سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : - أَحْمَد بْنُ تيمية قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ مَا يَقُولُ سَيِّدُنَا وَشَيْخُنَا - شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَقُدْوَةُ الْأَنَامِ أَيَّدَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ - فِي رَجُلَيْنِ تَنَازَعَا فِي " حَدِيثِ النُّزُولِ " : أَحَدُهُمَا مُثْبِتٌ وَالْآخَرُ نَافٍ . فَقَالَ الْمُثْبِتُ : يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرِ فَقَالَ النَّافِي : كَيْفَ يَنْزِلُ ؟ فَقَالَ الْمُثْبِتُ : يَنْزِلُ بِلَا كَيْفٍ فَقَالَ النَّافِي : يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ أَمْ لَا يَخْلُو ؟ فَقَالَ الْمُثْبِتُ : هَذَا قَوْلٌ مُبْتَدَعٌ وَرَأْيٌ مُخْتَرَعٌ فَقَالَ النَّافِي : لَيْسَ هَذَا جَوَابِي بَلْ هُوَ حَيْدَةٌ عَنْ الْجَوَابِ فَقَالَ لَهُ الْمُثْبِتُ : هَذَا جَوَابُك . فَقَالَ النَّافِي : إنَّمَا يَنْزِلُ أَمْرُهُ وَرَحْمَتُهُ فَقَالَ الْمُثْبِتُ : أَمْرُهُ وَرَحْمَتُهُ يَنْزِلَانِ كُلَّ سَاعَةٍ وَالنُّزُولُ قَدْ وَقَّتَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُلُثَ اللَّيْلِ الْآخِرِ فَقَالَ النَّافِي : اللَّيْلُ لَا يَسْتَوِي وَقْتُهُ فِي الْبِلَادِ فَقَدْ يَكُونُ اللَّيْلُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَاعَةً وَنَهَارُهَا تِسْعَ سَاعَاتٍ وَيَكُونُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ سِتَّ عَشْرَةَ سَاعَةً وَالنَّهَارُ ثَمَانِ سَاعَاتٍ وَبِالْعَكْسِ ; فَوَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي طُولِ اللَّيْلِ وَقِصَرِهِ بِحَسَبِ الْأَقَالِيمِ وَالْبِلَادِ وَقَدْ يَسْتَوِي اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ وَقَدْ يَطُولُ اللَّيْلُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ حَتَّى يَسْتَوْعِبَ أَكْثَرَ الْأَرْبَعِ وَعِشْرِينَ سَاعَةً وَيَبْقَى النَّهَارُ عِنْدَهُمْ وَقْتٌ يَسِيرٌ ; فَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ ثُلُثُ اللَّيْلِ دَائِمًا وَيَكُونُ الرَّبُّ دَائِمًا نَازِلًا إلَى السَّمَاءِ . وَالْمَسْئُولُ إزَالَةُ الشُّبَهِ وَالْإِشْكَالِ وَقَمْعِ أَهْلِ الضَّلَالِ .
فَصْلٌ نِزَاعُ النَّاسِ فِي مَعْنَى " حَدِيثِ النُّزُولِ " وَمَا أَشْبَهَهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ الْأَفْعَالِ اللَّازِمَةِ الْمُضَافَةِ إلَى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِثْلَ الْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ وَالِاسْتِوَاءِ إلَى السَّمَاءِ وَعَلَى الْعَرْشِ بَلْ وَفِي الْأَفْعَالِ الْمُتَعَدِّيَةِ مِثْلَ الْخَلْقِ وَالْإِحْسَانِ وَالْعَدْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ هُوَ نَاشِئٌ عَنْ نِزَاعِهِمْ فِي أَصْلَيْنِ : ( أَحَدِهِمَا : أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى هَلْ يَقُومُ بِهِ فِعْلٌ مِنْ الْأَفْعَالِ ; فَيَكُونُ خَلْقُهُ لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فِعْلًا فَعَلَهُ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ أَوْ أَنَّ فِعْلَهُ هُوَ الْمَفْعُولُ وَالْخَلْقَ هُوَ الْمَخْلُوقُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ : و ( الْأَوَّلُ هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ السَّلَفِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ " عَنْ الْعُلَمَاءِ مُطْلَقًا وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ نِزَاعًا . وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ البغوي وَغَيْرُهُ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ الثَّقَفِيُّ والضبعي وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ خزيمة فِي " الْعَقِيدَةِ " الَّتِي اتَّفَقُوا هُمْ وَابْنُ خزيمة عَلَى أَنَّهَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ الكلاباذي فِي كِتَابِ " التَّعَرُّفِ لِمَذْهَبِ التَّصَوُّفِ " أَنَّهُ مَذْهَبُ الصُّوفِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ مَشْهُورٌ عِنْدَهُمْ وَبَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ فِي " الْكَلَامِ " كالرازي وَنَحْوِهِ يَنْصِبُ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ مَعَهُمْ فَيَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّ هَذَا مِمَّا انْفَرَدُوا بِهِ وَهُوَ قَوْلُ السَّلَفِ قَاطِبَةً وَجَمَاهِيرُ الطَّوَائِفِ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِ أَحْمَد مُتَقَدِّمُوهُمْ كُلُّهُمْ وَأَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى . وَكَذَلِكَ هُوَ قَوْلُ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْكَلَامِ : كالهشامية أَوْ كَثِيرٍ مِنْهُمْ والكرامية كُلِّهِمْ وَبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ أَسَاطِينِ الْفَلَاسِفَةِ : مُتَقَدِّمِيهِمْ وَمُتَأَخِّرِيهِمْ . وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الجهمية وَأَكْثَرِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ إلَى أَنَّ الْخَلْقَ هُوَ نَفْسُ الْمَخْلُوقِ وَلَيْسَ لِلَّهِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ صُنْعٌ وَلَا فِعْلٌ وَلَا خَلْقٌ وَلَا إبْدَاعٌ إلَّا الْمَخْلُوقَاتِ أَنْفُسَهَا وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ ; إذَا قَالُوا بِأَنَّ الرَّبَّ مُبْدِعٌ كَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ . و ( الْحُجَّةُ الْمَشْهُورَةُ لِهَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ خَلَقَ الْمَخْلُوقَاتِ بِخَلْقِ لَكَانَ ذَلِكَ الْخَلْقُ إمَّا قَدِيمًا وَإِمَّا حَادِثًا . فَإِنْ كَانَ قَدِيمًا لَزِمَ قِدَمُ كُلِّ مَخْلُوقٍ وَهَذَا مُكَابَرَةٌ . وَإِنْ كَانَ حَادِثًا فَإِنْ قَامَ بِالرَّبِّ لَزِمَ قِيَامُ الْحَوَادِثِ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ كَانَ الْخَلْقُ قَائِمًا بِغَيْرِ الْخَالِقِ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ . وَسَوَاءٌ قَامَ بِهِ أَوْ لَمْ يَقُمْ بِهِ يَفْتَقِرُ ذَلِكَ الْخَلْقُ إلَى خَلْقٍ آخَرَ وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ هَذَا عُمْدَتُهُمْ . و ( جَوَابُ السَّلَفِ وَالْجُمْهُورِ عَنْهَا بِمَنْعِ مُقَدِّمَاتِهَا كُلُّ طَائِفَةٍ تَمْنَعُ مُقَدِّمَةً وَيَلْزَمُهُمْ ذَلِكَ إلْزَامًا لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهُ . أَمَّا ( الْأَوْلَى فَقَوْلُهُمْ : لَوْ كَانَ قَدِيمًا لَزِمَ قِدَمُ الْمَخْلُوقِ ; يَمْنَعُهُمْ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُ : بِأَنَّ الْخَلْقَ فِعْلٌ قَدِيمٌ يَقُومُ بِالْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقُ مُحْدَثٌ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الكلابية وَالْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالصُّوفِيَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَقَالُوا : أَنْتُمْ وَافَقْتُمُونَا عَلَى أَنَّ إرَادَتَهُ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ مَعَ تَأَخُّرِ الْمُرَادِ كَذَلِكَ الْخَلْقُ هُوَ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ وَإِنْ كَانَ الْمَخْلُوقُ مُتَأَخِّرًا . وَمَهْمَا قُلْتُمُوهُ فِي الْإِرَادَةِ أَلْزَمْنَاكُمْ نَظِيرَهُ فِي الْخَلْقِ . وَهَذَا جَوَابٌ إلْزَامِيٌّ جَدَلِيٌّ لَا حِيلَةَ لَهُمْ فِيهِ . وَأَمَّا ( الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُمْ : لَوْ كَانَ حَادِثًا قَائِمًا بِالرَّبِّ لَزِمَ قِيَامُ الْحَوَادِثِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ ; فَقَدْ مَنَعَهُمْ ذَلِكَ السَّلَفُ وَأَئِمَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَسَاطِينُ الْفَلَاسِفَةِ وَكَثِيرٌ مِنْ مُتَقَدِّمِيهِمْ وَمُتَأَخِّرِيهِمْ وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ : كالهشامية والكرامية ; وَقَالُوا : لَا نُسَلِّمُ انْتِفَاءَ اللَّازِمِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ فِي " الْأَصْلِ الثَّانِي " . وَأَمَّا ( الثَّالِثُ فَقَوْلُهُمْ : إنْ لَمْ تَقُمْ بِهِ فَهُوَ مُحَالٌ ; فَهَذَا لَمْ يَمْنَعْهُمْ إيَّاهُ إلَّا طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ الْخَلْقُ يَقُومُ بِالْمَخْلُوقِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ الْخَلْقُ لَيْسَ فِي مَحَلٍّ كَمَا تَقُولُ الْمُعْتَزِلَةُ الْبَصْرِيُّونَ : فِعْلٌ بِإِرَادَةِ لَا فِي مَحَلٍّ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ لَا أَعْرِفُهُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَالْفَلَاسِفَةِ . وَأَمَّا ( الْمُقَدِّمَةُ الرَّابِعَةُ وَهِيَ قَوْلُهُمْ : الْخَلْقُ الْحَادِثُ يَفْتَقِرُ إلَى خَلْقٍ آخَرَ ; فَقَدْ مَنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ عَامَّةُ مَنْ يَقُولُ بِخَلْقِ حَادِثٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ وَالْفِقْهِ وَالتَّصَوُّفِ وَغَيْرِهِمْ : كَأَبِي مُعَاذٍ التومني وَزُهَيْرٍ الْإِبَرِيِّ والهشامية والكرامية وداود بْنِ عَلِيٍّ الأصبهاني وَأَصْحَابِهِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسَّلَفِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ وَقَالُوا : إذَا خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَلْقٍ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَحْتَاجَ ذَلِكَ الْخَلْقُ إلَى خَلْقٍ آخَرَ وَلَكِنَّ ذَلِكَ الْخَلْقَ يَحْصُلُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْخَلْقُ حَادِثًا . وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ إلْزَامِهِمْ أَنَّ الْحَادِثَ إمَّا أَنْ يَكْفِيَ فِي حُصُولِهِ الْقُدْرَةُ وَالْمَشِيئَةُ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكْفِيَ . فَإِنْ لَمْ يَكْفِ ذَلِكَ ; بَطَلَ قَوْلُهُمْ إنَّ الْمَخْلُوقَاتِ تَحْدُثُ بِمُجَرَّدِ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ بِلَا خَلْقٍ وَإِذَا بَطَلَ قَوْلُهُمْ ; تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْمَخْلُوقِ مِنْ خَالِقٍ خَلَقَهُ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ . وَإِنْ كَفَى فِي حُصُولِ الْمَخْلُوقِ الْقُدْرَةُ وَالْمَشِيئَةُ جَازَ حُصُولُ هَذَا الْخَلْقِ الَّذِي يَخْلُقُ بِهِ الْمَخْلُوقَاتِ بِالْقُدْرَةِ وَالْمَشِيئَةِ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى خَلْقٍ آخَرَ ; فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ ; لَا يَلْزَمُ أَنْ يُقَالَ : خَلَقْت الْمَخْلُوقَاتِ بِلَا خَلْقٍ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : خَلَقْت بِخَلْقِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ . وَتَبَيَّنَ أَنَّ النفاة لَيْسَ لَهُمْ قَطُّ حُجَّةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مُقَدِّمَةٍ إلَّا وَقَدْ نَقَضُوا تِلْكَ الْمُقَدِّمَةَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ; فَمُقَدِّمَاتُ حُجَّتِهِمْ كُلُّهَا مُنْتَقِضَةٌ . وَأَيْضًا فَمِنْ الْمَعْقُولِ أَنَّ الْمَفْعُولَ الْمُنْفَصِلَ الَّذِي يَفْعَلُهُ الْفَاعِلُ لَا يَكُونُ إلَّا بِفِعْلِ يَقُومُ بِذَاتِهِ . وَأَمَّا نَفْسُ فِعْلِهِ الْقَائِمِ بِذَاتِهِ فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى فِعْلٍ آخَرَ بَلْ يَحْصُلُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ ; وَلِهَذَا كَانَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا يَقُولُونَ : إنَّ الْخَلْقَ حَادِثٌ وَلَا يَقُولُونَ هُوَ مَخْلُوقٌ ; وَتَنَازَعُوا هَلْ يُقَالُ : إنَّهُ مُحْدَثٌ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ : إنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَكَلَامُهُ هُوَ حَدِيثٌ وَهُوَ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ . وَلَيْسَ بِمَخْلُوقِ بِاتِّفَاقِهِمْ وَيُسَمَّى حَدِيثًا وَحَادِثًا . وَهَلْ يُسَمَّى مُحْدَثًا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لَهُمْ . وَمَنْ كَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ لَا يُطْلِقُ لَفْظَ الْمُحْدَثِ إلَّا عَلَى الْمَخْلُوقِ الْمُنْفَصِلِ - كَمَا كَانَ هَذَا الِاصْطِلَاحُ هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمُتَنَاظِرِينَ الَّذِينَ تَنَاظَرُوا فِي الْقُرْآنِ فِي مِحْنَةِ الْإِمَامِ أَحْمَد رَحِمَهُ اللَّهُ وَكَانُوا لَا يَعْرِفُونَ لِلْمُحْدَثِ مَعْنًى إلَّا الْمَخْلُوقَ الْمُنْفَصِلَ - فَعَلَى هَذَا الِاصْطِلَاحِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنْ يُقَالَ الْقُرْآنُ مُحْدَثٌ بَلْ مَنْ قَالَ إنَّهُ مُحْدَثٌ فَقَدْ قَالَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ . وَلِهَذَا أَنْكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَد هَذَا الْإِطْلَاقَ عَلَى " داود لَمَّا كَتَبَ إلَيْهِ أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِذَلِكَ ; فَظَنَّ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ بِهَذَا الِاصْطِلَاحِ أَنَّهُ أَرَادَ هَذَا فَأَنْكَرَهُ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ .
وداود نَفْسُهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا قَصْدَهُ بَلْ هُوَ وَأَئِمَّةُ أَصْحَابِهِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَإِنَّمَا كَانَ مَقْصُودُهُ أَنَّهُ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ ; هُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَهُوَ قَوْلُ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ . وَالنِّزَاعُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ " لَفْظِيٌّ " ; فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ مُنْفَصِلٍ وَمُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ قَائِمٌ بِذَاتِهِ وَكَانَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ : كَأَحْمَدَ وَأَمْثَالِهِ وَالْبُخَارِيِّ وَأَمْثَالِهِ وداود وَأَمْثَالِهِ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَمْثَالِهِ وَابْنِ خزيمة وَعُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ الدارمي وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرِهِمْ ; مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ ; وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ ; وَأَوَّلُ مَنْ شُهِرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ هُوَ ابْنُ كُلَّابٍ . وَكَانَ " الْإِمَامُ أَحْمَد يُحَذِّرُ مِنْ الكلابية وَأَمَرَ بِهَجْرِ الْحَارِثِ الْمُحَاسَبِيِّ لِكَوْنِهِ كَانَ مِنْهُمْ . وَقَدْ قِيلَ عَنْ الْحَارِثِ أَنَّهُ رَجَعَ فِي الْقُرْآنِ عَنْ قَوْلِ ابْنِ كُلَّابٍ وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : إنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ . وَمِمَّنْ ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْهُ الكلاباذي فِي كِتَابِ " التَّعَرُّفُ لِمَذْهَبِ التَّصَوُّفِ " . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ : لَوْ كَانَ خَلْقُهُ لِلْأَشْيَاءِ لَيْسَ هُوَ الْأَشْيَاءَ لَافْتَقَرَ الْخَلْقُ إلَى خَلْقٍ آخَرَ فَيَكُونُ الْخَلْقُ مَخْلُوقًا : مَمْنُوعٌ . بَلْ الْخَلْقُ يَحْصُلُ بِقُدْرَةِ الرَّبِّ وَمَشِيئَتِهِ وَالْمَخْلُوقُ يَحْصُلُ بِالْخَلْقِ . ( وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْخَامِسَةُ وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى التَّسَلْسُلِ ; فَهَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ تُقَالُ عَلَى وَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا أَنَّ الْخَلْقَ يَفْتَقِرُ إلَى خَلْقٍ آخَرَ وَذَلِكَ الْخَلْقُ إلَى خَلْقٍ آخَرَ كَمَا تَقَدَّمَ . ( وَالثَّانِي أَنْ يُقَالَ : هَبْ أَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى خَلْقٍ لَكِنْ يَفْتَقِرُ إلَى سَبَبٍ يَحْصُلُ بِهِ الْخَلْقُ . وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ ذَلِكَ خَلْقًا وَذَلِكَ السَّبَبُ إنَّمَا تَمَّ عِنْدَ وُجُودِ الْخَلْقِ ; فَتَمَامُهُ حَادِثٌ وَكُلُّ حَادِثٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ ; إذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ الْخَلْقُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى سَبَبٍ حَادِثٍ لَلَزِمَ وُجُودُ الْحَادِثِ بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ . وَإِنْ قِيلَ : إنَّ السَّبَبَ التَّامَّ قَدِيمٌ ; لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ تَأَخُّرُ الْمُسَبَّبِ عَنْ سَبَبِهِ التَّامِّ ; وَهَذَا مُمْتَنِعٌ . وَهُنَا لِلْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْخَلْقَ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ وَأَنَّ الْخَلْقَ حَادِثٌ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ : ( أَحَدُهَا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : الْخَلْقُ الْحَادِثُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى سَبَبٍ حَادِثٍ لَا إلَى خَلْقٍ وَلَا إلَى غَيْرِهِ ; قَالُوا : أَنْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُنَازِعِينَ كُلُّكُمْ يَقُولُ إنَّهُ قَدْ يَحْدُثُ حَادِثٌ بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ فَإِنَّهُ مَنْ قَالَ : الْمَخْلُوقُ غَيْرُ الْخَلْقِ ; فَالْمَخْلُوقَاتُ كُلُّهَا حَادِثَةٌ عِنْدَهُ بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ وَمَنْ قَالَ : الْخَلْقُ قَدِيمٌ فَلَا رَيْبَ أَنَّ الْقَدِيمَ لَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِوَقْتِ مُعَيَّنٍ ; فَالْمَخْلُوقُ الْحَادِثُ فِي وَقْتِهِ الْمُعَيَّنِ لَهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ سَبَبٌ حَادِثٌ . قَالُوا : وَإِذَا كَانَ هَذَا لَازِمًا عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ ; لَمْ يُخَصَّ بِجَوَابِهِ بَلْ نَقُولُ الْمَخْلُوقُ حَدَثَ بِالْخَلْقِ وَالْخَلْقُ حَصَلَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ الْقَدِيمَةِ مِنْ غَيْرِ افْتِقَارٍ إلَى سَبَبٍ آخَرَ وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ الطَّوَائِفِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ كالكرامية وَغَيْرِهِمْ . ( الْجَوَابُ الثَّانِي قَوْلُ مَنْ يَقُولُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ : إنَّ الْخَلْقَ الْحَادِثَ قَائِمٌ بِالْمَخْلُوقِ أَوْ قَائِمٌ لَا بِمَحَلِّ كَمَا يَقُولُونَ فِي الْإِرَادَةِ إنَّهَا حَادِثَةٌ لَا فِي مَحَلٍّ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ اقْتَضَى حُدُوثَهَا بَلْ أَحْدَثَهَا بِمُجَرَّدِ الْقُدْرَةِ . ( الْجَوَابُ الثَّالِثُ : جَوَابُ مَعْمَرٍ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ يُسَمَّوْنَ " أَهْلَ الْمَعَانِي " فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ بِالتَّسَلْسُلِ فِي آنٍ وَاحِدٍ فَيَقُولُونَ : إنَّ الْخَلْقَ لَهُ خَلْقٌ وَلِلْخَلْقِ خَلْقٌ وَلِلْخَلْقِ خَلْقٌ آخَرُ وَهَلُمَّ جَرًّا لَا إلَى نِهَايَةٍ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ كُلُّهُ فِي آنٍ وَاحِدٍ وَهَذَا مَشْهُورٌ عَنْهُمْ . و ( الْجَوَابُ الرَّابِعُ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : الْخَلْقُ الْحَادِثُ يَفْتَقِرُ إلَى سَبَبٍ حَادِثٍ وَكَذَلِكَ ذَلِكَ السَّبَبُ وَهَلُمَّ جَرًّا . وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ دَوَامَ نَوْعِ ذَلِكَ وَهَذَا غَيْرُ مُمْتَنِعٍ ; فَإِنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَكَلِمَاتُهُ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَكُلُّ كَلَامٍ مَسْبُوقٍ بِكَلَامِ قَبْلَهُ لَا إلَى نِهَايَةٍ مَحْدُودَةٍ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَتَكَلَّمُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ . وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ : الْحَيُّ لَا يَكُونُ إلَّا فَعَّالًا كَمَا قَالَهُ الْبُخَارِيُّ وَذَكَرَهُ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ . وَعُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ وَابْنِ خزيمة وَغَيْرِهِمْ وَلَا يَكُونُ إلَّا مُتَحَرِّكًا كَمَا قَالَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدارمي وَغَيْرُهُ وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَذْكُرُ أَنَّ ذَلِكَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ . وَهَكَذَا يَقُولُ ذَلِكَ مِنْ أَسَاطِينِ الْفَلَاسِفَةِ مَنْ ذُكِرَ قَوْلُهُ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ مُتَقَدِّمِيهِمْ وَمُتَأَخِّرِيهِمْ . قَالُوا وَهَذَا تَسَلْسُلٌ فِي الْآثَارِ وَالْبُرْهَانُ إنَّمَا دَلَّ عَلَى امْتِنَاعِ التَّسَلْسُلِ فِي الْمُؤَثِّرِينَ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَهُوَ مِمَّا اتَّفَقَ الْعُقَلَاءُ عَلَى امْتِنَاعِهِ كَمَا بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . فَأَمَّا كَوْنُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَتَكَلَّمُ كَلِمَاتٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ صَحِيحُ الْمَنْقُولِ وَصَرِيحُ الْمَعْقُولِ وَهُوَ مَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَالْفَلَاسِفَةُ تُوَافِقُ عَلَى دَوَامِ هَذَا النَّوْعِ وَقُدَمَاءُ أَسَاطِينِهِمْ يُوَافِقُونَ عَلَى قِيَامِ ذَلِكَ بِذَاتِ اللَّهِ كَمَا يَقُولُهُ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَسَلَفُهُمْ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا إنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ هُمْ أَهْلُ الْكَلَامِ الْمُحْدَثِ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ الجهمية وَالْمُعْتَزِلَةِ وَهُمْ الَّذِينَ اسْتَدَلُّوا عَلَى حُدُوثِ كُلِّ مَا تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ بِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا . وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ .