سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رُكْنُ الشَّرِيعَةِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ تيمية - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ : - عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا } هَلْ الِاسْتِوَاءُ وَالنُّزُولُ حَقِيقَةً أَمْ لَا ؟ وَمَا مَعْنَى كَوْنِهِ حَقِيقَةً ؟ وَهَلْ الْحَقِيقَةُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِيمَا وُضِعَ لَهُ كَمَا يَقُولُهُ الْأُصُولِيُّونَ أَمْ لَا ؟ وَمَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ آيَاتِ الصِّفَاتِ حَقِيقَةً ؟ .
ثُمَّ إنَّ الْعِلْمَ بِانْقِسَامِ الْوُجُودِ إلَى قَدِيمٍ وَمُحْدَثٍ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ فَالْقَادِحُ سوفسطائي . وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ بِأَنَّ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ . وَإِذَا قِيلَ : إنَّ اللَّفْظَ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا لَمْ يَحْتَجْ ذَلِكَ إلَى أَنْ يَكُونَ أَهْلُ اللُّغَةِ قَدْ تَكَلَّمُوا بِاللَّفْظِ مُطْلَقًا فَعَبَّرُوا عَنْ الْمَعْنَى الْمُطْلَقِ الْمُشْتَرَكِ ; فَإِنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي لَا تَكُونُ إلَّا مُضَافَةً إلَى غَيْرِهَا : كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالِاسْتِوَاءِ ; بَلْ وَالْيَدُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَكُونُ إلَّا صِفَةً قَائِمَةً بِغَيْرِهِ أَوْ جِسْمًا قَائِمًا بِغَيْرِهِ بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ مُجَرَّدًا عَنْ مَحَلِّهِ . وَلَكِنَّ أَهْلَ النَّظَرِ لَمَّا أَرَادُوا تَجْرِيدَ الْمَعَانِي الْكُلِّيَّةِ الْمُطْلَقَةِ عَبَّرُوا عَنْهَا بِالْأَلْفَاظِ الْكُلِّيَّةِ الْمُطْلَقَةِ وَأَهْلُ اللُّغَةِ فِي ابْتِدَاءِ خِطَابِهِمْ يَقُولُونَ - مَثَلًا - : جَاءَ زَيْدٌ وَهَذَا وَجْهُ زَيْدٍ ; وَيُشِيرُونَ إلَى مَا قَامَ بِهِ مِنْ الْمَجِيءِ وَالْوَجْهِ فَيَفْهَمُ الْمُخَاطَبُ ذَلِكَ . ثُمَّ يَقُولُونَ تَارَةً أُخْرَى : جَاءَ عَمْرٌو وَرَأَيْت وَجْهَ عَمْرٍو وَجَاءَ الْفَرَسُ وَرَأَيْت وَجْهَ الْفَرَسِ فَيَفْهَمُ الْمُسْتَمِعُ أَنَّ بَيْنَ هَذِهِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا وَقَدْرًا مُمَيَّزًا وَأَنَّ لِعَمْرٍو مَجِيئًا وَوَجْهًا نِسْبَتُهُ إلَيْهِ كَنِسْبَةِ مَجِيءِ زَيْدٍ وَوَجْهِهِ إلَيْهِ فَإِذَا عُلِمَ أَنَّ عَمْرًا مِثْلُ زَيْدٍ عُلِمَ أَنَّ مَجِيئَهُ مِثْلُ مَجِيئِهِ وَوَجْهَهُ مِثْلُ وَجْهِهِ وَإِنْ عُلِمَ أَنَّ الْفَرَسَ لَيْسَتْ مِثْلُ زَيْدٍ بَلْ تُشَابِهُهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ عُلِمَ أَنَّ مَجِيئَهَا وَوَجْهَهَا لَيْسَ مَجِيءَ زَيْدٍ وَوَجْهَهُ بَلْ تُشْبِهُهُ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ . وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : جَاءَتْ الْمَلَائِكَةُ وَرَأَتْ الْأَنْبِيَاءُ وُجُوهَ الْمَلَائِكَةِ عُلِمَ أَنَّ لِلْمَلَائِكَةِ مَجِيئًا وَوُجُوهًا نِسْبَتُهَا إلَيْهَا كَنِسْبَةِ مَجِيءِ الْإِنْسَانِ وَوَجْهِهِ إلَيْهِ ثُمَّ مَعْرِفَتُهُ بِحَقِيقَةِ ذَلِكَ تَبَعُ مَعْرِفَتِهِ بِحَقِيقَةِ الْمَلَائِكَةِ ; فَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ الْمَلَائِكَةَ : إلَّا مِنْ جِهَةِ الْجُمْلَةِ وَلَا يُتَصَوَّرُ كَيْفِيَّتَهُمْ كَانَ ذَلِكَ فِي مَجِيئِهِمْ وَوُجُوهِهِمْ لَا يَعْرِفُهَا إلَّا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ وَلَا يُتَصَوَّرُ كَيْفِيَّتُهَا . وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : جَاءَتْ الْجِنُّ فَاللَّفْظُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ يَدُلُّ عَلَى مَعَانِيهَا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ بَلْ إذَا قِيلَ : حَقِيقَةُ الْمَلَكِ وَمَاهِيَّتُهُ لَيْسَتْ مِثْلَ حَقِيقَةِ الْجِنِّيِّ وَمَاهِيَّتِهِ كَانَ لَفْظُ الْحَقِيقَةِ وَالْمَاهِيَّةِ مُسْتَعْمَلًا فِيهِمَا عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ وَكَانَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُتَوَاطِئَةِ مَعَ أَنَّ الْمُسَمَّيَاتِ قَدْ صَرَّحَ فِيهَا بِنَفْيِ التَّمَاثُلِ . وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ خَمْرُ الدُّنْيَا لَيْسَ كَمِثْلِ خَمْرِ الْآخِرَةِ وَلَا ذَهَبُهَا مِثْلُ ذَهَبِهَا وَلَا لَبَنُهَا مِثْلُ لَبَنِهَا وَلَا عَسَلُهَا مِثْلُ عَسَلِهَا كَانَ قَدْ صَرَّحَ فِي ذَلِكَ بِنَفْيِ التَّمَاثُلِ مَعَ أَنَّ الِاسْمَ مُسْتَعْمَلٌ فِيهَا عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ . وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ ; فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ الْقَائِلُ : هَذَا الْمَخْلُوقُ مَا هُوَ مِثْلُ هَذَا الْمَخْلُوقِ وَهَذَا الْحَيَوَانُ الَّذِي هُوَ النَّاطِقُ لَيْسَ مِثْلَ الْحَيَوَانِ الَّذِي هُوَ الصَّامِتُ أَوْ هَذَا اللَّوْنُ الَّذِي هُوَ الْأَبْيَضُ لَيْسَ مِثْلَ الْأَسْوَدِ أَوْ الْمَوْجُودُ الَّذِي هُوَ الْخَالِقُ لَيْسَ هُوَ مِثْلَ الْمَوْجُودِ الَّذِي هُوَ الْمَخْلُوقُ وَنَحْوُ ذَلِكَ كَانَتْ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ مُسْتَعْمَلَةً عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ فِي الْمُسَمَّيَيْنِ الَّذِينَ صَرَّحَ بِنَفْيِ التَّمَاثُلِ بَيْنَهُمَا فَالْأَسْمَاءُ الْمُتَوَاطِئَةُ إنَّمَا تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمُسَمَّيَيْنِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا وَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّيَانِ مُخْتَلِفَيْنِ أَوْ مُتَضَادَّيْنِ .