارَ يَخُورُ الثَّوْرُ وَهُوَ يُكَلِّمُ غَيْرَهُ وَقَدْ يَهْدِيه السَّبِيلُ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ أَنَّ صِفَاتِ الْعِجْلِ نَاقِصَةٌ عَنْ صِفَاتِ الْإِنْسَانِ الَّذِي يُكَلِّمُ غَيْرَهُ وَيَهْدِيه ; فَالْعَابِدُ أَكْمَلُ مِنْ الْمَعْبُودِ يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّهُ لَوْ كَلَّمَهُمْ لَكَانَ أَيْضًا مُصَوِّتًا فَلَوْ كَانَ ذِكْرُ الصَّوْتِ لِبَيَانِ نَقْصِهِ لَبَطَلَ الِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ } فَإِنَّ تَكْلِيمَهُ لَهُمْ لَوْ كَلَّمَهُمْ إنَّمَا كَانَ يَكُونُ بِصَوْتِ يَسْمَعُونَهُ مِنْهُ . فَعُلِمَ أَنَّ ذِكْرَ التَّصْوِيتِ لَمْ يَكُنْ لِكَوْنِهِ صِفَةَ نَقْصٍ فَكَذَلِكَ ذِكْرُ الْجَسَدِ . وَبِالْجُمْلَةِ : مَنْ ذَكَرَ أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى هَذَا وَهَذَا هُوَ الْعَيْبُ الَّذِي عَابَهُ بِهِ وَجَعَلَهُ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ إلَهِيَّتِهِ ; فَقَدْ قَالَ عَلَى الْقُرْآنِ مَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ; بَلْ هُوَ عَلَى نَقِيضِهِ أَدَلُّ . ( الْوَجْهُ السَّادِسُ ) : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ عَنْ الْخَلِيلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا } وَقَالَ تَعَالَى : { قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إذْ تَدْعُونَ } { أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ } { قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } فَاحْتَجَّ عَلَى نَفْيِ إلَهِيَّتِهَا بِكَوْنِهَا لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ ; مَعَ كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا لَهُ بَدَنٌ وَجِسْمٌ سَوَاءٌ كَانَ حَجَرًا أَوْ غَيْرَهُ . فَلَوْ كَانَ مُجَرَّدُ هَذَا الِاحْتِجَاجِ كَافِيًا لَذَكَرَهُ إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ ; بَلْ إنَّمَا احْتَجُّوا بِمِثْلِ مَا احْتَجَّ اللَّهُ بِهِ مِنْ نَفْيِ صِفَاتِ الْكَمَالِ عَنْهَا : كَالتَّكَلُّمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحَرَكَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . ( الْوَجْهُ السَّابِعُ ) : أَنْ يُقَالَ : مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى إمَّا أَنْ يَكُونَ دَالًّا عَلَى أَنَّ الْإِلَهُ سُبْحَانَهُ مَوْصُوفٌ بِبَعْضِ هَذِهِ الصِّفَاتِ ; وَإِمَّا أَنْ لَا يَدُلَّ . فَإِنْ لَمْ يَدُلَّ بَطَلَ مَا ذَكَرُوهُ ; وَإِنْ دَلَّ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى إثْبَاتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ التَّكْلِيمُ لِلْعِبَادِ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْقُدْرَةُ وَالنَّفْعُ وَالضُّرُّ . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْآيَاتُ دَلِيلًا عَلَى إثْبَاتِ الصِّفَاتِ ; لَا عَلَى نَفْيِهَا ونفاة الصِّفَاتِ إنَّمَا نَفَوْهَا لِزَعْمِهِمْ أَنَّ إثْبَاتَهَا يَقْتَضِي التَّجْسِيمَ وَالتَّجْسِيدَ . فَالْآيَاتُ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا هِيَ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ . وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ وَجَدْنَاهُ مُطَّرِدًا فِي عَامَّةِ مَا يَحْتَجُّ بِهِ نفاة الصِّفَاتِ مِنْ الْآيَاتِ فَإِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ مَطْلُوبِهِمْ لَا عَلَى مَطْلُوبِهِمْ . ( الْوَجْهُ الثَّامِنُ ) : أَنَّهُ إذَا كَانَ كُلُّ جِسْمٍ جَسَدًا وَكُلُّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ وَالْأَوْثَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ : أَجْسَامًا وَهِيَ أَجْسَادٌ فَإِنْ كَانَ اللَّهُ ذَكَرَ هَذَا فِي الْعِجْلِ لِيَنْفِيَ بِهِ عَنْهُ الْإِلَهِيَّةَ : لَزِمَ أَنْ يَطَّرِدَ هَذَا الدَّلِيلُ فِي جَمِيعِ الْمَعْبُودَاتِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا فِي غَيْرِ الْعِجْلِ : أَنَّهُ ذَكَرَ كَوْنَهُ جَسَدًا لِبَيَانِ سَبَبِ افْتِتَانِهِمْ بِهِ لَا أَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ هُوَ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ ; بَلْ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِكَوْنِهِ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا . ( الْوَجْهُ التَّاسِعُ ) : أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي الْأَعْرَافِ : { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } وَلِلنَّاسِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّهُ وَصَفَهُمْ بِهَذِهِ النَّقَائِصِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْعَابِدَ أَكْمَلُ مِنْ الْمَعْبُودِ . ( الثَّانِي ) أَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْبُودَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِنَقِيضِ هَذِهِ الصِّفَاتِ فَإِنْ قِيلَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ بِمِثْلِهِ فِي آيَةِ الْعِجْلِ . فَلَا يَكُونُ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِصِفَاتِ الْإِلَهِ ; وَإِنْ قِيلَ بِالثَّانِي : وَجَبَ أَنْ يَتَّصِفَ الرَّبُّ تَعَالَى بِمَا نَفَاهُ عَنْ الْأَصْنَامِ . وَحِينَئِذٍ : فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ أَجْسَامًا كَانَتْ هَذِهِ الدَّلَالَةُ مُعَارِضَةٌ لِمَا ذَكَرَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَجْسَامًا بَطَلَ نَفْيُهُمْ لَهَا عَنْ اللَّهِ تَعَالَى ; وَوَجَبَ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ الْأَيْدِي وَغَيْرِهَا وَلَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ أَجْسَامًا وَلَا يَكُونُ تَجْسِيمًا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا تَجْسِيمًا فَإِثْبَاتُ الْعُلُوِّ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ تَجْسِيمًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ تَجْسِيمًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الشَّرْعَ مُنَاقِضٌ لِمَا ذَكَرُوهُ . ( الْوَجْهُ الْعَاشِرُ ) : أَنْ يُقَالَ : دَلَالَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى إثْبَاتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَأَنَّهُ نَفْسُهُ فَوْقَ الْعَرْشِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ ; كَقَوْلِهِ : { إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } وَقَوْلِهِ : { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ } وَقَوْلِهِ : { تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إلَيْهِ } وَقَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ } . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ ذَلِكَ يَبْلُغُ ثَلَاثَمِائَةِ آيَةٍ وَهِيَ دَلَائِلُ جَلِيَّةٌ بَيِّنَةٌ مَفْهُومَةٌ : مِنْ الْقُرْآنِ مَعْقُولَةٌ : مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى . فَإِنْ كَانَ إثْبَاتُ هَذَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ جِسْمًا وَجَسَدًا : لَمْ يُمْكِنْ دَفْعُ مُوجِبِ هَذِهِ النُّصُوصِ بِمَا ذَكَرَ فِي قِصَّةِ الْعِجْلِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا أَنَّ مُجَرَّدَ كَوْنِهِ جَسَدًا هُوَ النَّقْصُ - الَّذِي عَابَهُ اللَّهُ وَجَعَلَهُ مَانِعًا مِنْ إلَهِيَّتِهِ - وَإِنْ كَانَ إثْبَاتُ الْعُلُوِّ وَالصِّفَاتِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا وَجَسَدًا بَطَلَ أَصْلُ كَلَامِهِمْ ; فِي - أَنَّ عُمْدَتَهُمْ - أَنَّ إثْبَاتَ الْعُلُوِّ يَقْتَضِي التَّجْسِيمَ وَالتَّجَسُّدَ ; فَإِذَا سَلَّمُوا أَنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّجْسِيمَ وَالتَّجَسُّدَ ; لَمْ يَكُنْ لَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ . وَحِينَئِذٍ فَإِذَا دَلَّتْ قِصَّةُ الْعِجْلِ أَوْ غَيْرِهَا عَلَى امْتِنَاعِ كَوْنِ الرَّبِّ تَعَالَى جَسَدًا أَوْ جِسْمًا ; لَمْ يَكُنْ بَيْنَ النُّصُوصِ مُنَافَاةٌ ; بَلْ يُوصَفُ بِأَنَّهُ نَفْسُهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَيَنْفِي عَنْهُ مَا يَجِبُ نَفْيُهُ عَنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . وَالْمَقْصُودُ : أَنَّ الشَّرْعَ لَيْسَ فِيهِ مَا يُوَافِقُ النفاة لِلْعُلُوِّ وَغَيْرِهِ مِنْ الصِّفَاتِ ; بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .