تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رُكْنُ الشَّرِيعَةِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ تيمية - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ : - عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا } هَلْ الِاسْتِوَاءُ وَالنُّزُولُ حَقِيقَةً أَمْ لَا ؟ وَمَا مَعْنَى كَوْنِهِ حَقِيقَةً ؟ وَهَلْ الْحَقِيقَةُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِيمَا وُضِعَ لَهُ كَمَا يَقُولُهُ الْأُصُولِيُّونَ أَمْ لَا ؟ وَمَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ آيَاتِ الصِّفَاتِ حَقِيقَةً ؟ .
123456
وَقَوْلُ النَّاسِ : إنَّ بَيْنَ الْمُسَمَّيَيْنِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا لَا يُرِيدُونَ بِأَنْ يَكُونَ فِي الْخَارِجِ عَنْ الْأَذْهَانِ أَمْرًا مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ ; فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ مَخْلُوقٍ وَمَخْلُوقٍ فِي الْخَارِجِ شَيْءٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَكَيْفَ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ ; وَإِنَّمَا تَوَهَّمَ هَذَا مَنْ تَوَهَّمَهُ مَنْ أَهْلِ " الْمَنْطِقِ الْيُونَانِيِّ " وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ حَتَّى ظَنُّوا أَنَّ فِي الْخَارِجِ مَاهِيَّاتٍ مُطْلَقَةً مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْأَعْيَانِ الْمَحْسُوسَةِ ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يُجَرِّدُهَا عَنْ الْأَعْيَانِ كَأَفْلَاطُونَ ; وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : لَا تَنْفَكُّ عَنْ الْأَعْيَانِ : كَأَرِسْطُو وَابْنِ سِينَا وَأَشْبَاهِهِمَا . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَّا مَا دَخَلَ عَلَى مَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الضَّلَالِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فِي " الْمَنْطِقِ وَالْإِلَهِيَّاتِ " حَتَّى إنَّ طَوَائِفَ مِنْ النُّظَّارِ قَالُوا : إنَّا إذَا قُلْنَا : إنَّ وُجُودَ الرَّبِّ عَيْنُ مَاهِيَّتِهِ - كَمَا هُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ وَمُتَكَلِّمَةِ أَهْلِ الصِّفَاتِ : كَابْنِ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِمَا - يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ " الْوُجُودِ " مَقُولًا عَلَيْهِمَا بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرازي عَنْ الْأَشْعَرِيِّ وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِمْ ; وَلَيْسَ هَذَا مَذْهَبَهُمْ ; بَلْ مَذْهَبُهُمْ : أَنَّ لَفْظَ " الْوُجُودِ " مَقُولٌ بِالتَّوَاطُؤِ وَأَنَّهُ يَنْقَسِمُ إلَى قَدِيمٍ وَمُحْدَثٍ مَعَ قَوْلِهِمْ : إنَّ وُجُودَ الرَّبِّ عَيْنُ مَاهِيَّتِهِ ; فَإِنَّ لَفْظَ الْوُجُودِ عِنْدَهُمْ كَلَفْظِ الْمَاهِيَّةِ . وَكَمَا أَنَّ الْمَاهِيَّةَ وَالذَّاتَ تَنْقَسِمُ إلَى قَدِيمَةٍ وَمُحْدَثَةٍ وَمَاهِيَّةُ الرَّبِّ عَيْنُ ذَاتِهِ فَكَذَلِكَ الْوُجُودُ يَنْقَسِمُ إلَى قَدِيمٍ وَمُحْدَثٍ وَوُجُودُ الرَّبِّ عَيْنُ ذَاتِهِ وَوُجُودُ الْعَبْدِ عَيْنُ ذَاتِهِ وَذَاتُ الشَّيْءِ هِيَ مَاهِيَّتُهُ . فَاللَّفْظُ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُتَوَاطِئَةِ وَلَكِنْ بِالْإِضَافَةِ يَخُصُّ أَحَدَ الْمُسَمَّيَيْنِ وَالْمُسَمَّيَانِ إذَا اشْتَرَكَا فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ وَالذَّاتِ وَالْمَاهِيَّةِ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا فِي الْخَارِجِ أَمْرٌ مُشْتَرَكٌ يَكُونُ زَائِدًا عَلَى خُصُوصِيَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ كَمَا يَظُنُّهُ أَرِسْطُو وَابْنُ سِينَا والرازي وَأَمْثَالُهُمْ ; بَلْ لَيْسَ فِي الْخَارِجِ وُجُودٌ مُطْلَقٌ وَلَا مَاهِيَّةٌ مُطْلَقَةٌ وَلَا ذَاتٌ مُطْلَقَةٌ . أَمَّا الْمُطْلَقُ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ فَقَدْ اتَّفَقَ هَؤُلَاءِ وَغَيْرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْجُودِ فِي الْخَارِجِ وَأَنَّ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ عَنْ أَفْلَاطُونَ وَأَتْبَاعِهِ هُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ ضَرُورَةً . وَأَمَّا الْمُطْلَقُ لَا بِشَرْطِ فَقَدْ يُظَنُّ أَنَّهُ فِي الْخَارِجِ وَأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْمُعَيَّنِ وَهَذَا غَلَطٌ ; بَلْ لَيْسَ فِي الْخَارِجِ إلَّا الْمُعَيَّنَاتِ وَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ مُطْلَقٌ يَكُونُ جُزْءُ مُعَيَّنٍ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يُرِيدُونَ بِالْجُزْءِ مَا هُوَ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لِلْمَوْصُوفِ ; بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَوْصُوفَ مُرَكَّبٌ مِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْأَجْزَاءَ الذَّاتِيَّةَ . كَمَا يَقُولُونَ : الْإِنْسَانُ مُرَكَّبٌ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالنَّاطِقِ ; أَوْ مِنْ الْحَيَوَانِيَّةِ والناطقية ; وَهَذَا التَّرْكِيبُ تَرْكِيبٌ ذِهْنِيٌّ ; فَالْمَاهِيَّةُ الْمُرَكَّبَةُ فِي الذِّهْنِ مُرَكَّبَةٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ وَهِيَ أَجْزَاءُ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ . وَأَمَّا الْحَقِيقَةُ الْمَوْجُودَةُ فِي الْخَارِجِ فَهِيَ مَوْصُوفَةٌ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ ; وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْوُجُودُ الذِّهْنِيِّ بِالْخَارِجِيِّ وَهَذَا الْغَلَطُ وَقَعَ كَثِيرًا فِي أَقْوَالِ الْمُتَفَلْسِفَةِ ; فَأَوَائِلُهُمْ كَأَصْحَابِ فيثاغورس كَانُوا يَقُولُونَ بِوُجُودِ أَعْدَادٍ مُجَرَّدَةٍ عَنْ الْمَعْدُودَاتِ فِي الْخَارِجِ ; وَأَصْحَابُ أَفْلَاطُونَ يَقُولُونَ : بِوُجُودِ الْمُثُلِ الأفلاطونية وَهِيَ الْحَقَائِقُ الْمُطْلَقَةُ عَنْ الْمُعَيَّنَاتِ فِي الْخَارِجِ . وَهَذِهِ الْحَقَائِقُ مُقَارِنَةٌ لِلْمُعَيَّنَاتِ فِي الْخَارِجِ كَمَا أَثْبَتُوا جَوَاهِرَ عَقْلِيَّةً ; وَهِيَ الْمُجَرَّدَاتُ : كَالْمَادَّةِ وَالْهَيُولَى ; وَالْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ تَفْرِيقُهُمْ بَيْنَ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِلْمَاهِيَّةِ الَّتِي تَتَرَكَّبُ مِنْهَا الْأَنْوَاعُ وَيُسَمُّونَهَا الْأَجْنَاسَ وَالْفُصُولَ ; وَبَيْنَ الصِّفَاتِ الْعَارِضَةِ اللَّازِمَةِ لِلْمَاهِيَّةِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا خَوَّاصًا وَأَعْرَاضًا عَامَّةً ; وَهَذِهِ الْخَمْسَةُ هِيَ الْكُلِّيَّاتُ وَهِيَ الْجِنْسُ وَالْفَصْلُ وَالنَّوْعُ وَالْعَرَضُ الْعَامُّ وَالْخَاصَّةُ وَقَدْ وَقَعَ بِسَبَبِ ذَلِكَ مِنْ الْغَلَطِ فِي " مَنْطِقِهِمْ " وَفِي " الْإِلَهِيَّاتِ " مَا ضَلَّ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ الْخَلْقِ ; وَقَدْ نَبَّهْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَا لَا يَتَّسِعُ لَهُ هَذَا الْمَوْضِعُ ; وَلِهَذَا كَانَ لَفْظُ الْمُرَكَّبِ عِنْدَهُمْ يُقَالُ عَلَى خَمْسَةِ مَعَانٍ : عَلَى الْمُرَكَّبِ مِنْ الْوُجُودِ وَالْمَاهِيَّةِ وَالْمُرَكَّبِ مِنْ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْمُرَكَّبِ مِنْ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ وَالْمُرَكَّبِ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ وَالْقَائِلُونَ بِالْجَوْهَرِ الْفَرْدِ يُثْبِتُونَ التَّرْكِيبَ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ . وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ أَنَّ تَسْمِيَةَ مِثْلِ هَذِهِ الْمَعَانِي تَرْكِيبًا أَمْرٌ اصْطِلَاحِيٌّ وَهُوَ إمَّا أَمْرٌ ذِهْنِيٌّ لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْخَارِجِ وَإِمَّا أَنْ يَعُودَ إلَى صِفَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ قَائِمَةٍ بِالْمَوْصُوفِ وَهَذَا حَقٌّ . فَإِنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ : إثْبَاتُ الصِّفَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى ; بَلْ صِفَاتُ الْكَمَالِ لَازِمَةٌ لِذَاتِهِ يَمْتَنِعُ ثُبُوتُ ذَاتِهِ بِدُونِ صِفَاتِ الْكَمَالِ اللَّازِمَةِ لَهُ ; بَلْ يَمْتَنِعُ تَحَقُّقُ ذَاتٍ مِنْ الذَّوَاتِ عَرِيَّةً عَنْ جَمِيعِ الصِّفَاتِ وَهَذَا كُلُّهُ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّهُ إذَا قِيلَ هَذَا إنْسَانٌ فَالْمُشَارُ إلَيْهِ بِهَذَا الْمُسَمَّى بِإِنْسَانِ ; وَلَيْسَ الْإِنْسَانُ الْمُطْلَقُ جُزْءًا مِنْ هَذَا وَلَيْسَ الْإِنْسَانُ هُنَا إلَّا مُقَيَّدًا وَإِنَّمَا يُوجَدُ مُطْلَقًا فِي الذِّهْنِ ; لَا فِي الْخَارِجِ . وَإِذَا قِيلَ هَذَا فِي الْإِنْسَانِيَّةِ فَالْمَعْنَى أَنَّ بَيْنَهُمَا تَشَابُهًا فِيهَا ; لَا أَنَّ هُنَاكَ شَيْئًا مَوْجُودًا فِي الْأَعْيَانِ يَشْتَرِكَانِ فِيهِ . فَلْيَتَدَبَّرْ اللَّبِيبُ هَذَا فَإِنَّهُ يَحُلُّ شُبُهَاتٍ كَثِيرَةً وَمَنْ فَهِمَ هَذَا الْمَوْضِعَ تَبَيَّنَ لَهُ غَلَطُ مَنْ جَعَلَ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ مَقُولَةً بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ لَا الْمَعْنَوِيِّ وَغَلَطُ مَنْ جَعَلَ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى أَعْلَامًا مَحْضَةً لَا تَدُلُّ عَلَى مَعَانٍ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ فِي الْخَارِجِ حَقَائِقَ مُطْلَقَةً يَشْتَرِكُ فِيهَا الْأَعْيَانُ وَعَلِمَ أَنَّ مَا يَسْتَحِقُّ الرَّبُّ لِنَفْسِهِ لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرَهُ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ وَلَا يُمَاثِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فِي شَيْءٍ مِنْ الصِّفَاتِ . وَأَمَّا الْمَخْلُوقُ فَقَدْ يُمَاثِلُهُ غَيْرُهُ فِي صِفَاتِهِ لَكِنْ لَا يُشْرِكُهُ فِي غَيْرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْهَا وَالْأَسْمَاءُ الْمُتَوَاطِئَةُ الْمَقُولَةُ عَلَى هَذَا وَهَذَا حَقِيقَةٌ فِي هَذَا وَهَذَا . فَإِذَا كَانَتْ عَامَّةً لَهُمَا تَنَاوَلَتْهُمَا وَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً لَمْ يَمْنَعْ تَصَوُّرُهُمَا مِنْ اشْتِرَاكِهِمَا فِيهَا وَإِنْ كَانَتْ مُقَيَّدَةً اخْتَصَّتْ بِمَحَلِّهَا . فَإِذَا قَالَ : وُجُودُ اللَّهِ وَذَاتُ اللَّهِ وَعِلْمُ اللَّهِ وَقُدْرَةُ اللَّهِ وَسَمْعُ اللَّهِ وَبَصَرُ اللَّهِ وَإِرَادَةُ اللَّهِ . وَكَلَامُ اللَّهِ ; وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَغَضَبُ اللَّهِ وَاسْتِوَاءُ اللَّهِ وَنُزُولُ اللَّهِ وَمَحَبَّةُ اللَّهِ ; وَإِرَادَةُ اللَّهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ كَانَتْ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ كُلُّهَا حَقِيقَةً لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يُمَاثِلَهُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ . وَإِذَا قَالَ : وُجُودُ الْعَبْدِ وَذَاتُهُ وَمَاهِيَّتُهُ وَعِلْمُهُ وَقُدْرَتُهُ وَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَكَلَامُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ ; وَنُزُولُهُ : كَانَ هَذَا حَقِيقَةٌ لِلْعَبْدِ مُخْتَصَّةٌ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُمَاثِلَ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى . بَلْ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّ فِي الْجَنَّةِ مِنْ الْمَطَاعِمِ وَالْمُشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ والمناكح مَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِهِ كَمَا أَخْبَرَ أَنَّ فِيهَا لَبَنًا ; وَعَسَلًا وَخَمْرًا وَلَحْمًا ; وَحَرِيرًا وَذَهَبًا وَفِضَّةً وَحُورًا وَقُصُورًا وَنَحْوَ ذَلِكَ وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْجَنَّةِ إلَّا الْأَسْمَاءُ . فَتِلْكَ الْحَقَائِقُ الَّتِي فِي الْآخِرَةِ لَيْسَتْ مُمَاثِلَةً لِهَذِهِ الْحَقَائِقِ الَّتِي فِي الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَتْ مُشَابِهَةً لَهَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَالِاسْمِ يَتَنَاوَلُهَا حَقِيقَةً . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَالِقَ أَبْعَدُ عَنْ مُشَابَهَةِ الْمَخْلُوقِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ فِيمَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ مُمَاثِلًا لِمَخْلُوقَاتِهِ ؟ وَأَنْ يُقَالَ : لَيْسَ ذَلِكَ بِحَقِيقَةِ وَهَلْ يَكُونُ أَحَقُّ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْعُلْيَا مِنْ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَعَ أَنَّ مُبَايَنَتَهُ لِلْمَخْلُوقَاتِ أَعْظَمُ مِنْ مُبَايَنَةِ كُلِّ مَخْلُوقٍ . وَالْجَاهِلُ يَضِلُّ بِقَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ : إنَّ الْعَرَبَ وَضَعُوا لَفْظَ الِاسْتِوَاءِ لِاسْتِوَاءِ الْإِنْسَانِ عَلَى الْمَنْزِلِ أَوْ الْفُلْكِ أَوْ اسْتِوَاءِ السَّفِينَةِ عَلَى الْجُودِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ اسْتِوَاءِ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ فَهَذَا كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ : إنَّمَا وَضَعُوا لَفْظَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ لِمَا يَكُونُ مَحَلُّهُ حَدَقَةً وَأَجْفَانًا وَأَصْمِخَةً وَأُذُنًا وَشَفَتَيْنِ وَهَذَا ضَلَالٌ فِي الشَّرْعِ وَكَذِبٌ وَإِنَّمَا وَضَعُوا لَفْظَ الرَّحْمَةِ وَالْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ لِمَا يَكُونُ مَحَلُّهُ مُضْغَةَ لَحْمٍ وَفُؤَادٍ وَهَذَا كُلُّهُ جَهْلٌ مِنْهُ . فَإِنَّ الْعَرَبَ إنَّمَا وَضَعَتْ لِلْإِنْسَانِ مَا أَضَافَتْهُ إلَيْهِ فَإِذَا قَالَتْ : سَمْعُ الْعَبْدِ وَبَصَرُهُ وَكَلَامُهُ وَعِلْمُهُ وَإِرَادَتُهُ وَرَحْمَتُهُ فَمَا يَخُصُّ بِهِ يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ خَصَائِصَ الْعَبْدِ . وَإِذَا قِيلَ : سَمْعُ اللَّهِ وَبَصَرُهُ وَكَلَامُهُ وَعَمَلُهُ وَإِرَادَتُهُ وَرَحْمَتُهُ كَانَ هَذَا مُتَنَاوِلًا لِمَا يُخَصُّ بِهِ الرَّبُّ لَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ خَصَائِصِ الْمَخْلُوقِينَ فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ هَذَا الِاسْتِوَاءَ إذَا كَانَ حَقِيقَةً يَتَنَاوَلُ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ مَعَ كَوْنِ النَّصِّ قَدْ خَصَّهُ بِاَللَّهِ كَانَ جَاهِلًا جِدًّا بِدَلَالَاتِ اللُّغَاتِ وَمَعْرِفَةِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ . وَهَؤُلَاءِ الْجُهَّالُ يُمَثِّلُونَ فِي ابْتِدَاءِ فَهْمِهِمْ صِفَاتِ الْخَالِقِ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِ : ثُمَّ يَنْفُونَ ذَلِكَ وَيُعَطِّلُونَهُ فَلَا يَفْهَمُونَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا مَا يَخْتَصُّ بِالْمَخْلُوقِ وَيَنْفُونَ مَضْمُونَ ذَلِكَ وَيَكُونُونَ قَدْ جَحَدُوا مَا يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ مِنْ خَصَائِصِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَلْحَدُوا فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ وَخَرَجُوا عَنْ الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ وَالنَّصِّ الشَّرْعِيِّ فَلَا يَبْقَى بِأَيْدِيهِمْ لَا مَعْقُولٌ صَرِيحٌ وَلَا مَنْقُولٌ صَحِيحٌ ثُمَّ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ إثْبَاتِ بَعْضِ مَا يُثْبِتُهُ أَهْلُ الْإِثْبَاتِ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ فَإِذَا أَثْبَتُوا الْبَعْضَ وَنَفَوْا الْبَعْضَ قِيلَ لَهُمْ : مَا الْفَرْقُ بَيْنَ مِمَّا أَثْبَتُّمُوهُ وَنَفَيْتُمُوهُ ؟ وَلِمَ كَانَ هَذَا حَقِيقَةً وَلَمْ يَكُنْ هَذَا حَقِيقَةً ؟ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَوَابٌ أَصْلًا وَظَهَرَ بِذَلِكَ جَهْلُهُمْ وَضَلَالُهُمْ شَرْعًا وَقَدْرًا . وَقَدْ تَدَبَّرْت كَلَامَ عَامَّةِ مَنْ يَنْفِي شَيْئًا مِمَّا أَثْبَتَهُ الرُّسُلُ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ فَوَجَدْتهمْ كُلَّهُمْ مُتَنَاقِضِينَ ; فَإِنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ لِمَا نَفَوْهُ بِنَظِيرِ مَا يَحْتَجُّ بِهِ النَّافِي لِمَا أَثْبَتُوهُ ; فَيَلْزَمُهُمْ إمَّا إثْبَاتُ الْأَمْرَيْنِ وَإِمَّا نَفْيُهُمَا ; فَإِذَا نَفَوْهُمَا فَلَا بُدَّ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا بِالْوَاجِبِ الْوُجُودِ وَعَدَمِهِ جَمِيعًا وَهَذَا نِهَايَةُ هَؤُلَاءِ النفاة الْمَلَاحِدَةِ الْغُلَاةِ مِنْ الْقَرَامِطَةِ وَغُلَاةِ الْمُتَفَلْسِفَةِ ; فَإِنَّهُمْ إذَا أَخَذُوا يَنْفُونَ النَّقِيضَيْنِ جَمِيعًا ; فَالنَّقِيضَانِ كَمَا أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ ; فَلَا يَرْتَفِعَانِ . وَمِنْ جِهَةِ إنَّ مَا يَسْلُبُونَ عَنْهُ النَّقِيضَيْنِ لَا بُدَّ أَنْ يَتَصَوَّرُوهُ وَأَنْ يُعَبِّرُوا عَنْهُ ; فَإِنَّ التَّصْدِيقَ مَسْبُوقٌ بِالتَّصَوُّرِ وَمَتَى تَصَوَّرُوهُ وَعَبَّرُوا عَنْهُ كَقَوْلِهِمْ الثَّابِتِ وَالْوَاجِبِ أَوْ أَيُّ شَيْءٍ قَالُوهُ لَزِمَهُمْ فِيهِ مِنْ إثْبَاتِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ نَظِيرُ مَا يَلْزَمُهُمْ فِيمَا نَفَوْهُ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُتَصَوَّرُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مَعَ قَوْلِهِمْ : أَسْمَاءُ اللَّهِ مَقُولَةٌ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ فَقَطْ . فَإِنَّ الْمُشْتَرِكِينَ اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا لَا مَعْنَوِيًّا كَلَفْظِ الْمُشْتَرَى الْمَقُولِ عَلَى الْكَوْكَبِ وَالْمُبْتَاعِ وَسُهَيْلٍ الْمَقُولِ عَلَى الْكَوْكَبِ وَعَلَى ابْنِ عَمْرٍو فَإِنَّهُ إذَا سَمِعَ الْمُسْتَمِعُ قَائِلًا يَقُولُ لَهُ : جَاءَنِي سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَهَذَا هُوَ الْمُشْتَرِي لِهَذِهِ السِّلْعَةِ لَمْ يَفْهَمْ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ كَوْكَبًا أَصْلًا إلَّا أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ لَهُ فَإِذَا لَمْ تَكُنْ أَسْمَاؤُهُ مُتَوَاطِئَةً لَمْ يَفْهَمْ الْعِبَادُ مِنْ أَسْمَائِهِ شَيْئًا أَصْلًا إلَّا أَنْ يَعْرِفُوا مَا يَخُصُّ ذَاتَهُ وَهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا مَا يَخُصُّ ذَاتَهُ فَلَمْ يَعْرِفُوا شَيْئًا .