وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تيمية رَحِمَهُ اللَّهُ عَمَّا يَقَعُ فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ قَوْلِهِمْ : هَذَا خِلَافُ الْقِيَاسِ لِمَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَوْ قَوْلِ الصَّحَابَةِ أَوْ بَعْضِهِمْ وَرُبَّمَا كَانَ حُكْمًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ : تَطْهِيرُ الْمَاءِ إذَا وَقَعَ فِيهِ نَجَاسَةٌ خِلَافُ الْقِيَاسِ بَلْ وَتَطْهِيرُ النَّجَاسَةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَالتَّوَضُّؤُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَالْفِطْرُ بِالْحِجَامَةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَالسَّلَمُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَالْإِجَارَةُ وَالْحَوَالَةُ وَالْكِتَابَةُ وَالْمُضَارَبَةُ وَالْمُزَارَعَةُ وَالْمُسَاقَاةُ وَالْقَرْضُ وَصِحَّةُ صَوْمِ الْمُفْطِرِ نَاسِيًا وَالْمُضِيُّ فِي الْحَجِّ الْفَاسِدِ كُلُّ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ : فَهَلْ هَذَا الْقَوْلُ صَوَابٌ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يُعَارِضُ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ النَّصَّ أَمْ لَا ؟
فَصْلٌ وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : إزَالَةُ النَّجَاسَةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَالنِّكَاحُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَنَحْوُ ذَلِكَ : فَهُوَ مِنْ أَفْسَدِ الْأَقْوَالِ وَشُبْهَتُهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : الْإِنْسَانُ شَرِيفٌ وَالنِّكَاحُ فِيهِ ابْتِذَالُ الْمَرْأَةِ وَشَرَفُ الْإِنْسَانِ يُنَافِي الِابْتِذَالَ . وَهَذَا غَلَطٌ فَإِنَّ النِّكَاحَ مِنْ مَصْلَحَةِ شَخْصِ الْمَرْأَةِ وَنَوْعِ الْإِنْسَانِ وَالْقَدَرُ الَّذِي فِيهِ مِنْ كَوْنِ الذَّكَرِ يَقُومُ عَلَى الْأُنْثَى هُوَ مِنْ الْحِكْمَةِ الَّتِي بِهَا تَتِمُّ مَصْلَحَةُ جِنْسِ الْحَيَوَانِ فَضْلًا عَنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ وَمِثْلُ هَذَا الِابْتِذَالُ لَا يُنَافِي الْإِنْسَانِيَّةَ كَمَا لَا يُنَافِيهَا أَنْ يَتَغَوَّطَ الْإِنْسَانُ إذَا احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ وَأَنْ يَأْكُلَ وَيَشْرَبَ وَإِنْ كَانَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ ذَلِكَ أَكْمَلَ بَلْ مَا احْتَاجَ إلَيْهِ الْإِنْسَانُ وَحَصَلَتْ لَهُ بِهِ مَصْلَحَتُهُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ وَالْمَرْأَةُ مُحْتَاجَةٌ إلَى النِّكَاحِ وَهُوَ مِنْ تَمَامِ مَصْلَحَتِهَا فَكَيْفَ يُقَالُ : الْقِيَاسُ يَقْتَضِي مَنْعَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ ؟ وَكَذَلِكَ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ فَإِنَّ شُبْهَةَ مَنْ قَالَ : إنَّهَا تُخَالِفُ الْقِيَاسَ أَنَّ الْمَاءَ إذَا لَاقَاهَا نَجُسَ الْمَاءُ ثُمَّ إذَا صُبَّ مَاءٌ آخَرُ لَاقَى الْأَوَّلَ . وَهَلُمَّ جَرَّا قَالُوا : فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنَّهَا تُنَجِّسُ الْمِيَاهَ الْمُتَلَاحِقَةَ وَالنَّجِسَ لَا يُزِيلُ النَّجَسَ . وَهَذَا غَلَطٌ فَإِنَّهُ يُقَالُ لِمَ قُلْتُمْ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَاءَ إذَا لَاقَى النَّجَاسَةَ نَجُسَ ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ : لِأَنَّهُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ كَذَلِكَ . قِيلَ : الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ مَمْنُوعٌ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ : الْمَاءُ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ وَمَنْ سَلَّمَ الْأَصْلَ قَالَ لَيْسَ جَعْلُ الْإِزَالَةِ مُخَالِفَةً لِلْقِيَاسِ بِأَوْلَى مِنْ جَعْلِ تَنَجُّسِ الْمَاءِ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ بِأَنْ يُقَالَ : الْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَاءَ إذَا لَاقَى نَجَاسَةً لَا يَنْجُسُ كَمَا أَنَّهُ إذَا لَاقَاهَا حَالَ الْإِزَالَةِ لَا يَنْجُسُ فَهَذَا الْقِيَاسُ أَصَحُّ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ تَزُولُ بِالْمَاءِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَأَمَّا تَنَجُّسُ الْمَاءِ بِالْمُلَاقَاةِ فَمَوْرِدُ نِزَاعٍ فَكَيْفَ يُجْعَلُ مَوَاقِعُ النِّزَاعِ حُجَّةً عَلَى مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسُ أَنْ يُقَاسَ مَوَارِدُ النِّزَاعِ عَلَى مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ . ثُمَّ يُقَالُ : الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَعْقُولُ أَنَّ الْمَاءَ إذَا لَمْ تُغَيِّرْهُ النَّجَاسَةُ لَا يَنْجُسُ ; فَإِنَّهُ بَاقٍ عَلَى أَصْلِ خَلْقِهِ وَهُوَ طَيِّبٌ دَاخِلٌ فِي قَوْله تَعَالَى { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ } وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي الْمَائِعَاتِ جَمِيعِهَا إذَا وَقَعَتْ فِيهَا نَجَاسَةٌ فَاسْتَحَالَتْ حَتَّى لَمَّ يَظْهَرُ طَعْمُهَا وَلَا لَوْنُهَا وَلَا رِيحُهَا أَنْ لَا تَنْجُسَ فَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ : هَلْ الْقِيَاسُ يَقْتَضِي نَجَاسَةَ الْمَاءِ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الدَّلِيلُ أَوْ الْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ إذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَالْأَوَّلُ قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَالثَّانِي قَوْلُ أَهْلِ الْحِجَازِ . وَفُقَهَاءُ الْحَدِيثِ مِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ هَذَا ; وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ هَذَا وَهُمْ أَهْلُ الْحِجَازِ وَهُوَ الصَّوَابُ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأُصُولُ وَالنُّصُوصُ وَالْمَعْقُولُ ; فَإِنَّ اللَّهَ أَبَاحَ الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ الْخَبَائِثَ وَالطِّيبُ وَالْخُبْثُ بِاعْتِبَارِ صِفَاتٍ قَائِمَةٍ بِالشَّيْءِ فَمَا دَامَ عَلَى حَالِهِ فَهُوَ طَيِّبٌ فَلَا وَجْهَ لِتَحْرِيمِهِ ; وَلِهَذَا لَوْ وَقَعَتْ قَطْرَةُ خَمْرٍ فِي جُبٍّ لَمْ يُجْلَدْ شَارِبُهُ . وَاَلَّذِينَ يُسَلِّمُونَ أَنَّ الْقِيَاسَ نَجَاسَةُ الْمَاءِ بِالْمُلَاقَاةِ فَرَّقُوا بَيْنَ مُلَاقَاتِهِ فِي الْإِزَالَةِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا بِفُرُوقِ . مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْمَاءُ هَاهُنَا وَارِدٌ عَلَى النَّجَاسَةِ وَهُنَاكَ وَرَدَتْ النَّجَاسَةُ عَلَيْهِ وَهَذَا ضَعِيفٌ ; فَإِنَّهُ لَوْ صُبَّ مَاءٌ فِي جُبٍّ نَجِسٍ يَنْجُسُ عِنْدَهُمْ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْمَاءُ إذَا كَانَ فِي مَوْرِدِ التَّطْهِيرِ لِإِزَالَةِ الْخَبَثِ أَوْ الْحَدَثِ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمُ النَّجَاسَةِ وَلَا الِاسْتِعْمَالِ إلَّا إذَا انْفَصَلَ وَأَمَّا قَبْلَ الِانْفِصَالِ فَلَا يَكُونُ مُسْتَعْمَلًا وَلَا نَجِسًا . وَهَذَا حِكَايَةُ مَذْهَبٍ لَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْمَاءُ فِي حَالِ الْإِزَالَةِ جَارٍ وَالْمَاءُ الْجَارِي لَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ . وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَهُوَ أَنَصُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَهُوَ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ وَلَكِنَّ إزَالَةَ النَّجَاسَةِ تَارَةً تَكُونُ بِالْجَرَيَانِ وَتَارَةً تَكُونُ بِدُونِهِ كَمَا لَوْ صُبَّ الْمَاءُ عَلَى الثَّوْبِ فِي الطَّسْتِ . فَالصَّوَابُ أَنَّ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ وَالنَّجَاسَةُ لَا تَزُولُ بِهِ حَتَّى يَكُونَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ وَأَمَّا فِي حَالِ تَغَيُّرِهِ فَهُوَ نَجِسٌ لَكِنْ تُخَفَّفُ بِهِ النَّجَاسَةُ وَأَمَّا الْإِزَالَةُ فَإِنَّمَا تَحْصُلُ بِالْمَاءِ الَّذِي لَيْسَ بِمُتَغَيِّرِ . وَهَذَا الْقِيَاسُ فِي الْمَاءِ هُوَ الْقِيَاسُ فِي الْمَائِعَاتِ كُلِّهَا أَنَّهَا لَا تَنْجُسُ إذَا اسْتَحَالَتْ النَّجَاسَةُ فِيهَا وَلَمْ يَبْقَ لَهَا فِيهَا أَثَرٌ ; فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَا مِنْ الْخَبَائِثِ . وَهَذَا الْقِيَاسُ هُوَ الْقِيَاسُ فِي قَلِيلِ الْمَاءِ وَكَثِيرِهِ ; وَقَلِيلِ الْمَائِعِ وَكَثِيرِهِ فَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى نَجَاسَةِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلَا نَقُولُ : إنَّهُ خِلَافُ الْقِيَاسِ بَلْ نَقُولُ : دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النَّجَاسَةَ مَا اسْتَحَالَتْ . وَلِهَذَا كَانَ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي الْمِيَاهِ مَذْهَبَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ : أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد نَصَرَهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كَالْإِمَامِ أَبِي الْوَفَاءِ بْنِ عَقِيلٍ ; وَأَبِي مُحَمَّدٍ بْنِ الْمَنِيِّ . وَكَذَلِكَ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي طَهَارَةِ الْحَدَثِ بَاقٍ عَلَى طَهُورِيَّتِهِ وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْمَاءُ لَا يَنْجُسُ } فَلَا يَصِيرُ الْمَاءُ جُنُبًا وَلَا يَتَعَدَّى إلَيْهِ حُكْمُ الْجَنَابَةِ وَنَهْيُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ أَوْ عَنْ الِاغْتِسَالِ فِيهِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَصِيرُ نَجِسًا بِذَلِكَ بَلْ قَدْ نَهَى عَنْهُ لِمَا يُفْضِي إلَيْهِ الْبَوْلُ بَعْدَ الْبَوْلِ مِنْ إفْسَادِهِ أَوْ لِمَا يُؤَدِّي إلَى الْوَسْوَاسِ كَمَا { نَهَى عَنْ بَوْلِ الرَّجُلِ فِي مُسْتَحَمِّهِ وَقَالَ : عَامَّةُ الْوَسْوَاسِ مِنْهُ } وَنَهْيُهُ عَنْ الِاغْتِسَالِ قَدْ جَاءَ فِيهِ أَنَّهُ نَهَى - عَنْ الِاغْتِسَالِ فِيهِ بَعْدَ الْبَوْلِ وَهَذَا يُشْبِهُ نَهْيَهُ عَنْ بَوْلِ الْإِنْسَانِ فِي مُسْتَحَمِّهِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ { صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ : أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوا سَمْنَكُمْ } وَالتَّفْرِيقُ الْمَرْوِيُّ فِيهِ : " إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا ; وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ " غَلَطٌ كَمَا بَيَّنَهُ الْبُخَارِيُّ والترمذي وَغَيْرُهُمَا وَهُوَ مِنْ غَلَطِ مَعْمَرٍ فِيهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَاوِيهِ أَفْتَى فِيمَا إذَا مَاتَتْ أَنْ تُلْقَى وَمَا حَوْلَهَا وَيُؤْكَلَ فَقِيلَ لَهُمَا : إنَّهَا قَدْ دَارَتْ فِيهِ فَقَالَ : إنَّمَا ذَاكَ لَمَّا كَانَتْ حَيَّةً ; فَلَمَّا مَاتَتْ اسْتَقَرَّتْ . رَوَاهُ أَحْمَد فِي مَسَائِلِ ابْنِهِ صَالِحٍ . وَكَذَلِكَ الزُّهْرِيُّ رَاوِي الْحَدِيثِ أَفْتَى فِي الْجَامِدِ وَالْمَائِعِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ; سَمْنًا كَانَ أَوْ زَيْتًا ; أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ : بِأَنْ تُلْقَى وَمَا قَرُبَ مِنْهَا وَيُؤْكَلَ الْبَاقِي ; وَاحْتَجَّ بِالْحَدِيثِ فَكَيْفَ قَدْ يَكُونُ رَوَى فِيهِ الْفَرْقَ ؟ وَحَدِيثُ الْقُلَّتَيْنِ إنْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَهُ : { إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ وَفِي اللَّفْظِ الْآخَرِ : لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُوجِبَ لِنَجَاسَتِهِ كَوْنُ الْخَبَثِ فِيهِ مَحْمُولًا فَمَتَى كَانَ مُسْتَهْلَكًا فِيهِ لَمْ يَكُنْ مَحْمُولًا فَمَنْطُوقُ الْحَدِيثِ وَتَعْلِيلُهُ لَمْ يَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ . وَأَمَّا تَخْصِيصُ الْقُلَّتَيْنِ بِالذِّكْرِ فَإِنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنْ الْمَاءِ يَكُونُ بِأَرْضِ الْفَلَاةِ ; وَمَا يَنُوبُهُ مِنْ السِّبَاعِ وَالدَّوَابِّ ; وَذَلِكَ الْمَاءُ الْكَثِيرُ فِي الْعَادَةِ فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ فِيهِ خَبَثٌ فِي الْعَادَةِ بِخِلَافِ الْقَلِيلِ فَإِنَّهُ قَدْ يَحْمِلُ الْخَبَثَ وَقَدْ لَا يَحْمِلُهُ ; فَإِنَّ الْكَثِيرَةَ تُعِينُ عَلَى إحَالَةِ الْخَبَثِ إلَى طَبْعِهِ ; وَالْمَفْهُومُ لَا يَجِبُ فِيهِ الْعُمُومُ فَلَيْسَ إذَا كَانَ الْقُلَّتَانِ لَا تَحْمِلُ الْخَبَثَ يَلْزَمُ أَنَّ مَا دُونَهَا يَلْزَمُهُ مُطْلَقًا عَلَى أَنَّ التَّخْصِيصَ وَقَعَ جَوَابًا لِأُنَاسِ سَأَلُوهُ عَنْ مِيَاهٍ مُعَيَّنَةٍ ; فَقَدْ يَكُونُ التَّخْصِيصُ لِأَنَّ هَذِهِ كَثِيرَةٌ لَا تَحْمِلُ الْخَبَثَ وَالْقُلَّتَانِ كَثِيرٌ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ الْكَثِيرُ إلَّا قُلَّتَيْنِ وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ هَذَا حَدًّا فَاصِلًا بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ لَذَكَرَهُ ابْتِدَاءً وَلِأَنَّ الْحُدُودَ الشَّرْعِيَّةَ تَكُونُ مَعْرُوفَةً كَنِصَابِ الذَّهَبِ وَالْمُعَشَّرَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالْمَاءُ الَّذِي تَقَعُ فِيهِ النَّجَاسَةُ لَا يُعْلَمُ كَيْلُهُ إلَّا خَرْصًا ; وَلَا يُمْكِنُ كَيْلُهُ فِي الْعَادَةِ فَكَيْفَ يَفْصِلُ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ بِمَا يَتَعَذَّرُ مَعْرِفَتُهُ عَلَى غَالِبِ النَّاسِ فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ وَقَدْ أَطْلَقَ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ قَوْلَهُ : { الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ } وَ { الْمَاءُ لَا يُجْنِبُ } وَلَمْ يُقَدِّرْهُ مَعَ أَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ وَمَنْطُوقُ هَذَا الْحَدِيثِ يُوَافِقُ تِلْكَ وَمَفْهُومُهُ إنَّمَا يَدُلُّ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِدَلَالَةِ الْمَفْهُومِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ سَبَبٌ يُوجِبُ التَّخْصِيصَ بِالذِّكْرِ لَا الِاخْتِصَاصَ بِالْحُكْمِ وَهَذَا لَا يُعْلَمُ هُنَا . وَحَدِيثُ الْأَمْرِ بِإِرَاقَةِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ ; لِأَنَّ الْآنِيَةَ الَّتِي يَلَغُ فِيهَا الْكَلْبُ فِي الْعَادَةِ صَغِيرَةٌ وَلُعَابُهُ لَزِجٌ يَبْقَى فِي الْمَاءِ وَيَتَّصِلُ بِالْإِنَاءِ فَيُرَاقُ الْمَاءُ وَيُغْسَلُ الْإِنَاءُ مِنْ رِيقِهِ الَّذِي لَمْ يَسْتَحِلَّ بَعْدُ بِخِلَافِ مَا إذَا وَلَغَ فِي إنَاءٍ كَبِيرٍ وَقَدْ نَقَلَ حَرْبٌ عَنْ أَحْمَد فِي كَلْبٍ وَلَغَ فِي جُبٍّ كَبِيرٍ فِيهِ زَيْتٌ فَأَمَرَهُ بِأَكْلِهِ . وَبَسْطُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى مُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ وَمُوَافَقَتِهِ .