تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تيمية رَحِمَهُ اللَّهُ عَمَّا يَقَعُ فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ قَوْلِهِمْ : هَذَا خِلَافُ الْقِيَاسِ لِمَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَوْ قَوْلِ الصَّحَابَةِ أَوْ بَعْضِهِمْ وَرُبَّمَا كَانَ حُكْمًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ : تَطْهِيرُ الْمَاءِ إذَا وَقَعَ فِيهِ نَجَاسَةٌ خِلَافُ الْقِيَاسِ بَلْ وَتَطْهِيرُ النَّجَاسَةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَالتَّوَضُّؤُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَالْفِطْرُ بِالْحِجَامَةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَالسَّلَمُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَالْإِجَارَةُ وَالْحَوَالَةُ وَالْكِتَابَةُ وَالْمُضَارَبَةُ وَالْمُزَارَعَةُ وَالْمُسَاقَاةُ وَالْقَرْضُ وَصِحَّةُ صَوْمِ الْمُفْطِرِ نَاسِيًا وَالْمُضِيُّ فِي الْحَجِّ الْفَاسِدِ كُلُّ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ : فَهَلْ هَذَا الْقَوْلُ صَوَابٌ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يُعَارِضُ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ النَّصَّ أَمْ لَا ؟
123456789101112131415161718
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي فِيهِ : { إنَّ الرَّهْنَ مَرْكُوبٌ وَمَحْلُوبٌ وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَحْلِبُ النَّفَقَةُ } إنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; فَإِنَّ الرَّهْنَ إذَا كَانَ حَيَوَانًا فَهُوَ مُحْتَرَمٌ فِي نَفْسِهِ وَلِمَالِكِهِ فِيهِ حَقٌّ ; وَلِلْمُرْتَهِنِ فِيهِ حَقٌّ وَإِذَا كَانَ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ فَلَمْ يَرْكَبْ وَلَمْ يَحْلِبْ ذَهَبَتْ مَنْفَعَتُهُ بَاطِلَةً وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ اللَّبَنَ يَجْرِي مَجْرَى الْمَنْفَعَةِ فَإِذَا اسْتَوْفَى الْمُرْتَهِنُ مَنْفَعَتَهُ وَعَوَّضَ عَنْهَا نَفَقَتَهُ كَانَ فِي هَذَا جَمْعٌ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ وَبَيْنَ الْحَقَّيْنِ فَإِنَّ نَفَقَتَهُ وَاجِبَةٌ عَلَى صَاحِبِهِ وَالْمُرْتَهِنُ إذَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ أَدَّى عَنْهُ وَاجِبًا وَلَهُ فِيهِ حَقٌّ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِبَدَلِهِ وَالْمَنْفَعَةُ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ بَدَلًا فَأَخْذُهَا خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذْهَبَ عَلَى صَاحِبِهَا وَتَذْهَبَ بَاطِلًا . وَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ أَدَّى عَنْ غَيْرِهِ وَاجِبًا بِغَيْرِ إذْنِهِ كَالدَّيْنِ فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَيْهِ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ . وَإِذَا أَنْفَقَ نَفَقَةً تَجِبُ عَلَيْهِ مِثْلَ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى وَلَدِهِ الصَّغِيرِ أَوْ عَبْدِهِ ; فَبَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَد قَالَ : لَا يَرْجِعُ ; وَفَرَّقُوا بَيْنَ النَّفَقَةِ وَالدَّيْنِ وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ سَوَّوْا بَيْنَهُمَا وَقَالُوا : الْجَمِيعُ وَاجِبٌ وَلَوْ افْتَدَاهُ مِنْ الْأَسْرِ كَانَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ بِالْفِدَاءِ وَلَيْسَتْ دَيْنًا وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } فَأَمَرَ بِإِيتَاءِ الْأَجْرِ بِمُجَرَّدِ الْإِرْضَاعِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَقْدًا وَلَا إذْنَ الْأَبِ وَكَذَلِكَ قَالَ : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } فَأَوْجَبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَقْدًا وَلَا إذْنًا وَنَفَقَةُ الْحَيَوَانِ وَاجِبَةٌ عَلَى رَبِّهِ وَالْمُرْتَهِنُ وَالْمُسْتَأْجِرُ لَهُ فِيهِ حَقٌّ فَإِذَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ النَّفَقَةَ الْوَاجِبَةَ عَلَى رَبِّهِ كَانَ أَحَقَّ بِالرُّجُوعِ مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَى وَلَدِهِ فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ الرَّاهِنَ قَالَ : لَمْ آذَنْ لَك فِي النَّفَقَةِ قَالَ : هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْك وَأَنَا أَسْتَحِقُّ أَنْ أُطَالِبَك بِهَا لِحِفْظِ الْمَرْهُونِ وَالْمُسْتَأْجَرِ . وَإِذَا كَانَ الْمُنْفِقُ قَدْ رَضِيَ بِأَنْ يَعْتَاضَ بِمَنْفَعَةِ الرَّهْنِ الَّتِي لَا يُطَالِبُهُ بِنَظِيرِ النَّفَقَةِ كَانَ قَدْ أَحْسَنَ إلَى صَاحِبِهِ فَهَذَا خَيْرٌ مَحْضٌ مَعَ الرَّاهِنِ وَكَذَلِكَ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْمُؤْتَمَنَ عَلَى حَيَوَانِ الْغَيْرِ كَالْمُودَعِ وَالشَّرِيكِ وَالْوَكِيلِ أَنْفَقَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ وَاعْتَاضَ بِمَنْفَعَةِ الْمَالِ ; لِأَنَّ هَذَا إحْسَانٌ إلَى صَاحِبِهِ إذَا لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ . وَمِمَّا يُقَالُ : إنَّهُ أَبْعَدُ الْأَحَادِيثِ عَنْ الْقِيَاسِ : الْحَدِيثُ الَّذِي فِي السُّنَنِ عَنْ الْحَسَنِ ; عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ حريث ; عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبَّقِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي رَجُلٍ وَقَعَ عَلَى جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ إنْ كَانَ اسْتَكْرَهَهَا فَهِيَ حُرَّةٌ وَعَلَيْهِ لِسَيِّدَتِهَا مِثْلُهَا وَإِنْ كَانَتْ طَاوَعَتْهُ فَهِيَ لَهُ وَعَلَيْهِ لِسَيِّدَتِهَا مِثْلُهَا وَقَدْ رُوِيَ فِي لَفْظٍ آخَرَ وَإِنْ كَانَتْ طَاوَعَتْهُ فَهِيَ وَمِثْلُهَا مِنْ مَالِهِ لِسَيِّدَتِهَا } وَهَذَا الْحَدِيثُ تَكَلَّمَ بَعْضُهُمْ فِي إسْنَادِهِ لَكِنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَهُمْ يَحْتَجُّونَ بِمَا هُوَ دُونَهُ فِي الْقُوَّةِ وَلَكِنْ لِإِشْكَالِهِ قَوِيَ عِنْدَهُمْ تَضْعِيفُهُ . وَهَذَا الْحَدِيثُ يَسْتَقِيمُ عَلَى الْقِيَاسِ مَعَ ثَلَاثَةِ أُصُولٍ هِيَ صَحِيحَةٌ كُلٌّ مِنْهَا قَوْلُ طَائِفَة مِنْ الْفُقَهَاءِ : أَحَدُهَا : أَنَّ مَنْ غَيَّرَ مَالَ غَيْرِهِ بِحَيْثُ يُفَوِّتُ مَقْصُودَهُ عَلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ إيَّاهُ بِمِثْلِهِ وَهَذَا كَمَا إذَا تَصَرَّفَ فِي الْمَغْصُوبِ بِمَا أَزَالَ اسْمَهُ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . أَحَدُهَا : إنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ وَعَلَى الْغَاصِبِ ضَمَانُ النَّقْصِ وَلَا شَيْءَ لَهُ فِي الزِّيَادَةِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ . وَالثَّانِي : يَمْلِكُهُ الْغَاصِبُ بِذَلِكَ وَيَضْمَنُهُ لِصَاحِبِهِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَالثَّالِثُ : يُخَيَّرُ الْمَالِكُ بَيْنَ أَخْذِهِ وَتَضْمِينِ النَّقْصِ وَبَيْنَ الْمُطَالَبَةِ بِالْبَدَلِ وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ وَأَقْوَاهَا ; فَإِنْ فَوَّتَ صِفَاتِهِ الْمَعْنَوِيَّةَ مِثْلَ أَنْ يُنْسِيَهُ صِنَاعَتَهُ : أَوْ يُضْعِفَ قُوَّتَهُ ; أَوْ يُفْسِدَ عَقْلَهُ وَدِينَهُ : فَهَذَا أَيْضًا يُخَيَّرُ الْمَالِكُ بَيْنَ تَضْمِينِ النَّقْصِ وَبَيْنَ الْمُطَالَبَةِ بِالْبَدَلِ وَلَوْ قَطَعَ ذَنَبَ بَغْلَةِ الْقَاضِي . فَعِنْدَ مَالِكٍ يَضْمَنُهَا بِالْبَدَلِ وَيَمْلِكُهَا لِتَعَذُّرِ مَقْصُودِهَا عَلَى الْمَالِكِ فِي الْعَادَةِ ; أَوْ يُخَيَّرُ الْمَالِكُ وَكَذَلِكَ السُّلْطَانُ إذَا قَطَعَ آذَانَ فَرَسِهِ وَذَنَبَهَا . الْأَصْلُ الثَّانِي : أَنَّ جَمِيعَ الْمُتْلَفَاتِ تُضْمَنُ بِالْجِنْسِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ مَعَ مُرَاعَاةِ الْقِيمَةِ حَتَّى الْحَيَوَانِ كَمَا أَنَّهُ فِي الْقَرْضِ يَجِبُ فِيهِ رَدُّ الْمِثْلِ وَإِذَا اقْتَرَضَ حَيَوَانًا رَدَّ مِثْلَهُ كَمَا { اقْتَرَضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكْرًا وَرَدَّ خَيْرًا مِنْهُ } وَكَذَلِكَ فِي الْمَغْرُورِ يُضْمَنُ وَلَدُهُ بِمِثْلِهِمْ كَمَا قَضَتْ بِهِ الصَّحَابَةُ وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَثْنَى رَأْسَ الْمَبِيع وَلَمْ يَذْبَحْهُ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ قَضَوْا بِشِرَائِهِ أَيْ : بِرَأْسِ مِثْلِهِ فِي الْقِيمَةِ وَهَذَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَقِصَّةُ داود وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَإِنَّ الْمَاشِيَةَ كَانَتْ قَدْ أَتْلَفَتْ حَرْثَ الْقَوْمِ وَهُوَ بُسْتَانُهُمْ قَالُوا : وَكَانَ عَيْنًا وَالْحَرْثُ اسْمٌ لِلشَّجَرِ وَالزَّرْعِ فَقَضَى داود بِالْغَنَمِ لِأَصْحَابِ الْحَرْثِ كَأَنَّهُ ضَمَّنَهُمْ ذَلِكَ بِالْقِيمَةِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَالٌ إلَّا الْغَنَمُ فَأَعْطَاهُمْ الْغَنَمَ بِالْقِيمَةِ . وَأَمَّا سُلَيْمَانُ فَحَكَمَ بِأَنَّ أَصْحَابَ الْمَاشِيَةِ يَقُومُونَ عَلَى الْحَرْثِ حَتَّى يَعُودَ كَمَا كَانَ فَضَمَّنَهُمْ إيَّاهُ بِالْمِثْلِ وَأَعْطَاهُمْ الْمَاشِيَةَ يَأْخُذُونَ مَنْفَعَتَهَا عِوَضًا عَنْ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي فَاتَتْ مِنْ حِينِ تَلَفِ الْحَرْثِ إلَى أَنْ يَعُودَ وَبِذَلِكَ أَفْتَى الزُّهْرِيُّ لِعُمَرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِيمَنْ كَانَ أَتْلَفَ لَهُ شَجَرًا فَقَالَ : يَغْرِسُهُ حَتَّى يَعُودَ كَمَا كَانَ وَقِيلَ : رَبِيعَةُ وَأَبُو الزِّنَادِ قَالَا : عَلَيْهِ الْقِيمَةُ فَغَلَّظَ الزُّهْرِيُّ الْقَوْلَ فِيهِمَا . وَهَذَا مُوجَبُ الْأَدِلَّةِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ ضَمَانُ الْمُتْلَفِ بِالْمِثْلِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ قَالَ تَعَالَى : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } وَقَالَ : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } وَقَالَ : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } وَقَالَ : { وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } فَإِذَا أَتْلَفَ نَقْدًا أَوْ حُبُوبًا وَنَحْوَ ذَلِكَ أَمْكَنَ ضَمَانُهَا بِالْمِثْلِ وَإِنْ كَانَ الْمُتْلَفُ ثِيَابًا أَوْ آنِيَةً أَوْ حَيَوَانًا فَهُنَا مِثْلُهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَقَدْ يَتَعَذَّرُ . فَالْأَمْرُ دَائِرٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ : إمَّا أَنْ يَضْمَنَهُ بِالْقِيمَةِ وَهِيَ دَرَاهِمُ مُخَالِفَةٌ لِلْمُتْلَفِ فِي الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ لَكِنَّهَا تُسَاوِيهِ فِي الْمَالِيَّةِ وَإِمَّا أَنْ يَضْمَنَهُ بِثِيَابِ مِنْ جِنْسِ ثِيَابِ الْمِثْلِ أَوْ آنِيَةٍ مِنْ جِنْسِ آنِيَتِهِ أَوْ حَيَوَانٍ مِنْ جِنْسِ حَيَوَانِهِ مَعَ مُرَاعَاةِ الْقِيمَةِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَمَعَ كَوْنِ قِيمَتِهِ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ فَهُنَا الْمَالِيَّةُ مُسَاوِيَةٌ كَمَا فِي النَّقْدِ وَامْتَازَ هَذَا بِالْمُشَارَكَةِ فِي الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ فَكَانَ ذَلِكَ أَمْثَلَ مِنْ هَذَا وَمَا كَانَ أَمْثَلَ فَهُوَ أَعْدَلُ فَيَجِبُ الْحُكْمُ بِهِ إذَا تَعَذَّرَ الْمِثْلُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ . وَنَظِيرُ هَذَا مَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ مِنْ الْقِصَاصِ فِي اللَّطْمَةِ وَالضَّرْبَةِ وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ الشالنجي الَّتِي شَرَحَهَا الجوزجاني فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالْمُتَرْجِمِ فَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ : الْمُسَاوَاةُ متعذرة فِي ذَلِكَ فَيَرْجِعُ إلَى التَّعْزِيرِ ; فَيُقَالُ لَهُمْ : مَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ هُوَ مُوجَبُ الْقِيَاسِ فَإِنَّ التَّعْزِيرَ عِقَابٌ غَيْرُ مُقَدَّرِ الْجِنْسِ وَلَا الصِّفَةِ وَلَا الْقَدْرِ وَالْمَرْجِعُ فِيهِ إلَى اجْتِهَادِ الْوَالِي وَمِنْ الْمَعْلُومِ الْأَمْرُ بِضَرْبِ يُقَارِبُ ضَرْبَهُ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ مُسَاوٍ لَهُ : أَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ وَالْمُمَاثَلَةُ مِنْ عُقُوبَةٍ تُخَالِفُهُ فِي الْجِنْسِ وَالْوَصْفِ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ أَصْلًا . وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُمَاثِلَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مُتَعَذَّرٌ حَتَّى فِي الْمَكِيلَاتِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا ; فَإِنَّهُ إذَا أَتْلَفَ صَاعًا مِنْ بُرٍّ فَضَمِنَ بِصَاعِ مِنْ بُرٍّ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ أَحَدَ الصَّاعَيْنِ فِيهِ مِنْ الْحَبِّ مَا هُوَ مِثْلُ الْآخَرِ بَلْ قَدْ يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } فَإِنَّ تَحْدِيدَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ مِمَّا قَدْ يَعْجِزُ عَنْهُ الْبَشَرُ وَلِهَذَا يُقَالُ : هَذَا أَمْثَلُ مِنْ هَذَا إذَا كَانَ أَقْرَبَ إلَى الْمُمَاثَلَةِ مِنْهُ ; إذَا لَمْ تَحْصُلْ الْمُمَاثَلَةُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ . الْأَصْلُ الثَّالِثُ : مَنْ مَثَّلَ بِعَبْدِهِ عَتَقَ عَلَيْهِ . وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا وَقَدْ جَاءَتْ بِذَلِكَ آثَارٌ مَرْفُوعَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ كَعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ كَمَا قَدْ ذُكِرَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . فَهَذَا الْحَدِيثُ مُوَافِقٌ لِهَذِهِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ الثَّابِتَةِ بِالْأَدِلَّةِ الْمُوَافِقَةِ لِلْقِيَاسِ الْعَادِلِ فَإِذَا طَاوَعَتْهُ فَقَدْ أَفْسَدَهَا عَلَى سَيِّدِهَا ; فَإِنَّهَا مَعَ الْمُطَاوَعَةِ تَبْقَى زَانِيَةً : وَذَلِكَ يُنْقِصُ قِيمَتَهَا وَلَا يُمَكِّنُ سَيِّدَهَا مِنْ اسْتِخْدَامِهَا كَمَا كَانَتْ تُمْكِنُ قَبْلَ ذَلِكَ ; لِبُغْضِهِ لَهَا وَلِطَمَعِ الْجَارِيَةِ فِي السَّيِّدِ ; وَلِاسْتِشْرَافِ السَّيِّدِ إلَيْهَا لَا سِيَّمَا وَيَعْسُرُ عَلَى سَيِّدِهَا فَلَا يُطِيعُهَا كَمَا كَانَتْ تُطِيعُهُ وَإِذَا تَصَرَّفَ بِالْمَالِ بِمَا يُنْقِصُ قِيمَتَهُ كَانَ لِصَاحِبِهِ الْمُطَالَبَةُ بِالْمِثْلِ فَقَضَى لَهَا بِالْمِثْلِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَوْ رَضِيَتْ أَنْ تَبْقَى مِلْكًا لَهَا وَتُغَرِّمَهُ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهَا لَمْ يَمْتَنِعْ مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا الْمَقْضِيُّ بِهِ مَا أُبِيحَ لَهَا وَلَكِنْ مُوجَبُ هَذَا أَنَّ الْأَمَةَ إذَا أَفْسَدَهَا رَجُلٌ عَلَى أَهْلِهَا حَتَّى طَاوَعَتْ عَلَى الزِّنَا فَلِأَهْلِهَا أَنْ يُطَالِبُوهُ بِبَدَلِهَا وَوَجَبَ مِثْلُهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمِثْلَ يَجِبُ فِي كُلِّ مَضْمُونٍ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَأَمَّا إذَا اسْتَكْرَهَهَا فَإِنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْمُثْلَةِ ; فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْوَطْءِ مُثْلَةٌ فَإِنَّ الْوَطْءَ يَجْرِي مَجْرَى الْإِتْلَافِ . وَلِهَذَا قِيلَ : إنَّ مَنْ اسْتَكْرَهَ عَبْدَهُ عَلَى التلوط بِهِ عَتَقَ عَلَيْهِ وَلِهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ عَقْرٍ أَوْ عُقُوبَةٍ لَا تَجْرِي مَجْرَى مَنْفَعَةِ الْخِدْمَةِ فَهِيَ لَمَّا صَارَتْ لَهُ بِإِفْسَادِهَا عَلَى سَيِّدِهَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ مِثْلَهَا كَمَا فِي الْمُطَاوَعَةِ وَأَعْتَقَهَا عَلَيْهِ كَوْنُهُ مَثَّلَ بِهَا . وَقَدْ يُقَالُ إنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا إذَا اسْتَكْرَهَ عَبْدَهُ عَلَى الْفَاحِشَةِ عَتَقَ عَلَيْهِ وَلَوْ اسْتَكْرَهَ أَمَةَ الْغَيْرِ عَلَى الْفَاحِشَةِ عَتَقَتْ وَضَمِنَهَا بِمِثْلِهَا إلَّا أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ أَمَةِ امْرَأَتِهِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ شَرْعِيٌّ وَإِلَّا فَمُوجَبُ الْقِيَاسِ التَّسْوِيَةُ وَأَمَّا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فَهَذَا النَّهْيُ عَنْ إكْرَاهِهِنَّ عَلَى كَسْبِ الْمَالِ بِالْبِغَاءِ كَمَا نُقِلَ أَنَّ ابْنَ أَبِي الْمُنَافِقِ كَانَ لَهُ مِنْ الْإِمَاءِ مَا يُكْرِهُهُنَّ عَلَى الْبِغَاءِ وَلَيْسَ هُوَ اسْتِكْرَاهًا لِلْأَمَةِ عَلَى أَنْ يَزْنِيَ هُوَ بِهَا فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ التَّمْثِيلِ بِهَا وَذَاكَ إلْزَامٌ لَهَا بِأَنْ تَذْهَبَ فَتَزْنِي بِنَفْسِهَا مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : الْعِتْقُ بِالْمُثْلَةِ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ ثُمَّ شُرِعَ بَعْدَ ذَلِكَ . وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ أَدَقِّ الْأُمُورِ فَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فَهَذَا الَّذِي ظَهَرَ فِي تَوْجِيهِهِ وَتَخَرُّجِهِ عَلَى الْأُصُولِ الثَّابِتَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فَلَا يُحْتَاجُ إلَى الْكَلَامِ عَلَيْهِ . وَبِالْجُمْلَةِ فَمَا عَرَفْت حَدِيثًا صَحِيحًا إلَّا وَيُمْكِنُ تَخَرُّجُهُ عَلَى الْأُصُولِ الثَّابِتَةِ وَقَدْ تَدَبَّرْت مَا أَمْكَنَنِي مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ فَمَا رَأَيْت قِيَاسًا صَحِيحًا يُخَالِفُ حَدِيثًا صَحِيحًا كَمَا أَنَّ الْمَعْقُولَ الصَّرِيحَ لَا يُخَالِفُ الْمَنْقُولَ الصَّحِيحَ ; بَلْ مَتَى رَأَيْت قِيَاسًا يُخَالِفُ أَثَرًا فَلَا بُدَّ مِنْ ضَعْفِ أَحَدِهِمَا لَكِنَّ التَّمْيِيزَ بَيْنَ صَحِيحِ الْقِيَاسِ وَفَاسِدِهِ مِمَّا يَخْفَى كَثِيرٌ مِنْهُ عَلَى أَفَاضِلِ الْعُلَمَاءِ فَضْلًا عَمَّنْ هُوَ دُونَهُمْ ; فَإِنَّ إدْرَاكَ الصِّفَاتِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْأَحْكَامِ عَلَى وَجْهِهَا وَمَعْرِفَةَ الْحُكْمِ وَالْمَعَانِي الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا الشَّرِيعَةُ مِنْ أَشْرَفِ الْعُلُومِ فَمِنْهُ الْجَلِيُّ الَّذِي يَعْرِفُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَمِنْهُ الدَّقِيقُ الَّذِي لَا يَعْرِفُهُ إلَّا خَوَّاصُهُمْ ; فَلِهَذَا صَارَ قِيَاسُ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ يُرَدُّ مُخَالِفًا لِلنُّصُوصِ ; لِخَفَاءِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ عَلَيْهِمْ كَمَا يَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ مَا فِي النُّصُوصِ مِنْ الدَّلَائِلِ الدَّقِيقَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْأَحْكَامِ .