تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : - أَحْمَد بْنُ تيمية قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ مَا يَقُولُ سَيِّدُنَا وَشَيْخُنَا - شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَقُدْوَةُ الْأَنَامِ أَيَّدَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ - فِي رَجُلَيْنِ تَنَازَعَا فِي " حَدِيثِ النُّزُولِ " : أَحَدُهُمَا مُثْبِتٌ وَالْآخَرُ نَافٍ . فَقَالَ الْمُثْبِتُ : يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرِ فَقَالَ النَّافِي : كَيْفَ يَنْزِلُ ؟ فَقَالَ الْمُثْبِتُ : يَنْزِلُ بِلَا كَيْفٍ فَقَالَ النَّافِي : يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ أَمْ لَا يَخْلُو ؟ فَقَالَ الْمُثْبِتُ : هَذَا قَوْلٌ مُبْتَدَعٌ وَرَأْيٌ مُخْتَرَعٌ فَقَالَ النَّافِي : لَيْسَ هَذَا جَوَابِي بَلْ هُوَ حَيْدَةٌ عَنْ الْجَوَابِ فَقَالَ لَهُ الْمُثْبِتُ : هَذَا جَوَابُك . فَقَالَ النَّافِي : إنَّمَا يَنْزِلُ أَمْرُهُ وَرَحْمَتُهُ فَقَالَ الْمُثْبِتُ : أَمْرُهُ وَرَحْمَتُهُ يَنْزِلَانِ كُلَّ سَاعَةٍ وَالنُّزُولُ قَدْ وَقَّتَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُلُثَ اللَّيْلِ الْآخِرِ فَقَالَ النَّافِي : اللَّيْلُ لَا يَسْتَوِي وَقْتُهُ فِي الْبِلَادِ فَقَدْ يَكُونُ اللَّيْلُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَاعَةً وَنَهَارُهَا تِسْعَ سَاعَاتٍ وَيَكُونُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ سِتَّ عَشْرَةَ سَاعَةً وَالنَّهَارُ ثَمَانِ سَاعَاتٍ وَبِالْعَكْسِ ; فَوَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي طُولِ اللَّيْلِ وَقِصَرِهِ بِحَسَبِ الْأَقَالِيمِ وَالْبِلَادِ وَقَدْ يَسْتَوِي اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ وَقَدْ يَطُولُ اللَّيْلُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ حَتَّى يَسْتَوْعِبَ أَكْثَرَ الْأَرْبَعِ وَعِشْرِينَ سَاعَةً وَيَبْقَى النَّهَارُ عِنْدَهُمْ وَقْتٌ يَسِيرٌ ; فَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ ثُلُثُ اللَّيْلِ دَائِمًا وَيَكُونُ الرَّبُّ دَائِمًا نَازِلًا إلَى السَّمَاءِ . وَالْمَسْئُولُ إزَالَةُ الشُّبَهِ وَالْإِشْكَالِ وَقَمْعِ أَهْلِ الضَّلَالِ .
123456789101112131415161718192021222324252627282930
وَأَهْلُ الْمِلَلِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَخَلَقَ ذَلِكَ مِنْ مَادَّةٍ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ هَذِهِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الدُّخَانُ الَّذِي هُوَ الْبُخَارُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } وَهَذَا الدُّخَانُ هُوَ بُخَارُ الْمَاءِ الَّذِي كَانَ حِينَئِذٍ مَوْجُودًا كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الْآثَارُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَكَمَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْكِتَابِ كَمَا ذُكِرَ هَذَا كُلُّهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَتِلْكَ الْأَيَّامُ لَمْ تَكُنْ مِقْدَارَ حَرَكَةِ هَذِهِ الشَّمْسِ وَهَذَا الْفَلَكِ ; فَإِنَّ هَذَا مِمَّا خُلِقَ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ بَلْ تِلْكَ الْأَيَّامُ مُقَدَّرَةٌ بِحَرَكَةِ أُخْرَى . وَكَذَلِكَ إذَا شَقَّ اللَّهُ هَذِهِ السَّمَوَاتِ وَأَقَامَ الْقِيَامَةَ وَأَدْخَلَ أَهْلَ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ قَالَ تَعَالَى : { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا } . وَقَدْ جَاءَتْ الْآثَارُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَتَجَلَّى لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَأَنَّ أَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً مَنْ يَرَى اللَّهَ تَعَالَى كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ وَلَيْسَ فِي الْجَنَّةِ شَمْسٌ وَلَا قَمَرٌ وَلَا هُنَاكَ حَرَكَةُ فَلَكٍ بَلْ ذَلِكَ الزَّمَانُ مُقَدَّرٌ بِحَرَكَاتِ كَمَا جَاءَ فِي الْآثَارِ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ بِأَنْوَارِ تَظْهَرُ مِنْ جِهَةِ الْعَرْشِ . وَإِذَا كَانَ مَدْلُولُ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنَّهُ قَدِيمٌ تَقُومُ بِهِ الْأَفْعَالُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَهَذَا إنَّمَا يُنَاقِضُ قَوْلَ الْمُبْتَدِعَةِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ الَّذِينَ ابْتَدَعُوا الْكَلَامَ الْمُحْدَثَ - الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ - الَّذِينَ قَالُوا : إنَّ الرَّبَّ لَمْ يَزَلْ مُعَطَّلًا عَنْ الْفِعْلِ وَالْكَلَامِ . فَصَارَ مَا عَلِمَتْهُ الْعُقَلَاءُ مِنْ أَصْنَافِ الْأُمَمِ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ بِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ هُوَ عَاضِدٌ وَنَاصِرٌ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ ابْتَدَعَ فِي مِلَّتِهِ مَا يُخَالِفُ أَقْوَالَهُ . وَكَانَ مَا عُلِمَ بِالشَّرْعِ مَعَ صَرِيحِ الْعَقْلِ أَيْضًا رَادٌّ لِمَا يَقُولُهُ الْفَلَاسِفَةُ الدَّهْرِيَّةُ مِنْ قِدَمِ شَيْءٍ مِنْ الْعَالَمِ مَعَ اللَّهِ بَلْ الْقَوْلُ " بِقِدَمِ الْعَالَمِ " قَوْلٌ اتَّفَقَ جَمَاهِيرُ الْعُقَلَاءِ عَلَى بُطْلَانِهِ ; فَلَيْسَ أَهْلُ الْمِلَّةِ وَحْدَهُمْ تُبْطِلُهُ بَلْ أَهْلُ الْمِلَلِ كُلُّهُمْ وَجُمْهُورُ مَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الْمَجُوس وَأَصْنَافِ الْمُشْرِكِينَ : مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَمُشْرِكِي الْهِنْدِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأُمَمِ . وَجَمَاهِيرُ أَسَاطِينِ الْفَلَاسِفَةِ كُلُّهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ هَذَا الْعَالَمَ مُحْدَثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ بَلْ وَعَامَّتُهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَالْعَرَبُ الْمُشْرِكُونَ كُلُّهُمْ كَانُوا يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَأَنَّ هَذَا الْعَالَمَ كُلَّهُ مَخْلُوقٌ وَاَللَّهُ خَالِقُهُ وَرَبُّهُ وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي مَوْضِعِهَا . وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ عَلَى مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ مَعْرِفَةِ " حَدِيثِ النُّزُولِ " وَأَمْثَالِهِ وَهُمَا " الْأَصْلَانِ الْمُتَقَدِّمَانِ " وَمِنْ تَمَامِ الْأَصْلِ الثَّانِي لَفْظُ " الْحَرَكَةِ " هَلْ يُوصَفُ اللَّهُ بِهَا أَمْ يَجِبُ نَفْيُهُ عَنْهُ ؟ اخْتَلَفَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ وَغَيْرُ أَهْلِ الْمِلَلِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ وَأَهْلِ الْفَلْسَفَةِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ مَوْجُودَةٌ فِي أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ . وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ عَنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد فِي " الرِّوَايَتَيْنِ وَالْوَجْهَيْنِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْكُتُبِ . وَقَبْلَ ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ لَفْظَ الْحَرَكَةِ وَالِانْتِقَالِ وَالتَّغَيُّرِ وَالتَّحَوُّلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَلْفَاظٌ مُجْمَلَةٌ ; فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ إنَّمَا يُطْلِقُونَ لَفْظَ الْحَرَكَةِ عَلَى الْحَرَكَةِ الْمَكَانِيَّةِ وَهُوَ انْتِقَالُ الْجِسْمِ مِنْ مَكَانٍ إلَى مَكَانٍ بِحَيْثُ يَكُونُ قَدْ فَرَغَ الْحَيِّزُ الْأَوَّلُ وَشُغِلَ الثَّانِي : كَحَرَكَةِ أَجْسَامِنَا مِنْ حَيِّزٍ إلَى حَيِّزٍ وَحَرَكَةِ الْهَوَاءِ وَالْمَاءِ وَالتُّرَابِ وَالسَّحَابِ مِنْ حَيِّزٍ إلَى حَيِّزٍ ; بِحَيْثُ يَفْرَغُ الْأَوَّلُ وَيُشْغَلُ الثَّانِي ; فَأَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ لَا يَعْرِفُونَ لِلْحَرَكَةِ مَعْنًى إلَّا هَذَا . وَمِنْ هُنَا نَفَوْا مَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ مِنْ أَنْوَاعِ جِنْسِ الْحَرَكَةِ ; فَإِنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ جَمِيعَهَا إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى هَذَا وَكَذَلِكَ مَنْ أَثْبَتَهَا وَفَهِمَ مِنْهَا كُلَّهَا هَذَا كَاَلَّذِينَ فَهِمُوا مِنْ نُزُولِهِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا أَنَّهُ يَبْقَى فَوْقَهُ بَعْضُ مَخْلُوقَاتِهِ فَلَا يَكُونُ هُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ وَلَا يَكُونُ هُوَ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى وَيَلْزَمُهُمْ أَنْ لَا يَكُونَ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ بِحَالِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَالْفَلَاسِفَةُ يُطْلِقُونَ لَفْظ " الْحَرَكَةِ " عَلَى كُلِّ مَا فِيهِ تَحَوُّلٌ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ . وَيَقُولُونَ أَيْضًا : حَقِيقَةُ الْحَرَكَةِ هِيَ الْحُدُوثُ أَوْ الْحُصُولُ وَالْخُرُوجُ مِنْ الْقُوَّةِ إلَى الْفِعْلِ يَسِيرًا يَسِيرًا بِالتَّدْرِيجِ . قَالُوا : وَهَذِهِ الْعِبَارَاتُ دَالَّةٌ عَلَى مَعْنَى الْحَرَكَةِ وَقَدْ يَحُدُّونَ بِهَا الْحَرَكَةَ . وَهُمْ مُتَنَازِعُونَ فِي الرَّبِّ تَعَالَى هَلْ تَقُومُ بِهِ جِنْسُ الْحَرَكَةِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَأَصْحَابُ " أَرِسْطُو " جَعَلُوا الْحَرَكَةَ مُخْتَصَّةً بِالْأَجْسَامِ وَيَصِفُونَ النَّفْسَ بِنَوْعِ مِنْ الْحَرَكَةِ ; وَلَيْسَتْ عِنْدَهُمْ جِسْمًا فَيَتَنَاقَضُونَ . وَكَانَتْ الْحَرَكَةُ عِنْدَهُمْ " ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ " فَزَادَ ابْنُ سِينَا فِيهَا قِسْمًا رَابِعًا فَصَارَتْ " أَرْبَعَةً " . وَيَجْعَلُونَ الْحَرَكَةَ جِنْسًا تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ : حَرَكَةٌ فِي الْكَيْفِ وَحَرَكَةٌ فِي الْكَمِّ . وَحَرَكَةٌ فِي الْوَضْعِ وَحَرَكَةٌ فِي الْأَيْنِ . " فَالْحَرَكَةُ فِي الْكَيْفِ " هِيَ تَحَوُّلُ الشَّيْءِ مِنْ صِفَةٍ إلَى صِفَةٍ ; مِثْلَ اسْوِدَادِهِ وَاحْمِرَارِهِ وَاخْضِرَارِهِ وَاصْفِرَارِهِ وَمِثْلَ مَصِيرِهِ حُلْوًا وَحَامِضًا وَمِثْلَ تَغَيُّرِ رَائِحَتِهِ ; وَكَذَلِكَ فِي النُّفُوسِ كَعِلْمِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ جَهْلِهِ وَحُبِّهِ بَعْدَ بُغْضِهِ وَإِيمَانِهِ بَعْدَ كُفْرِهِ وَفَرَحِهِ بَعْدَ حُزْنِهِ وَرِضَاهُ بَعْدَ غَضَبِهِ ; كُلُّ هَذِهِ الْأَحْوَالِ النَّفْسَانِيَّةِ حَرَكَةٌ فِي الْكَيْفِ وَهَذَا مِمَّا احْتَجَّ بِهِ مَنْ جَوَّزَ مِنْهُمْ الْحَرَكَةَ ; فَإِنَّ إرَادَتَهُ لِإِحْدَاثِ الشَّيْءِ عِنْدَهُمْ حَرَكَةٌ . و " الْحَرَكَةُ فِي الْكَمِّ " مِثْلُ امْتِدَادِ الشَّيْءِ مِثْلُ كِبَرِ الْحَيَوَانِ بَعْدَ صِغَرِهِ وَطُولِهِ بَعْدَ قِصَرِهِ وَمِثْلُ امْتِدَادِ الشَّجَرِ وَالنَّبَاتِ وَامْتِدَادِ عُرُوقِهِ فِي الْأَرْضِ وَأَغْصَانِهِ فِي الْهَوَاءِ فَهَذَا حَرَكَةٌ فِي الْمِقْدَارِ وَالْكَمِّيَّةِ ; كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ حَرَكَةٌ فِي الصِّفَاتِ وَالْكَيْفِيَّةِ . وَأَمَّا " الْحَرَكَةُ فِي الْوَضْعِ " ; فَمِثْلُ دَوَرَانِ الشَّيْءِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ ; كَدَوَرَانِ " الْفَلَكِ " و " المنجنون " الَّذِي يُسَمَّى الدُّولَابُ وَكَحَرَكَةِ الرَّحَى وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَنْتَقِلُ مِنْ حَيِّزٍ إلَى حَيِّزٍ ; بَلْ حَيِّزُهُ وَاحِدٌ لَكِنْ يَخْتَلِفُ فِي أَوْضَاعِهِ فَيَكُونُ الْجُزْءُ مِنْهُ تَارَةً مُحَاذِيًا لِلْجِهَةِ الْعُلْيَا فَيَصِيرُ مُحَاذِيًا لِلْجِهَةِ السُّفْلَى ; أَوْ لِلْجِهَةِ الْيُمْنَى فَيَصِيرُ مُحَاذِيًا لِلْجِهَةِ الْيُسْرَى . وَهَذَا النَّوْعُ يَقُولُونَ : إنَّ ابْنَ سِينَا زَادَهُ . ( وَالرَّابِعُ : الْحَرَكَةُ فِي الْأَيْنِ وَهِيَ الْحَرَكَةُ الْمَكَانِيَّةُ وَهُوَ انْتِقَالُهُ مِنْ حَيِّزٍ إلَى حَيِّزٍ . وَأَمَّا عُمُومُ أَهْلِ اللُّغَةِ فَيُطْلِقُونَ لَفْظَ الْحَرَكَةِ عَلَى جِنْسِ الْفِعْلِ . فَكُلُّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا فَقَدْ تَحَرَّكَ عِنْدَهُمْ ; وَيُسَمُّونَ أَحْوَالَ النَّفْسِ حَرَكَةً فَيَقُولُونَ : تَحَرَّكَتْ فِيهِ الْمُحِبَّةُ وَتَحَرَّكَتْ فِيهِ الْحَمِيَّةُ وَتَحَرَّكَ غَضَبُهُ وَتُوصَفُ هَذِهِ الْأَحْوَالُ بِالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ : فَيُقَالُ : سَكَنَ غَضَبُهُ قَالَ تَعَالَى : { وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ } فَوَصَفَ الْغَضَبَ بِالسُّكُوتِ وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ وَعِكْرِمَةَ : ( وَلَمَّا سَكَنَ بِالنُّونِ وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ ( بِالتَّاءِ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : سَكَتَ الْغَضَبُ أَيْ سَكَنَ . وَكَذَلِكَ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ ; الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ . قَالَ الْجَوْهَرِيُّ : سَكَتَ الْغَضَبُ مِثْلُ سَكَنَ ; فَالسُّكُونُ أَخَصُّ ; فَكُلُّ سَاكِتٍ سَاكِنٌ وَلَيْسَ كُلُّ سَاكِنٍ سَاكِتًا وَإِذَا وُصِفَ بِالسُّكُونِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُتَحَرِّكًا ; وَهَذَا وَصْفٌ لِلْأَعْرَاضِ النَّفْسَانِيَّةِ بِالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ . وَالْأَشْعَرِيُّ قَدْ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَرَكَةَ وَأَنْوَاعَهَا لَا تَخْتَصُّ بِالْأَجْسَامِ بِمَا وُجِدَ مِنْ اسْتِعْمَالِهِمْ ذَلِكَ فِي الْأَعْرَاضِ ; قَالَ : فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : جَاءَتْ الْحُمَّى وَجَاءَ الْبَرْدُ وَجَاءَتْ الْعَافِيَةُ وَجَاءَ الشِّتَاءُ وَجَاءَ الْحَرُّ . وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُوصَفُ بِالْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ مِنْ الْأَعْرَاضِ . وَمَجِيءُ هَذِهِ الْأَعْرَاضِ هُوَ حُدُوثٌ وَتَغَيُّرٌ وَتَحَوُّلٌ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ . فَإِنْ قِيلَ : مَا وُصِفَ بِالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ مِنْ هَذِهِ الْأَعْرَاضِ فَإِنَّمَا هُوَ لِتَحَرُّكِ الْمَحَلِّ الْحَامِلِ لِذَلِكَ الْعَرَضِ - وَإِلَّا فَالْعَرَضُ لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ وَلَا يُفَارِقُ مَحَلَّهُ ; فَإِنَّ الْحُمَّى وَالْحَرَّ وَالْبَرْدَ يَقُومُ بِالْهَوَاءِ الَّذِي يَحْمِلُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ . وَكَذَلِكَ الْغَضَبُ هُوَ غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ لِطَلَبِ الِانْتِقَامِ وَهَذَا حَرَكَةُ الدَّمِ ; فَإِذَا سَكَنَ غَلَيَانُ الدَّمِ سَكَنَ الْغَضَبُ . قِيلَ : لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ; بَلْ هَذَا يُسْتَعْمَلُ فِيمَا يَحْدُثُ مِنْ الْأَعْرَاضِ فِي الْمَحَلِّ شَيْئًا فَشَيْئًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ جِسْمٌ يَنْتَقِلُ مَعَهُ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْحَرَكَةِ فِي الْكَيْفِيَّاتِ وَالصِّفَاتِ ; فَإِنَّ الْمَاءَ إذَا سَخُنَ حَدَثَتْ فِيهِ الْحَرَارَةُ وَسَخَّنَ الْوِعَاءَ الَّذِي فِيهِ الْمَاءُ مِنْ غَيْرِ انْتِقَالِ جِسْمٍ حَارٍّ إلَيْهِ وَإِذَا وُضِعَ الْمَاءُ الْمُسَخَّنُ فِي الْمَكَانِ الْبَارِدِ بَرُدَ مِنْ غَيْرِ انْتِقَالِ جِسْمٍ بَارِدٍ إلَيْهِ . وَكَذَلِكَ الْحُمَّى حَرَارَةٌ أَوْ بُرُودَةٌ تَقُومُ بِالْبَدَنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى كُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْبَدَنِ جِسْمٌ حَارٌّ أَوْ بَارِدٌ . وَالْغَضَبُ - وَإِنْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ : إنَّهُ غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ فَهُوَ - صِفَةٌ تَقُومُ بِنَفْسِ الْغَضْبَانِ غَيْرُ غَلَيَانِ دَمِ الْقَلْبِ ; وَإِنَّمَا ذَلِكَ أَثَرُهُ ; فَإِنَّ حَرَارَةَ الْغَضَبِ تُسَخِّنُ الدَّمَ حَتَّى يَغْلِيَ . فَإِنَّ مَبْدَأَ الْغَضَبِ مِنْ النَّفْسِ هِيَ الَّتِي تَتَّصِفُ بِهِ أَوَّلًا ثُمَّ يَسْرِي ذَلِكَ إلَى الْجِسْمِ وَكَذَلِكَ الْحُزْنُ وَالْفَرَحُ وَسَائِرُ الْأَحْوَالِ النَّفْسَانِيَّةِ . وَالْحُزْنُ يُوجِبُ دُخُولَ الدَّمِ ; وَلِهَذَا يَصْفَرُّ لَوْنُ الْحَزِينِ وَهُوَ مِنْ الْأَحْوَالِ النَّفْسَانِيَّةِ ; لَكِنَّ الْحَزِينَ يَسْتَشْعِرُ الْعَجْزَ عَنْ دَفْعِ الْمَكْرُوهِ الَّذِي أَصَابَهُ وَيَيْأَسُ مِنْ ذَلِكَ ; فَيَغُورُ دَمُهُ وَالْغَضْبَانُ يَسْتَشْعِرُ قُدْرَتَهُ عَلَى الدَّفْعِ أَوْ الْمُعَاقَبَةِ ; فَيَنْبَسِطُ دَمُهُ . وَالْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ وَالطُّمَأْنِينَةُ الَّتِي تُوصَفُ بِهَا النَّفْسُ لَيْسَتْ مُمَاثِلَةً لِمَا يُوصَفُ بِهِ الْجِسْمُ قَالَ تَعَالَى : { أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } وَالِاطْمِئْنَانُ هُوَ السُّكُونُ ; قَالَ الْجَوْهَرِيُّ : اطْمَأَنَّ الرَّجُلُ اطْمِئْنَانًا وَطُمَأْنِينَةً : أَيْ سَكَنَ قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ } { ارْجِعِي إلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً } وَكَذَلِكَ لِلْقُلُوبِ سَكِينَةٌ تُنَاسِبُهَا . قَالَ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إيمَانًا مَعَ إيمَانِهِمْ } . وَكَذَلِكَ " الرَّيْبُ " حَرَكَةُ النَّفْسِ لِلشَّكِّ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِظَبْيٍ حَاقِفٍ فَقَالَ لَا يُرِيبُهُ أَحَدٌ } وَيُقَالُ : رَابَنِي مِنْهُ رَيْبٌ و { دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك } وَقَالَ : { الْكَذِبُ رِيبَةٌ وَالصِّدْقُ طُمَأْنِينَةٌ } فَجَعَلَ الطُّمَأْنِينَةَ ضِدَّ الرِّيبَةِ وَكَذَلِكَ الْيَقِينُ ضِدُّ الرَّيْبِ . وَالْيَقِينُ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الطُّمَأْنِينَةِ وَالسُّكُونِ وَمِنْهُ مَاءٌ يَقَنٌ وَكَذَلِكَ يُقَالُ : انْزَعَجَ . وَأَزْعَجَهُ فَانْزَعَجَ أَيْ أَقْلَقَهُ وَيُقَالُ ذَلِكَ لِمَنْ قَلِقَتْ نَفْسُهُ وَلِمَنْ قَلِقَ بِنَفْسِهِ وَبَدَنِهِ حَتَّى فَارَقَ مَكَانَهُ ; وَكَذَلِكَ يُقَالُ : قَلِقَتْ نَفْسُهُ ; وَاضْطَرَبَتْ نَفْسُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَرَكَةِ . وَيُسَمَّى مَا يَأْلَفُهُ جِنْسُ الْإِنْسَانِ وَيُحِبُّهُ سَكَنًا ; لِأَنَّهُ يَسْكُنُ إلَيْهِ . وَيُقَالُ : فُلَانٌ يَسْكُنُ إلَى فُلَانٍ وَيَطْمَئِنُّ إلَيْهِ وَيُقَالُ : الْقَلْبُ يَسْكُنُ إلَى فُلَانٍ وَيَطْمَئِنُّ إلَيْهِ إذَا كَانَ مَأْمُونًا مَعْرُوفًا بِالصِّدْقِ ; فَإِنَّ الصِّدْقَ يُورِثُ الطُّمَأْنِينَةَ وَالسُّكُونَ . وَقَدْ سُمِّيَتْ الزَّوْجَةُ سَكَنًا قَالَ تَعَالَى : { خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً } وَقَالَ : { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إلَيْهَا } فَيَسْكُنُ الرَّجُلُ إلَى الْمَرْأَةِ بِقَلْبِهِ وَبَدَنِهِ جَمِيعًا . وَقَدْ يَكُونُ بَدَنُ الشَّخْصِ سَاكِنًا وَنَفْسُهُ مُتَحَرِّكَةً حَرَكَةً قَوِيَّةً وَبِالْعَكْسِ قَدْ يَسْكُنُ قَلْبُهُ وَبَدَنُهُ مُتَحَرِّكٌ . وَالْمُحِبُّ لِلشَّيْءِ الْمُشْتَاقُ إلَيْهِ يُوصَفُ بِأَنَّهُ مُتَحَرِّكٌ إلَيْهِ ; وَلِهَذَا يُقَالُ : الْعِشْقُ حَرَكَةُ نَفْسٍ فَارِغَةٌ . فَالْقُلُوبُ تَتَحَرَّكُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْمَحَبَّةِ وَالْإِنَابَةِ وَالتَّوَجُّهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَإِنْ كَانَ الْبَدَنُ لَا يَتَحَرَّكُ إلَى فَوْقُ . فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ } . وَمَعَ هَذَا فَبَدَنُهُ أَسْفَلُ مَا يَكُونُ . فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الْحَرَكَةَ جِنْسٌ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ بِاخْتِلَافِ الْمَوْصُوفَاتِ بِذَلِكَ . وَمَا يُوصَفُ بِهِ نَفْسُ الْإِنْسَانِ مِنْ إرَادَةٍ وَمَحَبَّةٍ وَكَرَاهَةٍ وَمَيْلٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ كُلُّهَا فِيهَا تَحَوُّلُ النَّفْسِ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ وَعَمَلٌ لِلنَّفْسِ وَذَلِكَ حَرَكَةٌ لَهَا بِحَسَبِهَا ; وَلِهَذَا يُعَبَّرُ عَنْ هَذِهِ الْمَعَانِي بِأَلْفَاظِ الْحَرَكَةِ فَيُقَالُ : فُلَانٌ يَهْفُو إلَى فُلَانٍ كَمَا قِيلَ : يَهْفُو إلَى الْبَانِ مِنْ قَلْبِي نَوَازِعُهُ وَمَا بِي الْبَانُ بَلْ مِنْ دَارَةِ الْبَانِ وَهَذَا اللَّفْظُ يُسْتَعْمَلُ فِي حَرَكَةِ الشَّيْءِ الْخَفِيفِ بِسُرْعَةِ كَمَا يُقَالُ : هَفَا الطَّائِرُ بِجَنَاحِهِ أَيْ خَفَقَ وَطَارَ وَهَفَا الشَّيْءُ فِي الْهَوَاءِ إذَا ذَهَبَ كَالصُّوفَةِ وَنَحْوِهَا وَمَرَّ الظَّبْيُ يَهْفُو أَيْ يَطْفِرُ وَمِنْهُ قِيلَ لِلزَّلَّةِ : هَفْوَةٌ كَمَا سُمِّيَتْ زَلَّةً وَالزَّلَّةُ حَرَكَةٌ خَفِيفَةٌ وَكَذَلِكَ الْهَفْوَةُ . وَكَذَلِكَ يُسَمَّى الْمُحِبُّ الْمُشْتَاقُ الَّذِي صَارَ حُبُّهُ أَقْوَى مِنْ الْعِلَاقَةِ " صَبَا " وَحَالُهُ صَبَابَةٌ وَهُوَ رِقَّةُ الشَّوْقِ وَحَرَارَتُهُ وَالصَّبُّ الْمُحِبُّ الْمُشْتَاقُ وَذَلِكَ لِانْصِبَابِ قَلْبِهِ إلَى الْمَحْبُوبِ كَمَا يَنْصَبُّ الْمَاءُ الْجَارِي وَالْمَاءُ يَنْصَبُّ مِنْ الْجَبَلِ أَيْ يَنْحَدِرُ . فَلَمَّا كَانَ فِي انْحِدَارِهِ يَتَحَرَّكُ حَرَكَةً لَا يَرُدُّهُ شَيْءٌ سُمِّيَتْ حَرَكَةُ الصَّبِّ " صَبَابَةً " وَهَذَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَحَبَّةِ الْمَحْمُودَةِ وَالْمَذْمُومَةِ . وَمِنْهُ الْحَدِيثُ : { أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أَرْسَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سِرِّيَّةٍ بَكَى صَبَابَةً وَشَوْقًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } . وَالصَّبَابَةُ وَالصَّبُّ مُتَّفِقَانِ فِي الِاشْتِقَاقِ الْأَكْبَرِ . وَالْعَرَبُ تُعَاقِبُ بَيْنَ الْحَرْفِ الْمُعْتَلِّ وَالْحَرْفِ الْمُضَعَّفِ كَمَا يَقُولُونَ : تَقَضَّى الْبَازِي وَتَقَضَّضَ وَصَبَا يَصْبُو : مَعْنَاهُ مَالَ وَسُمِّيَ الصَّبِيُّ صَبِيًّا لِسُرْعَةِ مَيْلِهِ . قَالَ الْجَوْهَرِيُّ : وَالصَّبِيُّ أَيْضًا مِنْ الشَّوْقِ يُقَالُ مِنْهُ تَصَابَى وَصَبَا يَصْبُو صَبْوَةً وصبوا أَيْ مَالَ إلَى الْجَهْلِ وَالْفُتُوَّةِ وَأَصْبَتْهُ الْجَارِيَةُ . وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ هَذَا فِي الْمَيْلِ الْمَحْمُودِ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ } بِلَا هَمْزَةٍ فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ فَإِنَّهُ لَا يَهْمِزُ " الصَّابِئِينَ " فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ . وَبَعْضُهُمْ قَدْ حَمِدَهُ اللَّهُ تَعَالَى ; وَكَذَلِكَ يُقَالُ : حَنَّ إلَيْهِ حَنِينًا ; وَمِنْهُ حَنَا فِي الِاشْتِقَاقِ الْأَكْبَرِ يَحْنُو عَلَيْهِ حُنُوًّا . قَالَ الْجَوْهَرِيُّ : حَنَوْت عَلَيْهِ عَطَفْت عَلَيْهِ وَيَحْنِي عَلَيْهِ أَيْ يَعْطِفُ مِثْلَ تَحَنَّنَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : تَحَنَّى عَلَيْك النَّفْسُ مِنْ لَاعِجِ الْهَوَى فَكَيْفَ تَحَنِّيهَا وَأَنْتَ تُهِينُهَا وَقَالَ : الْحَنِينُ : الشَّوْقُ وَتَوَقَانُ النَّفْسِ وَيُقَالُ حَنَّ إلَيْهِ يَحِنُّ حَنِينًا فَهُوَ حَانٍ وَالْحَنَانُ الرَّحْمَةُ يُقَالُ حَنَّ عَلَيْهِ يَحِنُّ حَنَانًا وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً } وَالْحَنَّانُ بِالتَّشْدِيدِ : ذُو الرَّحْمَةِ وَتَحَنَّنَ عَلَيْهِ تَرَحَّمَ وَالْعَرَبُ تَقُولُ : حنانيك يَا رَبِّ وَحَنَانَك بِمَعْنَى وَاحِدٍ أَيْ رَحْمَتَك وَهَذَا كَلَامُ الْجَوْهَرِيِّ .