تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : - أَحْمَد بْنُ تيمية قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ مَا يَقُولُ سَيِّدُنَا وَشَيْخُنَا - شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَقُدْوَةُ الْأَنَامِ أَيَّدَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ - فِي رَجُلَيْنِ تَنَازَعَا فِي " حَدِيثِ النُّزُولِ " : أَحَدُهُمَا مُثْبِتٌ وَالْآخَرُ نَافٍ . فَقَالَ الْمُثْبِتُ : يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرِ فَقَالَ النَّافِي : كَيْفَ يَنْزِلُ ؟ فَقَالَ الْمُثْبِتُ : يَنْزِلُ بِلَا كَيْفٍ فَقَالَ النَّافِي : يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ أَمْ لَا يَخْلُو ؟ فَقَالَ الْمُثْبِتُ : هَذَا قَوْلٌ مُبْتَدَعٌ وَرَأْيٌ مُخْتَرَعٌ فَقَالَ النَّافِي : لَيْسَ هَذَا جَوَابِي بَلْ هُوَ حَيْدَةٌ عَنْ الْجَوَابِ فَقَالَ لَهُ الْمُثْبِتُ : هَذَا جَوَابُك . فَقَالَ النَّافِي : إنَّمَا يَنْزِلُ أَمْرُهُ وَرَحْمَتُهُ فَقَالَ الْمُثْبِتُ : أَمْرُهُ وَرَحْمَتُهُ يَنْزِلَانِ كُلَّ سَاعَةٍ وَالنُّزُولُ قَدْ وَقَّتَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُلُثَ اللَّيْلِ الْآخِرِ فَقَالَ النَّافِي : اللَّيْلُ لَا يَسْتَوِي وَقْتُهُ فِي الْبِلَادِ فَقَدْ يَكُونُ اللَّيْلُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَاعَةً وَنَهَارُهَا تِسْعَ سَاعَاتٍ وَيَكُونُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ سِتَّ عَشْرَةَ سَاعَةً وَالنَّهَارُ ثَمَانِ سَاعَاتٍ وَبِالْعَكْسِ ; فَوَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي طُولِ اللَّيْلِ وَقِصَرِهِ بِحَسَبِ الْأَقَالِيمِ وَالْبِلَادِ وَقَدْ يَسْتَوِي اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ وَقَدْ يَطُولُ اللَّيْلُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ حَتَّى يَسْتَوْعِبَ أَكْثَرَ الْأَرْبَعِ وَعِشْرِينَ سَاعَةً وَيَبْقَى النَّهَارُ عِنْدَهُمْ وَقْتٌ يَسِيرٌ ; فَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ ثُلُثُ اللَّيْلِ دَائِمًا وَيَكُونُ الرَّبُّ دَائِمًا نَازِلًا إلَى السَّمَاءِ . وَالْمَسْئُولُ إزَالَةُ الشُّبَهِ وَالْإِشْكَالِ وَقَمْعِ أَهْلِ الضَّلَالِ .
123456789101112131415161718192021222324252627282930
وَفِي الْأَثَرِ فِي تَفْسِيرِ " الْحَنَّانُ الْمَنَّانُ " : أَنَّ الْحَنَّانَ هُوَ الَّذِي يُقْبِلُ عَلَى مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ وَالْمَنَّانَ الَّذِي يَبْدَأُ بِالنَّوَالِ قَبْلَ السُّؤَالِ وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ أَنْوَاعِ جِنْسِ الْحَرَكَةِ الْعَامَّةِ وَالْحَرَكَةُ الْعَامَّةُ هِيَ التَّحَوُّلُ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ ; وَمِنْهُ قَوْلُنَا : لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَلَا أَدُلُّك عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ ؟ قَالَ : بَلَى قَالَ : لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ } . وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ : اللَّهُ أَكْبَرُ ; فَقَالَ الرَّجُلُ : اللَّهُ أَكْبَرُ فَقَالَ : أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ; فَقَالَ : أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ثُمَّ قَالَ : أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ ; فَقَالَ : أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ : حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ ; فَقَالَ : لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ ثُمَّ قَالَ : حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ فَقَالَ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ ثُمَّ قَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ فَقَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ } . فَلَفْظُ الْحَوْلِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ تَحَوُّلٍ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ وَالْقُوَّةُ هِيَ الْقُدْرَةُ عَلَى ذَلِكَ التَّحَوُّلِ ; فَدَلَّتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ الْعَظِيمَةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ حَرَكَةٌ وَتَحَوُّلٌ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ وَلَا قُدْرَةَ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِاَللَّهِ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُفَسِّرُ ذَلِكَ بِمَعْنَى خَاصٍّ فَيَقُولُ : لَا حَوْلَ مِنْ مَعْصِيَتِهِ إلَّا بِعِصْمَتِهِ . وَلَا قُوَّةَ عَلَى طَاعَتِهِ إلَّا بِمَعُونَتِهِ . وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ هُوَ التَّفْسِيرُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ فَإِنَّ الْحَوْلَ لَا يَخْتَصُّ بِالْحَوْلِ عَنْ الْمَعْصِيَةِ وَكَذَلِكَ الْقُوَّةُ لَا تَخْتَصُّ بِالْقُوَّةِ عَلَى الطَّاعَةِ بَلْ لَفْظُ الْحَوْلِ يَعُمُّ كُلَّ تَحَوُّلٍ . وَمِنْهُ لَفْظُ " الْحِيلَة " وَوَزْنُهَا فِعْلَةٌ بِالْكَسْرِ وَهِيَ النَّوْعُ الْمُخْتَصُّ مِنْ الْحَوْلِ كَمَا يُقَالُ : الْجِلْسَةُ وَالْقِعْدَةُ وَاللِّبْسَةُ وَالْإِكْلَةُ وَالضِّجْعَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ بِالْكَسْرِ هِيَ النَّوْعُ الْخَاصُّ وَهُوَ بِالْفَتْحِ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ . فَالْحِيلَةُ أَصْلُهَا حُولَةٌ لَكِنَّ لَمَّا جَاءَتْ الْوَاوُ السَّاكِنَةُ بَعْدَ كَسْرَةٍ قُلِبَتْ يَاءً كَمَا فِي لَفْظِ مِيزَانٍ وَمِيقَاتٍ وَمِيعَادٍ وَزْنُهُ مفعال ; وَقِيَاسُهُ موزان وموقات ; لَكِنْ لَمَّا جَاءَتْ الْوَاوُ السَّاكِنَةُ بَعْدَ كَسْرَةٍ قُلِبَتْ يَاءً قَالَ تَعَالَى : { إلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً } مِنْ الْحِيَلِ ; فَإِنَّهَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَتَعُمُّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْحِيَلِ . وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْقُوَّةِ " قَالَ تَعَالَى : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً } وَلَفْظُ الْقُوَّةِ قَدْ يُرَادُ بِهِ مَا كَانَ فِي الْقُدْرَةِ أَكْمَلَ مِنْ غَيْرِهِ ; فَهُوَ قُدْرَةٌ أَرْجَحُ مِنْ غَيْرِهَا أَوْ الْقُدْرَةُ التَّامَّةُ . وَلَفْظُ " الْقُوَّةِ " قَدْ يَعُمُّ الْقُوَّةَ الَّتِي فِي الْجَمَادَاتِ بِخِلَافِ لَفْظِ الْقُدْرَةِ ; فَلِهَذَا كَانَ الْمَنْفِيُّ بِلَفْظِ الْقُوَّةِ أَشْمَلَ وَأَكْمَلَ . فَإِذَا لَمْ تَكُنْ قُوَّةٌ إلَّا بِهِ لَمْ تَكُنْ قُدْرَةٌ إلَّا بِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ النَّاسَ مُتَنَازِعُونَ فِي جِنْسِ " الْحَرَكَةِ الْعَامَّةِ " الَّتِي تَتَنَاوَلُ مَا يَقُومُ بِذَاتِ الْمَوْصُوفِ مِنْ الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ كَالْغَضَبِ وَالرِّضَا وَالْفَرَحِ وَكَالدُّنُوِّ وَالْقُرْبِ وَالِاسْتِوَاءِ وَالنُّزُولِ بَلْ وَالْأَفْعَالُ الْمُتَعَدِّيَةُ كَالْخَلْقِ وَالْإِحْسَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : ( أَحَدُهَا قَوْلُ مَنْ يَنْفِي ذَلِكَ مُطْلَقًا وَبِكُلِّ مَعْنًى فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُومَ بِالرَّبِّ شَيْءٌ مِنْ الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ . فَلَا يَرْضَى عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا عَنْهُ وَلَا يَغْضَبُ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ غَضْبَانَ وَلَا يَفْرَحُ بِالتَّوْبَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ ; وَلَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ إذَا قِيلَ إنَّ ذَلِكَ قَائِمٌ بِذَاتِهِ . وَهَذَا الْقَوْلُ أَوَّلُ مَنْ عُرِفَ بِهِ هُمْ " الجهمية وَالْمُعْتَزِلَةُ " وَانْتَقَلَ عَنْهُمْ إلَى الكلابية وَالْأَشْعَرِيَّةِ والسالمية وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ : كَأَبِي الْحَسَنِ التَّمِيمِيِّ وَابْنِهِ أَبِي الْفَضْلِ وَابْنِ ابْنِهِ رِزْقِ اللَّهِ ; وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَابْنِ عَقِيلٍ وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ الزاغوني وَأَبِي الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ ; وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد - وَإِنْ كَانَ الْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ يَتَنَاقَضُ كَلَامُهُ - وَكَأَبِي الْمَعَالِي الجويني وَأَمْثَالِهِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَكَأَبِي الْوَلِيدِ الباجي وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَكَأَبِي الْحَسَنِ الكرخي وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ . ( وَالْقَوْلُ الثَّانِي : إثْبَاتُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ الهشامية والكرامية وَغَيْرِهِمْ مِنْ طَوَائِفِ أَهْلِ الْكَلَامِ الَّذِينَ صَرَّحُوا بِلَفْظِ الْحَرَكَةِ . وَأَمَّا الَّذِينَ أَثْبَتُوهَا بِالْمَعْنَى الْعَامِّ حَتَّى يَدْخُلَ فِي ذَلِكَ قِيَامُ الْأُمُورِ وَالْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ بِذَاتِهِ ; فَهَذَا قَوْلُ طَوَائِفَ غَيْرِ هَؤُلَاءِ : كَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْخَطِيبِ الرازي وَغَيْرِهِ مِنْ النُّظَّارِ وَذَكَرَ طَائِفَةٌ : أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَازِمٌ لِجَمِيعِ الطَّوَائِفِ . وَذَكَرَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدارمي إثْبَاتَ لَفْظِ الْحَرَكَةِ فِي كِتَابٍ نَقَضَهُ عَلَى بِشْرٍ المريسي وَنَصَرَهُ عَلَى أَنَّهُ قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَذَكَرَهُ حَرْبُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الكرماني : لَمَّا ذَكَرَ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْأَثَرِ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ قَاطِبَةً وَذَكَرَ مِمَّنْ لَقِيَ مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ : أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنَ راهويه ; وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ الحميدي وَسَعِيدَ بْنَ مَنْصُورٍ . وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ وَغَيْرِهِ . وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ يَقُولُ : الْمَعْنَى صَحِيحٌ لَكِنْ لَا يُطْلَقُ هَذَا اللَّفْظُ لِعَدَمِ مَجِيءِ الْأَثَرِ بِهِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ فِي كَلَامِهِمْ عَلَى حَدِيثِ النُّزُولِ . وَالْقَوْلُ الْمَشْهُورُ عَنْ السَّلَفِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ : هُوَ الْإِقْرَارُ بِمَا وَرَدَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ أَنَّهُ يَأْتِي وَيَنْزِلُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ اللَّازِمَةِ . قَالَ " أَبُو عَمْرٍو الطلمنكي : أَجْمَعُوا - يَعْنِي أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ - عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا صَفًّا لِحِسَابِ الْأُمَمِ وَعَرْضِهَا كَمَا يَشَاءُ وَكَيْفَ يَشَاءُ قَالَ تَعَالَى : { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } . قَالَ : وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا عَلَى مَا أَتَتْ بِهِ الْآثَارُ كَيْفَ شَاءَ لَا يَحُدُّونَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَضَّاحٍ قَالَ : وَسَأَلْت يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ عَنْ النُّزُولِ فَقَالَ نَعَمْ . أُقِرُّ بِهِ وَلَا أَحُدُّ فِيهِ حَدًّا . ( وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ الْإِمْسَاكُ عَنْ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَهُوَ اخْتِيَارُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ - كَابْنِ بَطَّةَ وَغَيْرِهِ . وَهَؤُلَاءِ فِيهِمْ مَنْ يُعْرِضُ بِقَلْبِهِ عَنْ تَقْدِيرِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمِيلُ بِقَلْبِهِ إلَى أَحَدِهِمَا وَلَكِنْ لَا يَتَكَلَّمُ لَا بِنَفْيٍ وَلَا بِإِثْبَاتِ . وَاَلَّذِي يَجِبُ الْقَطْعُ بِهِ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي جَمِيعِ مَا يَصِفُ بِهِ نَفْسَهُ . فَمَنْ وَصَفَهُ بِمِثْلِ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ فَهُوَ مُخْطِئٌ قَطْعًا كَمَنْ قَالَ إنَّهُ يَنْزِلُ فَيَتَحَرَّكُ وَيَنْتَقِلُ كَمَا يَنْزِلُ الْإِنْسَانُ مِنْ السَّطْحِ إلَى أَسْفَلِ الدَّارِ كَقَوْلِ مَنْ يَقُولُ : إنَّهُ يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ ; فَيَكُونُ نُزُولُهُ تَفْرِيغًا لِمَكَانِ وَشَغْلًا لِآخَرَ ; فَهَذَا بَاطِلٌ يَجِبُ تَنْزِيهُ الرَّبِّ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي تَقُومُ عَلَى نَفْيِهِ وَتَنْزِيهِ الرَّبِّ عَنْهُ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ ; فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ الْأَعْلَى وَقَالَ : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } . فَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْعُلُوِّ لَا يَقْتَضِي عُلُوَّ ذَاتِهِ فَوْقَ الْعَرْشِ ; لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْعَرْشِ . وَحِينَئِذٍ فَلَفْظُ النُّزُولِ وَنَحْوِهِ يُتَأَوَّلُ قَطْعًا إذْ لَيْسَ هُنَاكَ شَيْءٌ يُتَصَوَّر مِنْهُ النُّزُولُ . وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْعُلُوِّ يَقْتَضِي عُلُوَّ ذَاتِهِ فَوْقَ الْعَرْشِ فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْأَعْلَى مَنْ كُلِّ شَيْءٍ كَمَا أَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ . فَلَوْ صَارَ تَحْتَ شَيْءٍ مِنْ الْعَالَمِ لَكَانَ بَعْضُ مَخْلُوقَاتِهِ أَعْلَى مِنْهُ وَلَمْ يَكُنْ هُوَ الْأَعْلَى وَهَذَا خِلَافُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ . وَأَيْضًا فَقَدْ أَخْبَرَ : أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ اسْتِوَاؤُهُ عَلَى الْعَرْشِ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ ; لَمْ يَكُنْ الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومًا وَجَازَ حِينَئِذٍ أَلَّا يَكُونَ فَوْقَ الْعَرْشِ شَيْءٌ ; فَيَلْزَمُ تَأْوِيلُ النُّزُولِ وَغَيْرِهِ . وَإِنْ كَانَ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ فَيَلْزَمُ اسْتِوَاؤُهُ عَلَى الْعَرْشِ وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ اسْتَوَى عَلَيْهِ لَمَّا خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ عِنْدَ إنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ بِأُلُوفِ مِنْ السِّنِينَ وَدَلَّ كَلَامُهُ عَلَى أَنَّهُ عِنْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ فَإِنَّهُ قَالَ : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } . وَفِي حَدِيثِ الْأَوْعَالِ الَّذِي رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ كَأَبِي داود والترمذي وَغَيْرِهِمَا لَمَّا مَرَّتْ سَحَابَةٌ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَتَدْرُونَ مَا هَذَا ؟ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ : السَّحَابُ قَالُوا : السَّحَابُ قَالَ : وَالْمُزْنُ : قَالُوا : وَالْمُزْنُ وَذَكَرَ السَّمَوَاتِ وَعَدَدَهَا وَكَمْ بَيْنَ كُلِّ سماءين ثُمَّ قَالَ : وَاَللَّهُ فَوْقَ عَرْشِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ } . وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو داود وَغَيْرُهُ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ : { أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ جَهِدَتْ الْأَنْفُسُ وَجَاعَ الْعِيَالُ وَهَلَكَتْ الْأَمْوَالُ وَهَلَكَتْ الْأَنْعَامُ ; فَاسْتَسْقِ اللَّهَ لَنَا فَإِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِك عَلَى اللَّهِ وَنَسْتَشْفِعُ بِاَللَّهِ عَلَيْك . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيْحَك أَتَدْرِي مَا تَقُولُ وَسَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا زَالَ يُسَبِّحُ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ ثُمَّ قَالَ : وَيْحَك أَتَدْرِي مَا اللَّهُ ؟ إنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ وَعَرْشُهُ عَلَى سَمَوَاتِهِ مِثْلُ الْقُبَّةِ وَأَشَارَ بِيَدِهِ } . وَهَذَا إخْبَارٌ عَنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ فِي تِلْكَ الْحَالِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ كَمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَأَنَّهُ مَعَنَا أَيْنَمَا كُنَّا . وَكَوْنُهُ مَعَنَا أَمْرٌ خَاصٌّ ; فَكَذَلِكَ كَوْنُهُ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ . وَكَذَلِكَ سَائِرُ النُّصُوصِ تُبَيِّنُ وَصْفَهُ بِالْعُلُوِّ عَلَى عَرْشِهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ ; فَعُلِمَ أَنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ لَمْ يَزَلْ عَالِيًا عَلَى عَرْشِهِ . فَلَوْ كَانَ فِي نِصْفِ الزَّمَانِ أَوْ كُلِّهِ تَحْتَ الْعَرْشِ أَوْ تَحْتَ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ ; لَكَانَ هَذَا مُنَاقِضًا لِذَلِكَ . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : اللَّهُمَّ أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَك شَيْءٌ ; وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَك شَيْءٌ } وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ وَكَوْنُهُ الظَّاهِرُ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لَهُ مِثْلَ كَوْنِهِ الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ وَكَذَلِكَ الْبَاطِنُ فَلَا يَزَالُ ظَاهِرًا لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ وَلَا يَزَالُ بَاطِنًا لَيْسَ دُونَهُ شَيْءٌ . وَأَيْضًا فَحَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وقتادة الْمَذْكُورُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ " الْأَسْمَاءِ الْأَرْبَعَةِ " الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ الْإِدْلَاءِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي " مَسْأَلَةِ الْإِحَاطَةِ " وَهُوَ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَزَالُ عَالِيًا عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ مَعَ ظُهُورِهِ وَبُطُونِهِ وَفِي حَالِ نُزُولِهِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا . وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } فَمَنْ هَذِهِ عَظَمَتُهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَحْصُرَهُ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ . وَعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ عَلَى صِحَّتِهَا وَتَلَقِّيهَا .