وَسُئِلَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَيُّمَا أَفْضَلُ لِمَنْ كَانَ بِمَكَّةَ : الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ ؟ أَوْ الْخُرُوجُ إلَى الْحِلِّ لِيَعْتَمِرَ مِنْهُ وَيَعُودَ ؟ وَهَلْ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ كَانَ بِمَكَّةَ كَثْرَةُ الِاعْتِمَارِ فِي رَمَضَانَ أَوْ فِي غَيْرِهِ أَوْ الطَّوَافُ بَدَلَ ذَلِكَ ؟ وَكَذَلِكَ كَثْرَةُ الِاعْتِمَارِ لِغَيْرِ الْمَكِّيِّ : هَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ ؟ وَهَلْ فِي اعْتِمَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْجِعْرَانَةِ وَفِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ مُسْتَنَدٌ لِمَنْ يَعْتَمِرُ مِنْ مَكَّةَ كَمَا فِي أَمْرِهِ لِعَائِشَةَ أَنْ تَعْتَمِرَ مَنْ التَّنْعِيمِ ؟ وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً } هَلْ هِيَ عُمْرَةُ الْأُفُقِيِّ ؟ أَوْ تَتَنَاوَلُ الْمَكِّيَّ الَّذِي يَخْرُجُ إلَى الْحِلِّ لِيَعْتَمِرَ فِي رَمَضَانَ ؟
فَصْلٌ " الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ " : فِي الْإِكْثَارِ مِنْ الِاعْتِمَارِ وَالْمُوَالَاةِ بَيْنَهَا : مِثْلَ أَنْ يَعْتَمِرَ مَنْ يَكُونُ مَنْزِلُهُ قَرِيبًا مِنْ الْحَرَمِ كُلَّ يَوْمٍ أَوْ كُلَّ يَوْمَيْنِ أَوْ يَعْتَمِرَ الْقَرِيبُ مِنْ الْمَوَاقِيتِ الَّتِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ يَوْمَانِ : فِي الشَّهْرِ خُمْسَ عُمَرٍ أَوْ سِتَّ عُمَرٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ . أَوْ يَعْتَمِرَ مَنْ يَرَى الْعُمْرَةَ مِنْ مَكَّةَ كُلَّ يَوْمٍ عُمْرَةً أَوْ عُمْرَتَيْنِ فَهَذَا مَكْرُوهٌ بِاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ بَلْ اتَّفَقُوا عَلَى كَرَاهِيَتِهِ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ اسْتَحَبَّهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فَلَيْسَ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ حُجَّةٌ أَصْلًا إلَّا مُجَرَّدَ الْقِيَاسِ الْعَامِّ . وَهُوَ أَنَّ هَذَا تَكْثِيرٌ لِلْعِبَادَاتِ أَوْ التَّمَسُّكَ بالعمومات فِي فَضْلِ الْعُمْرَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَاَلَّذِينَ رَخَّصُوا فِي أَكْثَرَ مِنْ عُمْرَةٍ فِي الْحَوْلِ أَكْثَرُ مَا قَالُوا : يَعْتَمِرُ إذَا أَمْكَنَ الْمُوسَى مِنْ رَأْسِهِ أَوْ فِي شَهْرٍ مَرَّتَيْنِ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد . قَالَ أَحْمَد : إذَا اعْتَمَرَ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ وَفِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ يُمْكِنُ حَلْقُ الرَّأْسِ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد فِعْلُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ الَّذِي رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ : أَنَّهُ كَانَ إذَا حَمَّمَ رَأْسُهُ خَرَجَ فَاعْتَمَرَ . وَهَذَا لِأَنَّ تَمَامَ النُّسُكِ الْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ وَهُوَ إمَّا وَاجِبٌ فِيهِ أَوْ مُسْتَحَبٌّ . وَمَنْ حَكَى عَنْ أَحْمَد أَوْ نَحْوِهِ أَنَّهُ لَيْسَ إلَّا مُبَاحًا لَا اسْتِحْبَابًا فَقَدْ غَلِطَ . فَمُدَّةُ نَبَاتِ الشَّعْرِ أَقْصَرُ مُدَّةٍ يُمْكِنُ فِيهَا إتْمَامُ النُّسُكِ وَلَا يَنْتَقِضُ هَذَا بِالْعُمْرَةِ عَقِيبَ الْحَجِّ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ لِلْمُفْرِدِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ لِضَرُورَةِ فِعْلِ الْعُمْرَةِ وَمَعَ هَذَا لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُهُ السَّلَفُ وَلَا فَعَلَهُ أَحَدٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ الثَّابِتُ الْمَنْقُولُ بِالتَّوَاتُرِ فِي حَجَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ أَنَّهُ أَمَرَ أَصْحَابَهُ جَمِيعَهُمْ إذَا طَافُوا بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَنْ يَحِلُّوا مِنْ إحْرَامِهِمْ وَيَجْعَلُوهَا عُمْرَةً إلَّا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ إلَى يَوْمِ النَّحْرِ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ وَقَالَ : { دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } . فَكَانَتْ عُمْرَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَمِيعِ أَصْحَابِهِ بِأَمْرِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ دَاخِلَةً فِي حَجِّهِمْ لَيْسَ بَيْنَهُمْ فَرْقٌ إلَّا أَنَّ أَكْثَرَهُمْ - وَهُمْ الَّذِينَ لَا هَدْيَ مَعَهُمْ - حَلُّوا مِنْ إحْرَامِهِمْ وَاَلَّذِينَ مَعَهُمْ الْهَدْيُ أَقَامُوا عَلَى إحْرَامِهِمْ وَكُلُّ ذَاكَ كَانُوا يُسَمُّونَهُ تَمَتُّعًا بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ كَمَا اسْتَفَاضَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي تُبَيِّنُ أَنَّ الْقَارِنَ مُتَمَتِّعٌ كَمَا أَنَّ مَنْ حَلَّ مِنْ الْعُمْرَةِ ثُمَّ حَجَّ مُتَمَتِّعٌ . فَمَنْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ فِي لُغَةِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِهِمْ وَالْقَارِنُ يَكُونُ قَارِنًا إذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ ابْتِدَاءً وَيَكُونُ قَارِنًا إذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ قَبْلَ الطَّوَافِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ وَإِذَا لَمْ يَحِلَّ الْمُتَمَتِّعُ مِنْ إحْرَامِهِ لِكَوْنِهِ قَدْ سَاقَ الْهَدْيَ وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ انْعَقَدَ إحْرَامُهُ بِالْحَجِّ وَيُسَمِّيهِ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ قَارِنًا لِعَدَمِ وُجُودِ التَّحَلُّلِ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ لَا يُسَمَّى قَارِنًا لِأَنَّ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ سَعْيًا آخَرَ بَعْدَ طَوَافِ الْفَرْضِ بِخِلَافِ الْقَارِنِ . وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا عَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ فَقَدْ اسْتَحَبَّ السَّعْيَ مَرَّةً ثَانِيَةً عَلَى الْمُتَمَتِّعِ وَقَدْ نَصَّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ عَلَى أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ يَكْفِيهِ السَّعْيُ الْأَوَّلُ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَغَيْرِهَا : { أَنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ تَمَتَّعُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً طَوَافَهُمْ الْأَوَّلَ } . وَلِهَذَا لَمَّا أَوْجَبَ اللَّه تَعَالَى فِيمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ كَانَ وَاجِبًا عَلَى مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ تَحَلُّلِهِ مِنْ الْعُمْرَةِ الَّتِي أَحْرَمَ بِهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَعَلَى مَنْ قَرَنَ الْعُمْرَةَ بِالْحَجِّ مِنْ حِينِ إحْرَامِهِ بِالْحَجِّ أَوْ فِي أَثْنَاءِ إحْرَامِهِ فِي الْحَجِّ . وَلِهَذَا كَانَ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ مُحْرِمًا بِعُمْرَةِ التَّمَتُّعِ وَلَمْ يُحْرِمْ بِالْحَجِّ إلَّا بَعْدَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ قَدْ يُسَمِّيهِ - مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْقِرَانِ وَبَيْنَ التَّمَتُّعِ الْخَاصِّ - قَارِنًا لِكَوْنِهِ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ تَحَلُّلِهِ مِنْ الْعُمْرَةِ وَقَدْ يُسَمُّونَهُ مُتَمَتِّعًا وَهُوَ أَشْهَرُ لِكَوْنِهِ لَمْ يُحْرِمْ إلَّا بَعْدَ قَضَاءِ الْعُمْرَةِ وَهُوَ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ لَا يَخْتَلِفُ بِهِ الْحُكْمُ بِحَالِ إلَّا مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ السَّعْيِ ثَانِيًا وَفِيمَنْ قَدْ يَسْتَحِبُّ لِلْمُتَمَتِّعِ أَنْ يَطُوفَ طَوَافَ الْقُدُومِ بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنْ عَرَفَةَ قَبْلَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ . وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَنْقُولًا عَنْ أَحْمَد وَاخْتَارَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ ; لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْأَخِيرُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَد . وَلِهَذَا كَانَ مَنْ رَوَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ وَمَنْ رَوَى أَنَّهُ قَرَنَ بَيْنَهُمَا كَانَ كِلَا الْحَدِيثَيْنِ صَوَابًا وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ . وَكَذَلِكَ مَنْ رَوَى أَنَّهُ أَفْرَدَ الْحَجَّ : كَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةُ وَغَيْرِهِمَا ; لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا إفْرَادَ أَعْمَالِ الْحَجِّ وَلِهَذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ رَوَوْا ذَلِكَ هُمْ الَّذِينَ رَوَوْا أَنَّهُ أَفْرَدَ أَعْمَالَ الْحَجِّ فَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَهُمَا بِتَحَلُّلِ كَمَا يَفْعَلُ الْمُتَمَتِّعُ إذَا تَحَلَّلَ مِنْ عُمْرَتِهِ وَلَا كَانَ فِي عَمَلِهِ زِيَادَةٌ عَلَى عَمَلِ الْمُفْرِدِ ; بِخِلَافِ الْمُتَمَتِّعِ الَّذِي تَحَلَّلَ مِنْ إحْرَامِهِ فَإِنَّهُ فَصَلَ بَيْنَ عُمْرَةِ تَمَتُّعِهِ وَحَجِّهِ بِتَحَلُّلِ . وَلَمْ يَعْتَمِرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ حَجَّتِهِ لَا هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ حَجُّوا مَعَهُ إلَّا عَائِشَةَ . فَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ جَمِيعِ النَّاسِ مُتَوَاتِرٌ تَوَاتُرًا يَعْرِفُهُ جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ بِحَجَّتِهِ لَا يَتَنَازَعُونَ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَمِرْ بَعْدَ حَجَّتِهِ . لَا مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ الَّذِي هُوَ التَّنْعِيمُ الَّذِي بُنِيَتْ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ الْمَسَاجِدُ الَّتِي تُسَمِّيهَا الْعَامَّةُ " مَسَاجِدَ عَائِشَةَ وَلَا مِنْ غَيْرِ التَّنْعِيمِ . وَلِهَذَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْأَحَادِيثَ الثَّابِتَةَ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا أَنْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ : عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ وَعُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ وَعُمْرَةَ الْجِعْرَانَةِ وَالْعُمْرَةَ الَّتِي مَعَ حَجَّتِهِ . فَإِنَّمَا مَعْنَاهَا أَنَّهُ اعْتَمَرَ عُمْرَةَ مُتَمَتِّعٍ سَاقَ الْهَدْيَ . وَهَذَا أَيْضًا قَارِنٌ فَتَسْمِيَتُهُ مُتَمَتِّعًا وَقَارِنًا سَوَاءٌ إذَا كَانَ قَدْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ وَهَذَا مُتَمَتِّعٌ وَهُوَ قَارِنٌ ; وَلِهَذَا كَانَ مَنْ غَلِطَ مِنْ الْفُقَهَاءِ فَقَالَ : إنَّهُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَقَطْ وَلَمْ يَقْرِنْ بِهِ عُمْرَةً لَا قَبْلَهُ وَلَا مَعَهُ أَوْ قَالَ : إنَّهُ أَحْرَمَ إحْرَامًا مُطْلَقًا ثُمَّ عَقَبَهُ الْحَجُّ فَإِنَّهُ يُنْكِرُ أَنَّ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ مَعَ حَجَّتِهِ وَيَلْزَمُهُ رَدُّ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُبَيِّنَةِ أَنَّهُ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ لِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْتَمِرْ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ غَيْرَ عَائِشَةَ عَقِبَ الْحَجِّ . وَلِهَذَا كَانَ هَذَا حُجَّةً قَاطِعَةً عَلَى مَا لَمْ يَتَنَازَعْ فِيهِ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَعَامَّةُ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ سَقَطَ عَنْهُ بِذَلِكَ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ سَوَاءٌ قِيلَ بِوُجُوبِهَا أَوْ بِتَوْكِيدِ اسْتِحْبَابِهَا دُونَ وُجُوبِهَا ; لِأَنَّ { الصَّحَابَةَ الَّذِينَ حَجُّوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمْرِهِ هَكَذَا فَعَلُوا وَأَخْبَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْعُمْرَةَ دَخَلَتْ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . وَقَالُوا لَهُ : أَعُمْرَتُنَا هَذِهِ لِعَامِنَا هَذَا ؟ أَمْ لِلْأَبَدِ ؟ فَقَالَ : بَلْ لِلْأَبَدِ دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } . قَالَ : وَمَنْ رَوَى مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْرَدَ الْحَجَّ أَرَادُوا بِذَلِكَ بَيَانَ أَنَّهُ لَمْ يَحِلَّ مِنْ إحْرَامِهِ لِعُمْرَةِ التَّمَتُّعِ كَمَا أَمَرَ بِذَلِكَ جُمْهُورَ أَصْحَابِهِ وَهُمْ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا سَاقُوا الْهَدْيَ فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ الثَّابِتَةَ الْمُتَوَاتِرَةَ كُلَّهَا مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ حِينَ قَدِمُوا مَكَّةَ فَطَافُوا بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَنْ يَحِلُّوا مِنْ إحْرَامِهِمْ وَيَجْعَلُوهَا عُمْرَةً إلَّا مِنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَإِنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَبْقَى عَلَى إحْرَامِهِ إلَى يَوْمِ النَّحْرِ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ عَمَلًا بِمَعْنَى قَوْلِهِ : { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ لَمْ يَتَنَازَعْ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ : أَنَّ حَجَّةَ الْوَدَاعِ كَانَتْ هَكَذَا . ثُمَّ إنَّ كَثِيرًا مِنْ الصَّحَابَةِ رَوَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَصَارَ يَظُنُّ قَوْمٌ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِذَلِكَ أَنَّهُ حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ كَمَا أَمَرَ بِذَلِكَ أَصْحَابَهُ الَّذِينَ لَمْ يَسُوقُوا الْهَدْيَ وَرُوِيَ أَيْضًا مَنْ رَوَى مِنْ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ : أَنَّهُ أَفْرَدَ الْحَجَّ ; لِيُزِيلُوا بِذَلِكَ ظَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ وَأَخْبَرُوا أَنَّهُ لَمْ يَحِلَّ مِنْ إحْرَامِهِ بَلْ فَعَلَ كَمَا يَفْعَلُ مَنْ أَفْرَدَ الْحَجَّ مِنْ بَقَائِهِ عَلَى إحْرَامِهِ وَعَمَلِ مَا يَعْمَلُهُ الْمُفْرِدُ . فَرِوَايَاتُ الصَّحَابَةِ مُتَّفِقَةٌ عَلَى هَذَا . وَكُلُّ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ رَوَى الْإِفْرَادَ فَقَدْ رَوَى التَّمَتُّعَ وَفَسَّرُوا التَّمَتُّعَ بِالْقِرَانِ وَرَوَوْا عَنْهُ صَرِيحًا { أنه قَالَ : لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا } وَأَنَّهُ { قال : أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ فَقَالَ : قُلْ عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ } . وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ أَنَّ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَالْقِرَانُ لَهُ أَفْضَلُ وَمَنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي سَفَرٍ وَقَدِمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَالتَّمَتُّعُ الْخَاصُّ أَفْضَلُ لَهُ وَإِنْ قَدِمَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَقَبْلَهُ بِعُمْرَةِ فَهَذَا أَفْضَلُ مِنْ التَّمَتُّعِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَفْرَدَ الْحَجَّ بِسَفْرَةِ وَالْعُمْرَةَ بِسَفْرَةِ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْمُتْعَةِ الْمُجَرَّدَةِ ; بِخِلَافِ مَنْ أَفْرَدَ الْعُمْرَةَ بِسَفْرَةِ ثُمَّ قَدِمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مُتَمَتِّعًا فَهَذَا لَهُ عُمْرَتَانِ وَحَجَّةٌ فَهُوَ أَفْضَلُ كَالصَّحَابَةِ الَّذِينَ اعْتَمَرُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ ثُمَّ تَمَتَّعُوا مَعَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَهَذَا أَفْضَلُ الْإِتْمَامِ . وَكَذَلِكَ فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ أَوَّلًا ثُمَّ قَرَنَ فِي حَجِّهِ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ لَمَّا سَاقَ الْهَدْيَ ; لَكِنَّهُ لَمْ يَزِدْ عَلَى عَمَلِ الْمُفْرِدِ فَلَمْ يَطُفْ لِلْعُمْرَةِ طَوَافًا رَابِعًا وَلِهَذَا قِيلَ : إنَّهُ أَفْرَدَ بِالْحَجِّ . ثُمَّ إنَّ النَّاسَ كَانُوا فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ لَمَّا رَأَوْا فِي ذَلِكَ مِنْ السُّهُولَةِ صَارُوا يَقْتَصِرُونَ عَلَى الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَيَتْرُكُونَ سَائِرَ الْأَشْهُرِ . لَا يَعْتَمِرُونَ فِيهَا مِنْ أَمْصَارِهِمْ فَصَارَ الْبَيْتُ يَعْرَى عَنْ الْعُمَّارِ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ فِي سَائِرِ الْحَوْلِ فَأَمَرَهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِمَا هُوَ أَكْمَلُ لَهُمْ بِأَنْ يَعْتَمِرُوا فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَيَصِيرُ الْبَيْتُ مَقْصُودًا مَعْمُورًا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَغَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ لَهُمْ عُمَرُ هُوَ الْأَفْضَلُ حَتَّى عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ التَّمَتُّعَ أَفْضَلُ مِنْ الْإِفْرَادِ وَالْقِرَانِ كَالْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . فَإِنَّ الْإِمَامُ أَحْمَد يَقُولُ : إنَّهُ إذَا اعْتَمَرَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْ يُؤَخِّرَ الْعُمْرَةَ إلَى أَشْهُرِ الْحَجِّ سَوَاءٌ قَدِمَ مَكَّةَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَاعْتَمَرَ وَأَقَامَ بِمَكَّةَ حَتَّى يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ أَوْ اعْتَمَرَ ثُمَّ رَجَعَ إلَى مِصْرِهِ أَوْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَهَذَا ظَاهِرٌ فَإِنَّ الْقَاصِدَ لِمَكَّةَ إذَا قَدِمَ مَثَلًا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَاعْتَمَرَ فِيهِ حَصَلَ لَهُ مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : { عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً } . وَإِنْ قَدِمَ قَبْلَ ذَلِكَ مُعْتَمِرًا وَأَقَامَ بِمَكَّةَ فَذَلِكَ كُلُّهُ أَفْضَلُ لَهُ فَإِنَّهُ يَطُوفُ بِمَكَّةَ وَيَعْتَكِفُ بِهَا تِلْكَ الْمُدَّةَ إلَى حِينِ الْإِهْلَالِ بِالْحَجِّ وَإِنْ رَجَعَ إلَى مِصْرِهِ ثُمَّ قَدِمَ وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَقَدْ أَفْرَدَ لِلْعُمْرَةِ سَفَرًا وَلِلْحَجِّ سَفَرًا وَذَلِكَ أَتَمُّ لَهُمَا كَمَا قَالَ عَلِيٌّ فِي قَوْله تَعَالَى { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } إتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دويرة أَهْلِك . أَيْ : تُنْشِئُ السَّفَرَ لَهُمَا مِنْ دويرة أَهْلِك .