سُئِلَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تيمية رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ أَئِمَّةُ الدِّينِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - : فِي الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ مُسْتَشْهِدًا بِهِ فِي صَحِيحِهِ ؟ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنَادِي بِصَوْتِ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ : أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ } وَفِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : يَا آدَمَ قُمْ فَابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ فَيُنَادِي بِصَوْتِ إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُك أَنْ تَبْعَثَ بَعْثَ النَّارِ } الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ . . . فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَالَ : لَا يَثْبُتُ لِلَّهِ صِفَةٌ بِحَدِيثِ وَاحِدٍ . فَمَا الْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ وَالنَّظَرِ وَالْأَمْثَالِ وَالنَّظَائِرِ وَابْسُطُوا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ ؟ ؟
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . أَصْلُ " هَذَا الْبَابِ " أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ الْإِنْسَانُ إلَّا بِعِلْمِ ; فَإِنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِهِ مُطْلَقًا فَهُوَ فِي هَذَا الْبَابِ أَوْجَبُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ } . وَكَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُثْبِتَ شَيْئًا إلَّا بِعِلْمِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْفِيَ شَيْئًا إلَّا بِعِلْمِ ; وَلِهَذَا كَانَ النَّافِي عَلَيْهِ الدَّلِيلَ ; كَمَا أَنَّ الْمُثْبِتَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ . وَمِمَّا يَجِبُ أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ " أَدِلَّةَ الْحَقِّ لَا تَتَنَاقَضُ " فَلَا يَجُوزُ إذَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِشَيْءِ - سَوَاءٌ كَانَ الْخَبَرُ إثْبَاتًا أَوْ نَفْيًا - أَنْ يَكُونَ فِي إخْبَارِهِ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ الْخَبَرَ الْأَوَّلَ وَلَا يَكُونُ فِيمَا يُعْقَلُ بِدُونِ الْخَبَرِ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ الْخَبَرَ الْمَعْقُولَ ; فَالْأَدِلَّةُ الْمُقْتَضِيَةُ لِلْعِلْمِ لَا يَجُوزُ أَنْ تَتَنَاقَضَ سَوَاءٌ كَانَ الدَّلِيلَانِ سَمْعِيَّيْنِ أَوْ عَقْلِيَّيْنِ أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا سَمْعِيًّا وَالْآخَرُ عَقْلِيًّا وَلَكِنَّ التَّنَاقُضَ قَدْ يَكُونُ فِيمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ دَلِيلًا وَلَيْسَ بِدَلِيلِ كَمَنْ يَسْمَعُ خَبَرًا فَيَظُنُّهُ صَحِيحًا وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ أَوْ يَفْهَمُ مِنْهُ مَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَوْ تَقُومُ عِنْدَهُ شُبْهَةٌ يَظُنُّهَا دَلِيلًا عَقْلِيًّا وَتَكُونُ بَاطِلَةً الْتَبَسَ عَلَيْهِ فِيهَا الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ فَيُكَذِّبُ بِهَا مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَهَذَا مِنْ أَسْبَابِ ضَلَالِ مَنْ ضَلَّ مِنْ مُكَذِّبِي الرُّسُلِ إمَّا مُطْلَقًا كَاَلَّذِينَ كَذَّبُوا جَمِيعَ الرُّسُلِ : كَقَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَنَحْوِهِمْ . وأما مَنْ آمَنَ بِبَعْضِ وَكَفَرَ بِبَعْضِ كَمَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِبَعْضِ الرُّسُلِ دُونَ بَعْضٍ وَمَنْ آمَنَ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ بِبَعْضِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ دُونَ بَعْضٍ وَمِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مَنْ أَتَوْا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ; فَإِنَّهُ قَامَتْ عِنْدَهُمْ شُبُهَاتٌ ظَنُّوا أَنَّهَا تَنْفِي مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَظَنُّوا أَنَّ الْوَاجِبَ حِينَئِذٍ تَقْدِيمُ مَا رَأَوْهُ عَلَى النُّصُوصِ ; لِشُبُهَاتِ قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَ ضَلَالَ مَنْ ضَلَّ مِنْ الجهمية الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ بَعْضِ ضُلَّالِهِمْ . وَجِمَاعُ الْقَوْلِ فِي إثْبَاتِ الصِّفَاتِ هُوَ الْقَوْلُ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَهُوَ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ وَيُصَانُ ذَلِكَ عَنْ التَّحْرِيفِ وَالتَّمْثِيلِ وَالتَّكْيِيفِ وَالتَّعْطِيلِ ; فَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ فَمَنْ نَفَى صِفَاتِهِ كَانَ مُعَطِّلًا . وَمَنْ مَثَّلَ صِفَاتِهِ بِصِفَاتِ مَخْلُوقَاتِهِ كَانَ مُمَثِّلًا وَالْوَاجِبُ إثْبَاتُ الصِّفَاتِ وَنَفْيُ مُمَاثَلَتِهَا لِصِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ إثْبَاتًا بِلَا تَشْبِيهٍ وَتَنْزِيهًا بِلَا تَعْطِيلٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } فَهَذَا رَدٌّ عَلَى الْمُمَثِّلَةِ { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } رَدٌّ عَلَى الْمُعَطِّلَةِ فَالْمُمَثِّلُ يَعْبُدُ صَنَمًا وَالْمُعَطِّلُ يَعْبُدُ عَدَمًا . وَ " طَرِيقَةُ الرُّسُلِ " - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - إثْبَاتُ صِفَاتِ الْكَمَالِ لِلَّهِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ وَتَنْزِيهُهُ بِالْقَوْلِ الْمُطْلَقِ عَنْ التَّمْثِيلِ فَطَرِيقَتُهُمْ " إثْبَاتٌ مُفَصَّلٌ " وَ " نَفْيٌ مُجْمَلٌ " وَأَمَّا الْمَلَاحِدَةُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ والجهمية وَنَحْوِهِمْ : فَبِالْعَكْسِ ; نَفْيٌ مُفَصَّلٌ وَإِثْبَاتٌ مُجْمَلٌ . فَاَللَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ { إنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } و { عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وَأَنَّهُ { غَفُورٌ رَحِيمٌ } { عَزِيزٌ حَكِيمٌ } { سَمِيعٌ بَصِيرٌ } { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } وَأَنَّهُ { يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } وَيَرْضَى عَنْ الْمُؤْمِنِينَ وَيَغْضَبُ عَلَى الْكَافِرِينَ وَأَنَّهُ { فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } وَأَنَّهُ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا وَنَادَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبَهُ نَجِيًّا وَأَنَّهُ يُنَادِي عِبَادَهُ فَيَقُولُ : { أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ وَقَالَ تَعَالَى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } . فَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ لَا مِثْلَ لَهُ وَلَا سَمِيَّ وَلَا كُفُوًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِهِ مُمَاثِلًا لِشَيْءِ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَا أَنْ يَكُونَ الْمَخْلُوقُ مُكَافِئًا وَلَا مُسَامِيًا لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . وَأَمَّا " الْمَلَاحِدَةُ " فَقَلَبُوا الْأَمْرَ وَأَخَذُوا يُشَبِّهُونَهُ بِالْمَعْدُومَاتِ وَالْمُمْتَنِعَاتِ والمتناقضات فَغُلَاتُهُمْ يَقُولُونَ : لَا حَيَّ وَلَا مَيِّتَ وَلَا عَالِمَ وَلَا جَاهِلَ وَلَا سَمِيعَ وَلَا أَصَمَّ وَلَا مُتَكَلِّمَ وَلَا أَخْرَسَ بَلْ قَدْ يَقُولُونَ لَا مَوْجُودَ وَلَا مَعْدُومَ وَلَا هُوَ شَيْءٌ وَلَا لَيْسَ بِشَيْءِ . وَآخَرُونَ يَقُولُونَ : لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَا مُبَايِنَ لِلْعَالَمِ وَلَا حَالَّ فِيهِ وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ الَّتِي يَنْفُونَ بِهَا الْأُمُورَ الْمُتَقَابِلَةَ الَّتِي لَا يُمْكِنُ انْتِفَاؤُهَا مَعًا كَمَا يَقُولُ مُحَقِّقُو هَؤُلَاءِ : إنَّهُ وُجُودٌ مُطْلَقٌ . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : هُوَ وُجُودٌ مُطْلَقٌ إمَّا بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ - كَمَا يَقُولُهُ " ابْنُ سِينَا وَأَتْبَاعُهُ - مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ قَرَّرُوا فِي الْمَنْطِقِ " مَا هُوَ مَعْلُومٌ لِكُلِّ الْعُقَلَاءِ : أَنَّ الْمُطْلَقَ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا فِي الْأَعْيَانِ ; بَلْ فِي الْأَذْهَانِ وَكَانَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ : إنَّ الْمَوْجُودَ الْوَاجِبَ لَيْسَ مَوْجُودًا فِي الْخَارِجِ مَعَ أَنَّهُمْ مُقِرُّونَ بِمَا لَمْ يَتَنَازَعْ فِيهِ الْعُقَلَاءُ مِنْ أَنَّ الْوُجُودَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مَوْجُودٍ وَاجِبِ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : هُوَ مُطْلَقٌ لَا بِشَرْطِ - كَمَا يَقُولُهُ القونوي وَأَمْثَالُهُ - فَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَهُ " الْوُجُودَ " الَّذِي يَصْدُقُ عَلَى الْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ وَالْوَاحِدِ وَالْكَثِيرِ وَالذِّهْنِيِّ وَالْخَارِجِيِّ وَالْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ ; فَيَكُونُ : إمَّا صِفَةٌ لِلْمَخْلُوقَاتِ وَإِمَّا جُزْءًا مِنْهَا وَإِمَّا عَيْنُهَا . وَأُولَئِكَ يَجْعَلُونَهُ " الْوُجُودَ " الْمُجَرَّدَ الَّذِي لَا يَتَقَيَّدُ بِقَيْدِ ; فَلَزِمَهُمْ أَنْ لَا يَكُونَ وَاجِبًا وَلَا مُمْكِنًا وَلَا عَالِمًا وَلَا جَاهِلًا وَلَا قَادِرًا وَلَا عَاجِزًا ; وَهُمْ يَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ إنَّهُ عَاقِلٌ وَمَعْقُولٌ وَعَاشِقٌ وَمَعْشُوقٌ ; فَيَتَنَاقَضُونَ فِي ضَلَالِهِمْ وَيَجْعَلُونَ الْوَاحِدَ اثْنَيْنِ وَالِاثْنَيْنِ وَاحِدًا ; كَمَا أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُثْبِتُوا وُجُودًا مُجَرَّدًا عَنْ كُلِّ نَعْتٍ مُطْلَقًا عَنْ كُلِّ قَيْدٍ وَهُمْ - مَعَ ذَلِكَ - يَخُصُّونَهُ بِمَا لَا يَكُونُ لِسَائِرِ الْمَوْجُودَاتِ وَلِهَذَا يَقُولُ بَعْضُهُمْ : إنَّ الْعَالِمَ وَالْعِلْمَ وَاحِدٌ وَإِنَّهُ نَفْسُ الْعِلْمِ فَيَجْعَلُونَ الْعَالِمَ بِنَفْسِهِ هُوَ الْعَالِمُ بِغَيْرِهِ وَالْمَوْصُوفُ هُوَ الصِّفَةُ ; وَيَتَنَاقَضُونَ أَشَدَّ مِنْ تَنَاقُضِ النَّصَارَى فِي " تَثْلِيثِهِمْ " " وَاتِّحَادِهِمْ " اللَّذَيْنِ أَفْسَدُوا بِهِمَا الْإِيمَانَ بِالتَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ . وَكَلَامُ ابْنِ سَبُعَيْنِ وَابْنِ رُشْدٍ الْحَفِيدِ وَابْنِ التومرت وَابْنِ عَرَبِيٍّ الطَّائِيِّ ; وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ الجهمية - نفاة الصِّفَاتِ : يَدُورُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ - وَيُوجَدُ مَا يُقَارِبُ هَذَا الِاتِّحَادَ فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالتَّصَوُّفِ الَّذِينَ دَخَلَ عَلَيْهِمْ بَعْضُ شُعَبِ الِاتِّحَادِ وَلَمْ يَعْلَمُوا مَا فِيهَا مِنْ الْفَسَادِ . وَالْقَوْلُ فِي " مَسْأَلَةِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى " وَاضْطِرَابُ النَّاسِ فِيهَا مَبْنِيٌّ عَلَى ( هَذَا الْأَصْلِ فَإِنَّهَا مِنْ " مَسَائِلِ الصِّفَاتِ " وَفِيهَا مِنْ التَّفْرِيعِ مَا امْتَازَتْ بِهِ عَلَى سَائِرِ مَسَائِلِ الصِّفَاتِ وَقَدْ اضْطَرَبَ النَّاسُ فِيهَا اضْطِرَابًا كَثِيرًا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; وَبَيَّنَّا أَنَّ " سَلَفَ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتَهَا " كَانُوا عَلَى الْإِيمَانِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصِفُونَ اللَّهَ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ . وَيَقُولُونَ : إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى . وَيَصِفُونَ اللَّهَ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ التَّكْلِيمِ وَالْمُنَاجَاةِ وَالْمُنَادَاةِ وَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَنُ وَالْآثَارُ مُوَافِقَةً لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى . فَلَمْ يَكُنْ فِي الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ إلَى يَوْمِ الدِّينِ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ : مَنْ قَالَ : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ وَلَمْ يَقُمْ بِهِ كَلَامٌ كَمَا قَالَتْهُ " الجهمية " مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ بَلْ لَمَّا أَظْهَرُوا هَذِهِ الْبِدْعَةَ اشْتَدَّ نَكِيرُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ لَهَا ; وَعَرَفُوا أَنَّ حَقِيقَتَهَا أَنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَأْمُرُ وَلَا يَنْهَى إذْ كَانَ الْكَلَامُ وَسَائِرُ الصِّفَاتِ إنَّمَا يَعُودُ حُكْمُهَا إلَى مَنْ قَامَتْ بِهِ . فَلَوْ خَلَقَ كَلَامًا فِي الشَّجَرَةِ { إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا } لَكَانَ ذَلِكَ كَلَامًا لِلشَّجَرَةِ وَكَانَتْ هِيَ الْقَائِلَةُ : { إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي } بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ الَّذِي تَنْطِقُ بِهِ الْجُلُودُ حِينَ قَالَ لَهَا أَصْحَابُهَا : { لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى : { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ } فَلَوْ كَانَ تَكَلُّمُهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ خَلَقَ كَلَامًا فِي غَيْرِهِ لَكَانَ كُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامَهُ لِأَنَّهُ خَالِقُهُ وَكَذَلِكَ صَرَّحَ بِذَلِكَ " الْحُلُولِيَّةُ " مِنْ الجهمية كَمَا يُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَرَبِيٍّ صَاحِبِ " الْفُصُوصِ " وَ " الْفُتُوحَاتِ " : وَكُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُهُ سَوَاءٌ عَلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ إذَا خَلَقَ فِي بَعْضِ الْأَعْيَانِ عِلْمًا أَوْ قُدْرَةً أَوْ حَرَكَةً أَوْ إرَادَةً : كَانَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ هُوَ الْعَالِمُ الْقَادِرُ الْمُتَحَرِّكُ الْمُرِيدُ : فَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَلَامُهُ إلَّا مَا يَخْلُقُهُ فِي غَيْرِهِ لَكَانَ الْغَيْرُ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ . وَ " شُبْهَةُ نفاة الْكَلَامِ الْمَشْهُورَةِ " أَنَّهُمْ اعْتَقَدُوا أَنَّ " الْكَلَامَ " صِفَةٌ مِنْ الصِّفَاتِ لَا تَكُونُ إلَّا بِفِعْلِ مِنْ الْأَفْعَالِ الْقَائِمَةِ بِالْمُتَكَلِّمِ ; فَلَوْ تَكَلَّمَ الرَّبُّ لَقَامَتْ بِهِ الصِّفَاتُ وَالْأَفْعَالُ وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ . قَالُوا : لِأَنَّا إنَّمَا اسْتَدْلَلْنَا عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ بِحُدُوثِ الْأَجْسَامِ وَاسْتَدْلَلْنَا عَلَى حُدُوثِهَا بِمَا قَامَ بِهَا مِنْ الْأَعْرَاضِ الَّتِي هِيَ الصِّفَاتُ وَالْأَفْعَالُ ; فَلَوْ قَامَ بِالرَّبِّ الصِّفَاتُ وَالْأَفْعَالُ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُحْدَثًا وَبَطَلَ الدَّلِيلُ الَّذِي اسْتَدْلَلْنَا بِهِ عَلَى " حُدُوثِ الْعَالَمِ وَإِثْبَاتِ الصَّانِعِ " . فَقَالَ لَهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْإِثْبَاتِ : دَلِيلُكُمْ هَذَا دَلِيلٌ مُبْتَدَعٌ فِي الشَّرْعِ لَمْ يَسْتَدِلَّ بِهِ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا بَلْ قَدْ ذَكَرَ الْأَشْعَرِيُّ فِي " رِسَالَتِهِ إلَى أَهْلِ الثَّغْرِ " أَنَّهُ دَلِيلٌ مُحَرَّمٌ فِي دِينِ الرُّسُلِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِنَاءُ دِينِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ ; وَذَكَرَ غَيْرُهُ : أَنَّهُ بَاطِلٌ فِي الْعَقْلِ ; كَمَا هُوَ مُحَرَّمٌ فِي الشَّرْعِ وَأَنَّ ذَمَّ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ لِأَهْلِ الْكَلَامِ والجهمية وَأَهْلِ الْخَوْضِ فِي الْأَعْرَاضِ وَالْأَجْسَامِ أَعْظَمُ مَا قَصَدُوا بِهِ ذَمَّ مِثْلِ هَذَا الدَّلِيلِ ; كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ . وَلَمَّا ظَهَرَتْ " مَقَالَةُ الجهمية " جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ " أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ يُوَافِقُ السَّلَفَ وَالْأَئِمَّةَ عَلَى إثْبَاتِ " صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَعُلُوِّهِ عَلَى خَلْقِهِ " وَبَيَّنَ أَنَّ " الْعُلُوَّ عَلَى خَلْقِهِ " يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ وَ " اسْتِوَاؤُهُ عَلَى الْعَرْشِ " يُعْلَمُ بِالسَّمْعِ ; وَكَذَلِكَ جَاءَ بَعْدَهُ الْحَارِثُ المحاسبي وَأَبُو الْعَبَّاسِ القلانسي وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ . ثُمَّ جَاءَ " أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ فَاتَّبَعَ طَرِيقَةَ ابْنِ كُلَّابٍ وَأَمْثَالِهِ وَذَكَرَ فِي كُتُبِهِ جُمَلَ مُقَالَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ ; وَأَنَّ ابْنَ كُلَّابٍ يُوَافِقُهُمْ فِي أَكْثَرِهَا وَهَؤُلَاءِ يُسَمَّوْنَ " الصفاتية " لِأَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ ; لَكِنَّ " ابْنَ كُلَّابٍ وَأَتْبَاعَهُ " لَمْ يُثْبِتُوا لِلَّهِ أَفْعَالًا تَقُومُ بِهِ تَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ بَلْ وَلَا غَيْرَ الْأَفْعَالِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . فَكَانَتْ " الْمُعْتَزِلَةُ " تَقُولُ : لَا تُحِلُّهُ الْأَعْرَاضُ وَالْحَوَادِثُ . وَهُمْ لَا يُرِيدُونَ " بِالْأَعْرَاضِ " الْأَمْرَاضَ وَالْآفَاتِ فَقَطْ ; بَلْ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ الصِّفَاتِ ; وَلَا يُرِيدُونَ بِالْحَوَادِثِ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَا الْأَحْدَاثَ الْمُحِيلَةَ لِلْمَحَلِّ وَنَحْوَ ذَلِكَ - مِمَّا يُرِيدُهُ النَّاسُ بِلَفْظِ الْحَوَادِثِ - بَلْ يُرِيدُونَ نَفْيَ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ الْأَفْعَالِ وَغَيْرِهَا فَلَا يُجَوِّزُونَ أَنْ يَقُومَ بِهِ خَلْقٌ وَلَا اسْتِوَاءٌ وَلَا إتْيَانٌ وَلَا مَجِيءٌ وَلَا تَكْلِيمٌ وَلَا مُنَادَاةٌ وَلَا مُنَاجَاةٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا وُصِفَ بِأَنَّهُ مُرِيدٌ لَهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ . وَابْنُ كُلَّابٍ خَالَفَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ : لَا تَقُومُ بِهِ الْأَعْرَاضُ . وَقَالَ : تَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ ; وَلَكِنْ لَا تُسَمَّى أَعْرَاضًا وَوَافَقَهُمْ عَلَى مَا أَرَادُوهُ بِقَوْلِهِمْ : لَا تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَقُومُ بِهِ أَمْرٌ مِنْ الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَشِيئَتِهِ . فَصَارَ مِنْ حِينِ فَرَّقَ هَذَا التَّفْرِيقَ الْمُنْتَسِبُونَ إلَى
السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ - الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ اللَّهَ يُرَى فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ - عَلَى " قَوْلَيْنِ " ذَكَرَهُمَا الْحَارِثُ المحاسبي وَغَيْرُهُ . " طَائِفَةٌ " وَافَقَتْ ابْنَ كُلَّابٍ كالقلانسي وَالْأَشْعَرِيِّ وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ الطبري وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ ; فَإِنَّهُ وَافَقَ هَؤُلَاءِ كَثِيرٌ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ : مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ . وَكَانَ " الْحَارِثُ المحاسبي يُوَافِقُهُ ثُمَّ قِيلَ : إنَّهُ رَجَعَ عَنْ مُوَافَقَتِهِ ; فَإِنَّ
أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ أَمَرَ بِهَجْرِ الْحَارِثِ المحاسبي وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ كُلَّابٍ لَمَّا أَظْهَرُوا ذَلِكَ كَمَا أَمَرَ السَّرِيُّ السقطي الجنيد أَنْ يَتَّقِيَ بَعْضَ كَلَامِ الْحَارِثِ فَذَكَرُوا أَنَّ الْحَارِثَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَابَ مِنْ ذَلِكَ وَكَانَ لَهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ وَالزُّهْدِ وَالْكَلَامِ فِي الْحَقَائِقِ مَا هُوَ مَشْهُورٌ وَحَكَى عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ الكلاباذي صَاحِبُ ( مَقَالَاتِ الصُّوفِيَّةِ : أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : إنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ وَهَذَا يُوَافِقُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ : إنَّهُ رَجَعَ عَنْ قَوْلِ ابْنِ كُلَّابٍ .