سُئِلَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تيمية رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ أَئِمَّةُ الدِّينِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - : فِي الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ مُسْتَشْهِدًا بِهِ فِي صَحِيحِهِ ؟ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنَادِي بِصَوْتِ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ : أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ } وَفِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : يَا آدَمَ قُمْ فَابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ فَيُنَادِي بِصَوْتِ إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُك أَنْ تَبْعَثَ بَعْثَ النَّارِ } الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ . . . فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَالَ : لَا يَثْبُتُ لِلَّهِ صِفَةٌ بِحَدِيثِ وَاحِدٍ . فَمَا الْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ وَالنَّظَرِ وَالْأَمْثَالِ وَالنَّظَائِرِ وَابْسُطُوا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ ؟ ؟
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الكلاباذي : وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الصُّوفِيَّةِ : كَلَامُ اللَّهِ حَرْفٌ وَصَوْتٌ وَأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ كَلَامٌ إلَّا كَذَلِكَ مَعَ إقْرَارِهِمْ أَنَّهُ صِفَةٌ لِلَّهِ فِي ذَاتِهِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ قَالَ : وَهَذَا قَوْلُ الْحَارِثِ المحاسبي وَمِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ ابْنُ سَالِمٍ . وَبَقِيَ هَذَا الْأَصْلُ يَدُورُ بَيْنَ النَّاسِ حَتَّى وَقَعَ بَيْنَ " أَبِي بَكْرٍ بْنِ خزيمة الْمُلَقَّبِ بِإِمَامِ الْأَئِمَّةِ وَبَعْضِ أَصْحَابِهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ ; فَإِنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّهُمْ وَافَقُوا ابْنَ كُلَّابٍ فَنَهَاهُمْ وَعَابَهُمْ وَطَعَنَ عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ كُلَّابٍ بِمَا كَانَ مَشْهُورًا عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ . وَمِنْ ذَلِكَ الزَّمَانِ
تَنَازَعَ الْمُنْتَسِبُونَ إلَى السُّنَّةِ : مِنْ أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ ; أَوْ لَا يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ ؟ فَإِنَّ أَتْبَاعَ ابْنِ كُلَّابٍ نَفَوْا ذَلِكَ ; قَالُوا : لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِصَوْتِ يَسْتَلْزِمُ قِيَامَ فِعْلٍ بِالْمُتَكَلِّمِ مُتَعَلِّقٌ بِإِرَادَتِهِ ; وَاَللَّهُ - عِنْدَهُمْ - لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُومَ بِهِ أَمْرٌ يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ : لَا فِعْلٌ وَلَا غَيْرُ فِعْلٍ فَقَالُوا : إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ ; وَإِنَّمَا كَلَامُهُ مَعْنًى وَاحِدٌ هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ . إنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا وَإِنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْعِبْرِيَّةِ كَانَ تَوْرَاةً وَإِنْ عَبَّرَ عَنْهُ بالسريانية كَانَ إنْجِيلًا . فَقَالَ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِ أَهْلِ السُّنَّةِ " هَذَا الْقَوْلُ " مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ ; كَمَا هُوَ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ; فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ التَّوْرَاةَ إذَا عُرِّبَتْ لَمْ تَكُنْ هِيَ الْقُرْآنَ بَلْ مَعَانِيهَا لَيْسَتْ هِيَ مَعَانِي الْقُرْآنِ وَنَعْلَمُ أَنَّ الْقُرْآنَ إذَا تُرْجِمَ بِالْعِبْرِيَّةِ لَمْ يَصِرْ هُوَ التَّوْرَاةَ الْمُنَزَّلَةَ عَلَى مُوسَى ; وَنَعْلَمُ أَنَّ مَعْنَى آيَةِ الدَّيْنِ لَيْسَ هُوَ مَعْنَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَلَا مَعْنَى { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } هُوَ مَعْنَى { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } . قَالُوا : وَمَنْ جَعَلَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ صِفَاتٍ لِلْكَلَامِ ; لَا أَنْوَاعَ لَهُ فَقَوْلُهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ ; وَهَذَا مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ ; فَإِنَّ مَنْ جَعَلَ " الْوُجُودَ وَاحِدًا بِالْعَيْنِ " وَهُوَ الْوَاجِبُ وَالْمُمْكِنُ : كَانَ كَلَامُهُ مَعْلُومَ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ ; كَمَنْ جَعَلَ مَعَانِيَ الْكَلَامِ مَعْنًى وَاحِدًا : هِيَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ ; لَكِنَّ " الْكَلَامَ " يَنْقَسِمُ إلَى الْإِنْشَاءِ وَالْخَبَرِ وَ " الْإِنْشَاءُ " يَنْقَسِمُ إلَى طَلَبِ الْفِعْلِ وَطَلَبِ التَّرْكِ وَ " الْخَبَرُ " يَنْقَسِمُ إلَى خَبَرٍ عَنْ النَّفْيِ وَخَبَرٍ عَنْ الْإِثْبَاتِ كَمَا أَنَّ " الْمَوْجُودَ " يَنْقَسِمُ إلَى وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ وَ " الْمُمْكِنُ " يَنْقَسِمُ إلَى حَيٍّ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ وَقَائِمٍ بِغَيْرِهِ ; وَ " الْقَائِمُ بِغَيْرِهِ " يَنْقَسِمُ إلَى مَا تُشْتَرَطُ لَهُ الْحَيَاةُ وَمَا لَا تُشْتَرَطُ لَهُ الْحَيَاةُ فَلَفْظُ " الْوَاحِدِ " يَنْقَسِمُ إلَى وَاحِدٍ بِالنَّوْعِ وَوَاحِدٌ بِالْعَيْنِ . فَقَوْلُ الْقَائِلِ " الْكَلَامُ مَعْنًى وَاحِدٌ " كَقَوْلِهِ الْوُجُودُ وَاحِدٌ فَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ نَوْعٌ وَاحِدٌ ; أَوْ جِنْسٌ وَاحِدٌ ; أَوْ صِنْفٌ وَاحِدٌ ; وَنَحْوُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ عَيْنٌ وَاحِدَةٌ وَذَاتٌ وَاحِدَةٌ وَشَخْصٌ وَاحِدٌ ; فَإِنَّ هَذَا مُكَابَرَةٌ لِلْحِسِّ وَالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ . وَأَمَّا " الْأَوَّلُ " فَمُرَادُهُ أَنَّ بَيْنَ ذَلِكَ قَدْرًا مُشْتَرَكًا ; كَمَا أَنَّ " الْمَوْجُودَاتِ " تَشْتَرِكُ فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ وَ " أَنْوَاعُ الْكَلَامِ " تَشْتَرِكُ فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ وَقَدْ بُسِطَ هَذَا كُلُّهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . ثُمَّ إنَّ " طَائِفَةً أُخْرَى " لَمَّا عَرَفَتْ فَسَادَ قَوْلِ ابْنِ كُلَّابٍ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ وَوَافَقَتْهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ اللَّهَ لَا يَقُومُ بِهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَكَانَ مِنْ قَوْلِهَا : أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهَا إلَّا قَدِيمٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ أَوْ مَخْلُوقٌ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ لَزِمَهَا أَنْ تَقُولَ : إنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ أَوْ أَصْوَاتٍ قَدِيمَةٍ أَزَلِيَّةٍ لَا تَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ مُتَّصِفًا بِتِلْكَ الْأَصْوَاتِ الْقَدِيمَةِ الْأَزَلِيَّةِ اللَّازِمَةِ لِذَاتِهِ . وَهَذَا الْقَوْلُ يُذْكَرُ عَنْ " أَبِي الْحَسَنِ بْنِ سَالِمٍ شَيْخِ أَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ - إنْ صَحَّ عَنْهُ - لَكِنَّهُ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ سَالِمٍ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ . وَقَالَتْ " الكرامية " وَطَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ : مِنْ الْمُرْجِئَةِ وِ الشيعة وَغَيْرِهِمْ : إنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِأَصْوَاتِ تَقُومُ بِهِ تَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَنَّهُ تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ ; لَكِنَّ ذَلِكَ حَادِثٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ ; وَأَنَّ اللَّهَ فِي الْأَزَلِ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا إلَّا بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ عَلَى الْكَلَامِ وَأَنَّهُ يَصِيرُ مَوْصُوفًا بِمَا يَحْدُثُ بِقُدْرَتِهِ وَبِمَشِيئَتِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ ; وَهَؤُلَاءِ رَأَوْا أَنَّهُمْ يُوَافِقُونَ الْجَمَاعَةَ فِي أَنَّ لِلَّهِ أَفْعَالًا تَقُومُ بِهِ تَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَيَقُومُ بِهِ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ " الْإِرَادَاتِ " وَ " الْكَلَامِ " الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . لَكِنْ قَالُوا : لَا يَجُوزُ أَنْ تَتَعَاقَبَ عَلَيْهِ الْحَوَادِثُ ; فَإِنَّ مَا تَعَاقَبَتْ عَلَيْهِ الْحَوَادِثُ فَهُوَ مُحْدَثٌ وَوَافَقُوا الْمُعْتَزِلَةَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ . فَكَمَا أَنَّ ابْنَ كُلَّابٍ فَرَّقَ بَيْنَ الْأَعْرَاضِ وَالْحَوَادِثِ : فَرَّقَ هَؤُلَاءِ فِي الْحَوَادِثِ بَيْنَ تَجَدُّدِهَا وَبَيْنَ لُزُومِهَا فَقَالُوا بِنَفْيِ لُزُومِهَا لَهُ دُونَ نَفْيِ حُدُوثِهَا كَمَا قَالُوا فِي الْمَخْلُوقَاتِ الْمُنْفَصِلَةِ : إنَّهَا تَحْدُثُ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . وَالْفَلَاسِفَةُ الدَّهْرِيَّةُ يُطَالِبُونَ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ بِسَبَبِ حُدُوثِ الْحَوَادِثِ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ وَإِنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ التَّرْجِيحَ بِلَا مُرَجِّحٍ وَالْحَوَادِثُ بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ قَالُوا : وَهُوَ مُمْتَنِعٌ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ وَهَذَا أَعْظَمُ شُبَهِهِمْ فِي " قِدَمِ الْعَالَمِ " وَهِيَ ( الْمُعْضِلَةُ الزَّبَّاءُ وَالدَّاهِيَةُ الدهيا وَقَدْ ضَاقَ هَؤُلَاءِ عَنْ جَوَابِهِمْ حَتَّى خَرَجُوا إلَى الِالْتِزَامِ وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَبَيَّنَّا " الْأَجْوِبَةَ الْقَاطِعَةَ " عَنْ كَلَامِ الْفَلَاسِفَةِ عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَأَنَّهُ مَنْ قَالَ بِمُوجَبِ نُصُوصِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ أَمْكَنَهُ أَنْ يُنَاظِرَ الْفَلَاسِفَةَ مُنَاظَرَةً عَقْلِيَّةً يَقْطَعُهُمْ بِهَا وَيَتَبَيَّنُ لَهُ أَنَّ الْعَقْلَ الصَّرِيحَ مُطَابِقٌ لِلسَّمْعِ الصَّحِيحِ . وَبَيَّنَّا أَيْضًا كَيْفَ تُجِيبُهُمْ " كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ " لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ إلَى الْحَقِّ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ فَيُمْكِنُهُمْ أَنْ يُجِيبُوهُمْ بِالْإِلْزَامِ جَوَابًا لَا مَحِيصَ لِلْفَلَاسِفَةِ عَنْهُ وَيُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا لِلْفَلَاسِفَةِ : قَوْلُكُمْ أَظْهَرُ فَسَادًا فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ مِنْ قَوْلِ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ فَتَقُولُ لَهُمْ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ : إذَا لَمْ يُمْكِنَّا أَنْ نُجِيبَكُمْ بِجَوَابِ قَاطِعٍ يُحِلُّ شُبْهَتَكُمْ غَيْرِ الْجَوَابِ الْإِلْزَامِيِّ إلَّا بِمُوَافَقَتِكُمْ فِيمَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ وَالْعَقْلَ أَوْ مُوَافَقَةِ إخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ فِيمَا لَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ - وَيُمْكِنُ أَيْضًا أَنْ لَا يُخَالِفَ الْعَقْلَ - كَانَ هَذَا ; أَوْلَى فَإِنَّ الْفَلَاسِفَةَ طَمِعَتْ فِي طَوَائِفِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِمَا ابْتَدَعَهُ كُلُّ فَرِيقٍ فَأَخَذَتْ بِدْعَةَ أَصْحَابِهَا وَاحْتَجَّتْ بِهَا عَلَيْهِمْ فَأَمْكَنَ صَاحِبَ ذَلِكَ الْقَوْلِ الْمُبْتَدَعِ أَنْ يَقُولَ : رُجُوعِي عَنْ هَذَا الْقَوْلِ الْمُبْتَدَعِ مَعَ مُوَافَقَتِي لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَأَقْوَالُ سَلَفِ الْأُمَّةِ : أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُوَافِقَ الْفَلَاسِفَةَ عَلَى قَوْلٍ أَعْلَمُ أَنَّهُ كُفْرٌ فِي الشَّرْعِ مَعَ أَنَّ الْعَقْلَ أَيْضًا يُبَيِّنُ فَسَادَهُ . وَأَمَّا السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ " فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ قَالَ بِقَوْلِ مَنْ قَالَ : إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَلَا بِقَوْلِ مَنْ قَالَ : إنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِالذَّاتِ هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ ; وَهُوَ مَدْلُولُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ . وَلَا بِقَوْلِ مَنْ قَالَ : إنَّهُ أَصْوَاتٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ لَا تَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . وَلَا بِقَوْلِ مَنْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ كَانَ لَا يَتَكَلَّمُ حَتَّى أَحْدَثَ لِنَفْسِهِ كَلَامًا صَارَ بِهِ مُتَكَلِّمًا . وَأَمَّا الْقَوْلُ : بِأَنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ بِالْقُرْآنِ أَوْ أَلْفَاظِهِمْ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ : فَهَذَا أَيْضًا مِنْ " الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ " الَّتِي هِيَ أَظْهَرُ فَسَادًا مِنْ غَيْرِهَا وَالسَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ . وَالْعَقْلُ الصَّرِيحُ يَعْلَمُ أَنَّ مَنْ جَعَلَ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ قَدِيمَةً أَزَلِيَّةً كَانَ قَوْلُهُ مَعْلُومَ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ . وَلَكِنَّ أَصْلَ هَذَا تَنَازُعُهُمْ فِي " مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ " وَالْمَنْصُوصُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد وَنَحْوِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَنْ قَالَ : إنَّ اللَّفْظَ بِالْقُرْآنِ وَالتِّلَاوَةَ مَخْلُوقَةٌ فَهُوَ جهمي وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ; لِأَنَّ " اللَّفْظَ وَالتِّلَاوَةَ " يُرَادُ بِهِ الْمَلْفُوظُ الْمَتْلُوُّ . وَذَلِكَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ فَمَنْ جَعَلَ كَلَامَ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ مَخْلُوقًا فَهُوَ جهمي . وَيُرَادُ بِذَلِكَ " الْمَصْدَرُ وَصِفَاتُ الْعِبَادِ " فَمَنْ جَعَلَ " أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتَهُمْ غَيْرَ مَخْلُوقَةٍ " فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ . وَهَكَذَا ذَكَرَهُ الْأَشْعَرِيُّ فِي كِتَابِ " الْمَقَالَاتِ " عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ قَالَ : وَيَقُولُونَ : إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَالْكَلَامُ فِي الْوَقْفِ وَاللَّفْظِ بِدْعَةٌ . مَنْ قَالَ : بِاللَّفْظِ أَوْ الْوَقْفِ : فَهُوَ مُبْتَدِعٌ . وَعِنْدَهُمْ لَا يُقَالُ : اللَّفْظُ بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ وَلَا يُقَالُ : غَيْرُ مَخْلُوقٍ . وَلَيْسَ فِي الْأَئِمَّةِ وَالسَّلَفِ مَنْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ : أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ وَجَاءَ ذَلِكَ فِي آثَارٍ مَشْهُورَةٍ عَنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَكَانَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ يَذْكُرُونَ الْآثَارَ الَّتِي فِيهَا ذَكَرَ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالصَّوْتِ وَلَا يُنْكِرُهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ حَتَّى قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد : قُلْت لِأَبِي : إنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ فَقَالَ : يَا بُنَيَّ هَؤُلَاءِ جهمية إنَّمَا يَدُورُونَ عَلَى التَّعْطِيلِ . ثُمَّ ذَكَرَ بَعْضَ الْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ فِي ذَلِكَ . وَكَلَامُ " الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ " صَرِيحٌ فِي أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ وَفَرْقٌ بَيْنَ صَوْتِ اللَّهِ وَأَصْوَاتِ الْعِبَادِ وَذَكَرَ فِي ذَلِكَ عِدَّةَ أَحَادِيثَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ تَرْجَمَ فِي كِتَابِ الصَّحِيحِ ( بَابٌ فِي قَوْله تَعَالَى { حَتَّى إذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } وَذَكَرَ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ وَهُوَ الْقَدَرُ . وَكَمَا أَنَّهُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ " أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ " فَهُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ فِرَقِ الْأُمَّةِ ; فَإِنَّ جَمَاهِيرَ " الطَّوَائِفِ " يَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ مَعَ نِزَاعِهِمْ فِي أَنَّ كَلَامَهُ هَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ أَوْ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ ؟ قَدِيمٌ أَوْ حَادِثٌ ؟ أَوْ مَا زَالَ يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ ؟ فَإِنَّ هَذَا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ والكرامية وَالشِّيعَةِ وَأَكْثَرِ الْمُرْجِئَةِ والسالمية وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ : مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَالصُّوفِيَّةِ . وَلَيْسَ مِنْ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ أَنْكَرَ أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ إلَّا ابْنُ كُلَّابٍ وَمَنْ اتَّبَعَهُ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ قَالَ : إنَّ الْكَلَامَ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِالْمُتَكَلِّمِ إلَّا هُوَ وَمَنْ اتَّبَعَهُ وَلَيْسَ فِي طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ قَالَ : إنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ بِالْقُرْآنِ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ وَلَا إنَّهُ يَسْمَعُ مِنْ الْعِبَادِ صَوْتًا قَدِيمًا وَلَا إنَّ " الْقُرْآنَ " نَسْمَعُهُ نَحْنُ مِنْ اللَّهِ إلَّا طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى أَهْلِ الْحَدِيثِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وداود وَغَيْرِهِمْ وَلَيْسَ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْحَرْفَ الَّذِي هُوَ مِدَادُ الْمَصَاحِفِ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ ; فَإِثْبَاتُ " الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ " بِمَعْنَى أَنَّ الْمِدَادَ وَأَصْوَاتَ الْعِبَادِ قَدِيمَةٌ بِدْعَةٌ بَاطِلَةٌ لَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَإِنْكَارُ تَكَلُّمِ اللَّهِ بِالصَّوْتِ وَجَعْلُ كَلَامِهِ مَعْنًى وَاحِدًا قَائِمًا بِالنَّفْسِ بِدْعَةٌ بَاطِلَةٌ لَمْ يَذْهَبْ إلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ . وَاَلَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ " السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ " أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ وَإِنَّمَا قَالَ السَّلَفُ : " مِنْهُ بَدَأَ " لِأَنَّ الجهمية - مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ - كَانُوا يَقُولُونَ : إنَّهُ خَلَقَ الْكَلَامَ فِي الْمَحَلِّ فَقَالَ السَّلَفُ : مِنْهُ بَدَأَ . أَيْ : هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ فَمِنْهُ بَدَأَ ; لَا مِنْ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي } وَقَالَ تَعَالَى : { وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ : " إلَيْهِ يَعُودُ " أَنَّهُ يُرْفَعُ مِنْ الصُّدُورِ وَالْمَصَاحِفِ فَلَا يَبْقَى فِي الصُّدُورِ مِنْهُ آيَةٌ وَلَا مِنْهُ حَرْفٌ كَمَا جَاءَ فِي عِدَّةِ آثَارٍ .