وَسُئِلَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَيُّمَا أَفْضَلُ لِمَنْ كَانَ بِمَكَّةَ : الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ ؟ أَوْ الْخُرُوجُ إلَى الْحِلِّ لِيَعْتَمِرَ مِنْهُ وَيَعُودَ ؟ وَهَلْ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ كَانَ بِمَكَّةَ كَثْرَةُ الِاعْتِمَارِ فِي رَمَضَانَ أَوْ فِي غَيْرِهِ أَوْ الطَّوَافُ بَدَلَ ذَلِكَ ؟ وَكَذَلِكَ كَثْرَةُ الِاعْتِمَارِ لِغَيْرِ الْمَكِّيِّ : هَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ ؟ وَهَلْ فِي اعْتِمَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْجِعْرَانَةِ وَفِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ مُسْتَنَدٌ لِمَنْ يَعْتَمِرُ مِنْ مَكَّةَ كَمَا فِي أَمْرِهِ لِعَائِشَةَ أَنْ تَعْتَمِرَ مَنْ التَّنْعِيمِ ؟ وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً } هَلْ هِيَ عُمْرَةُ الْأُفُقِيِّ ؟ أَوْ تَتَنَاوَلُ الْمَكِّيَّ الَّذِي يَخْرُجُ إلَى الْحِلِّ لِيَعْتَمِرَ فِي رَمَضَانَ ؟
وَأَمَّا مَنْ قَدِمَ بِعُمْرَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَأَقَامَ إلَى أَنْ يَحُجَّ فَهَذَا أَيْضًا مَا أَعْلَمُ فِيهِ نِزَاعًا فَالتَّمَتُّعُ الْمُسْتَحَبُّ وَالْقِرَانُ الْمُسْتَحَبُّ وَالْإِفْرَادُ الْمُسْتَحَبُّ هُوَ الَّذِي يُجْزِئُهُ بِاتِّفَاقِهِمْ . وَبِسَبَبِ مَا وَقَعَ مِنْ اشْتِرَاكِ الْأَلْفَاظِ فِي الرِّوَايَةِ وَاخْتِلَافِ الِاجْتِهَادِ فِي الْعَمَلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ صَارَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ يَغْلَطُونَ فِي مَعْرِفَةِ " صِفَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ " فَيَظُنُّ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَتَّعَ بِمَعْنَى أَنَّهُ حَلَّ مِنْ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَهَذَا غَلَطٌ بِلَا رَيْبٍ . وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد : لَا أَشُكُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا وَالْمُتْعَةُ أَحَبُّ إلَيَّ . أَيْ لِمَنْ كَانَ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ ; فَإِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ قَوْلُهُ : أَنَّ مَنْ جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فِي سَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَدِمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَلَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ أَنَّ هَذَا التَّمَتُّعَ أَفْضَلُ لَهُ . بَلْ هُوَ الْمَسْنُونُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ . وَأَمَّا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ : فَهَلْ الْقِرَانُ أَفْضَلُ لَهُ ؟ أَمْ التَّمَتُّعُ ؟ ذَكَرُوا عَنْهُ رِوَايَتَيْنِ وَاَلَّذِي صَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ المروذي أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ لَهُ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَكَذَا حَجَّ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْحَدِيثِ وَهَذَا السَّائِقُ لِلْهَدْيِ تَمَتُّعُهُ وَقِرَانُهُ لَا يَخْتَلِفَانِ إلَّا فِي تَقَدُّمِ الْإِحْرَامِ وَتَأْخِيرِهِ . فَمَتَى أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ أَوْ قَرَنَ الْإِحْرَامَ بِالْعُمْرَةِ أَوْ بِزِيَادَةِ سَعْيٍ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ وَقَبْلَ طَوَافِهِ وَسَعْيِهِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُهُ كَانَ قَارِنًا وَهُوَ مُتَمَتِّعٌ تَمَتُّعَ قِرَانٍ بِلَا نِزَاعٍ . وَإِنْ لَمْ يُحْرِمْ بِالْحَجِّ إلَّا بَعْدَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى إحْرَامِهِ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ وَبَقَاؤُهُ عَلَى إحْرَامِهِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد إذَا كَانَ قَدْ سَاقَ الْهَدْيَ وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ إنَّمَا يَتَحَلَّلُ إنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ فَإِنَّهُ يَتَحَلَّلُ مِنْ عُمْرَتِهِ بِاتِّفَاقِهِمْ فَإِنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ تَحَلُّلِهِ مِنْ الْعُمْرَةِ فَفِيهِ نِزَاعٌ . وَمَنْ جَوَّزَ هَذَا مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد فَإِنَّهُمْ يُسَمُّونَهُ أَيْضًا " قَارِنًا " فَإِنَّهُ لَمْ يَتَحَلَّلْ مِنْ إحْرَامِهِ حَتَّى أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَهَلْ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ بَعْدَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ سَعْيٌ غَيْرُ السَّعْيِ الْأَوَّلِ الَّذِي كَانَ عَقِيبَ طَوَافِ الْعُمْرَةِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد عَلَى أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ يُجْزِئهُ سَعْيٌ وَاحِدٌ كَمَا يُجْزِئُ الْقَارِنَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَعَلَى هَذَا فَلَا يَخْتَلِفَانِ إلَّا بِالتَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَمَعْلُومٌ أَنَّ تَقَدُّمَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ أَفْضَلُ مِنْ تَأْخِيرِهِ ; لِأَنَّهُ أَكْمَلُ وَهَذَا الَّذِي ثَبَتَ صَحِيحًا صَرِيحًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ { قال أَنَسٌ : سَمِعْته يَقُولُ : لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا } وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ - { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : أَتَانِي آتٍ اللَّيْلَةَ مِنْ رَبِّي وَهُوَ بِالْعَقِيقِ فَقَالَ : صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ وَقُلْ عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ } وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسِهِ لَفْظًا يُخَالِفُ هَذَيْنِ أَلْبَتَّةَ ; بَلْ لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَفْظًا بِإِحْرَامِهِ إلَّا هَذَا . وَكَذَلِكَ { قَالَتْ عَائِشَةُ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ : خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةِ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فليهل بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ } . وَأَمَّا { قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت لَمَا سُقْت الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتهَا عُمْرَةً } فَهَذَا أَيْضًا يُبَيِّنُ أَنَّهُ مَعَ سَوْقِ الْهَدْيِ لَمْ يَكُنْ يَجْعَلُهَا عُمْرَةً وَأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ يَجْعَلُهَا عُمْرَةً إذَا لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَصْحَابَهُ الَّذِينَ أَمَرَهُمْ بِالْإِحْلَالِ وَهُمْ الَّذِينَ لَمْ يَسُوقُوا الْهَدْيَ كَرِهُوا أَنْ يَحِلُّوا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْتَادُونَ الْحِلَّ فِي وَسَطِ الْإِحْرَامِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَجْلِ تَطْيِيبِ قُلُوبِهِمْ يُوَافِقُهُمْ فِي الْفِعْلِ فَذَكَرَ أَنَّهُ لَوْ اسْتَقْبَلَ مِنْ أَمْرِهِ مَا اسْتَدْبَرَ . أَيْ : لَوْ كُنْت السَّاعَةَ مُبْتَدِئًا الْإِحْرَامَ لَمْ أَسُقْ الْهَدْيَ وَلَأَحْرَمْت بِعُمْرَةِ أَحِلُّ مِنْهَا . وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ النُّصُوصِ الثَّابِتَةِ عَنْهُ بِلَا نِزَاعٍ . وَهُوَ يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُخْتَارَ لِمَنْ قَدِمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَحَدُ أَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ يَسُوقَ الْهَدْيَ أَوْ يَتَمَتَّعَ تَمَتُّعَ قَارِنٍ أَوْ لَا يَسُوقُ الْهَدْيَ وَيَتَمَتَّعُ بِعُمْرَةِ وَيَحِلُّ مِنْهَا . ثُمَّ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ : إنَّ الَّذِي اخْتَارَهُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ هُوَ أَفْضَلُ الْأَمْرَيْنِ . وَأَمَّا { قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت لَمْ أَفْعَلْ ذَلِكَ } . فَهُوَ حُكْمٌ مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطٍ وَالْمُعَلَّقُ عَلَى شَرْطٍ عُدِمَ عِنْدَ عَدَمِهِ فَمَا اسْتَقْبَلَ مِنْ أَمْرِهِ مَا اسْتَدْبَرَ وَقَدْ اخْتَارَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مَا فَعَلَ وَاخْتَارَ لَهُ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَقْبِلْ مَا اسْتَدْبَرَ . وَلَا يَلْزَمُ إذَا كَانَ الشَّيْءُ أَفْضَلَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مُطْلَقًا . وَهَذَا كَقَوْلِهِ : { لَوْ لَمْ أُبْعَثْ فِيكُمْ لَبُعِثَ فِيكُمْ عُمَرُ } فَهُوَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عُمَرَ أَفْضَلُهُمْ لَوْ لَمْ يُبْعَثْ الرَّسُولُ وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مَعَ بَعْثِ الرَّسُولِ ; بَلْ أَبُو بَكْرٍ أَفْضَلُ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَلَكِنَّ هَذَا بَيَّنَ أَنَّ الْمُوَافَقَةَ إذَا كَانَ فِي تَنْوِيعِ الْأَعْمَالِ تَفَرُّقٌ وَتَشَتُّتٌ هُوَ أَوْلَى مِنْ تَنْوِيعِهَا وَتَنْوِيعُهَا اخْتِيَارُ الْقَادِرِ الْمَفْضُولِ لِلْأَفْضَلِ وَالْعَاجِزِ عَنْ الْمَفْضُولِ كَمَا اخْتَارَ مَنْ قَدَرَ عَلَى سَوْقِ الْهَدْيِ الْأَفْضَلَ . وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى سَوْقِهِ مَعَ السَّلَامَةِ عَنْ التَّفَرُّقِ وَمَعَ تَفَرُّقٍ يَعْقُبُهُ ائْتِلَافٌ هُوَ أَفْضَلُ . وَغَلِطَ أَيْضًا فِي " صِفَةِ حَجِّهِ " طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا : فَظَنُّوا أَنَّهُ إنَّمَا كَانَ مُفْرِدًا : يَعْنِي أَنَّهُ أَحْرَمَ بِحَجَّةِ مُفْرَدَةٍ وَلَمْ يَعْتَمِرْ مَعَهَا أَصْلًا وَهَذَا خِلَافُ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الثَّابِتَةِ أَيْضًا وَخِلَافُ مَا تَوَاتَرَ فِي سُنَّتِهِ . ثُمَّ قَدْ يَغْلَطُ طَوَائِفُ مِنْ مُتَأَخَّرِيهِمْ فَيَظُنُّونَ أَنَّهُ اعْتَمَرَ مَعَ ذَلِكَ مِنْ مَكَّةَ وَلِهَذَا لَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ مِمَّنْ لَهُ قَوْلٌ مُعْتَبَرٌ وَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِي أَنَّهُ أَمَرَ أَصْحَابَهُ الَّذِينَ لَمْ يَسُوقُوا الْهَدْيَ بِالتَّمَتُّعِ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ وَأَمْرُهُ فِي حَقِّ أُمَّتِهِ أَوْلَى بِهِمْ مِنْ فِعْلِهِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ اخْتِصَاصَهُ بِعَدَمِ الْإِحْلَالِ إنَّمَا كَانَ لِسُوَقِ الْهَدْيِ وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ عَنْهُ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { أن حَفْصَةَ قَالَتْ لَهُ : مَا بَالُ النَّاسِ حَلُّوا وَلَمْ تَحِلَّ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِك ؟ فَقَالَ : إنِّي لَبَّدْت رَأْسِي وَقَلَّدْت هَدْيِي فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ } فَهَذَا لَا يُنَافِي أَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ كَمَا رَوَى أَنَسٌ وَعُمَرُ وَغَيْرُهُمَا ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُسَمَّى عُمْرَةً ; لِأَنَّهُ وَحْدَهُ عَمَلُ الْمُعْتَمِرِ ; وَلِأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالْحِلِّ وَأَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً فَشَبَّهَتْهُ بِهِمْ . وَغَلِطَ أَيْضًا فِي " صِفَةِ حَجَّتِهِ " مَنْ غَلِطَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ : فَاعْتَقَدُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا بِمَعْنَى أَنَّهُ طَافَ وَسَعَى أَوَّلًا لِلْعُمْرَةِ ثُمَّ طَافَ وَسَعَى ثَانِيًا لِلْحَجِّ قَبْلَ التَّعْرِيفِ وَكُلُّ مَنْ نَظَرَ فِي الْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَطُفْ طَوَافَيْنِ وَلَا سَعَى سعيين وَلَا أَمَرَ بِذَلِكَ أَصْحَابَهُ الَّذِينَ سَاقُوا الْهَدْيَ وَأَمَرَهُمْ بِالْبَقَاءِ عَلَى إحْرَامِهِمْ فَضْلًا عَنْ الَّذِينَ أَمَرَهُمْ بِالْإِحْلَالِ . وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ يَأْمُرُ بِهِ عَلِيٌّ وَنَحْوُهُ : مِنْ فِعْلِ الطَّوَافَيْنِ والسعيين فَقَدْ ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّتِهِ طَافَ طَوَافَيْنِ وَسَعَى سعيين وَإِنَّمَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ كُتُبِ الرَّأْيِ الَّتِي يَرْوِي أَصْحَابُهَا أَحَادِيثَ كَثِيرَةً وَتَكُونُ ضَعِيفَةً وَهُمْ لَمْ يَتَعَمَّدُوا الْكَذِبَ لَكِنْ سَمِعُوا تِلْكَ الْأَحَادِيثَ مِمَّنْ لَا يَضْبُطُ الْحَدِيثَ . وَهَكَذَا الِاخْتِيَارُ . فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ وَإِنْ جَوَّزُوا الْأَنْسَاكَ الثَّلَاثَةَ فَقَدْ يَغْلَطُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِي الِاخْتِيَارِ فَأَعْدَلُ الْأَقْوَالِ وَهُوَ أَتْبَعُهَا لِلسُّنَّةِ وَأَصَحُّهَا فِي الْأَثَرِ وَالنَّظَرِ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ مَنْ قَدِمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مُرِيدًا لِلْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ فِي تِلْكَ السَّفْرَةِ : فَالسُّنَّةُ لَهُ التَّمَتُّعُ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ ثُمَّ إنْ سَاقَ الْهَدْيَ لَمْ يَحِلّ مِنْ إحْرَامِهِ وَلَكِنَّ إحْرَامَهُ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ أَوَّلًا قَبْلَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ أَفْضَلُ لَهُ مِنْ أَنْ يُؤَخِّرَ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ إلَى مَا بَعْدَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَإِنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ حَلَّ وَهَذَا أَفْضَلُ لَهُ مِنْ أَنْ يَجِيءَ بِعُمْرَةِ عَقِبَ الْحَجِّ . وَأَمَّا مَنْ أَفْرَدَهُمَا فِي سَفْرَةٍ وَاعْتَمَرَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَأَقَامَ إلَى الْحَجِّ فَهَذَا أَفْضَلُ مِنْ التَّمَتُّعِ وَهَذَا قَوْلُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَقَوْلُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ وَاخْتِيَارُ الْمُتْعَةِ هُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ مَكَّةَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَقَوْلُ بَنِي هَاشِمٍ . فَاتَّفَقَ عَلَى اخْتِيَارِهِ عُلَمَاءُ سُنَّتِهِ وَأَهْلُ بَلْدَتِهِ ; وَأَهْلُ بَيْتِهِ . وَمَالِكٍ وَإِنْ كَانَ يَخْتَارُ الْإِفْرَادَ فَلَا يَخْتَارُهُ لِمَنْ يَعْتَمِرُ عَقِبَ الْحَجِّ بَلْ يَعْتَمِرُ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ كَالْمُحَرَّمِ . وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِ يَخْتَارُ التَّمَتُّعَ وَفِي الْآخَرِ يَخْتَارُ إحْرَامًا مُطْلَقًا وَفِي الْآخَرِ يَخْتَارُ الْإِفْرَادَ وَلَكِنْ لَا أَحْفَظُ قَوْلَهُ فِيمَنْ يَعْتَمِرُ عَقِبَ الْحَجِّ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ يَجْعَلُ هَذَا هُوَ الْأَفْضَلَ فَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد يَظُنُّ أَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ الْمُتْعَةَ أَفْضَلُ مِنْ الِاعْتِمَارِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ . وَالْغَلَطُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرٌ عَلَى السُّنَّةِ ; وَعَلَى الْأَئِمَّةِ وَإِلَّا فَكَيْفَ يَشُكُّ مَنْ لَهُ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ فِي السُّنَّةِ أَنَّ أَصْحَابَهُ لَمْ يَعْتَمِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَقِيبَ الْحَجِّ وَكَيْفَ يَشُكُّ مُسْلِمٌ أَنَّ مَا فَعَلُوهُ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْأَفْضَلُ لَهُمْ وَلِمَنْ كَانَ حَالُهُ كَحَالِهِمْ . وَقَدْ تَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ وَإِنْ سَوَّغَ الْعُمْرَةَ مِنْ مَكَّةَ عَقِبَ الْحَجِّ لِمَنْ أَفْرَدَ . فَهَذَا لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَمَرَ بِهِ هُوَ - وَلَا أَحَدٌ مِنْ خُلَفَائِهِ وَلَا أَحَدٌ مِنْ صَحَابَتِهِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّتِهِمْ - أَمْرَ اخْتِيَارٍ وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يُضْعِفُ أَمْرَ الِاعْتِمَارِ مِنْ مَكَّةَ غَايَةَ الضَّعْفِ .