سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تيمية - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { دَعْوَةُ أَخِي ذِي النُّونِ : { لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } . مَا دَعَا بِهَا مَكْرُوبٌ إلَّا فَرَّجَ اللَّهُ كُرْبَتَهُ } مَا مَعْنَى هَذِهِ الدَّعْوَةِ ؟ وَلِمَ كَانَتْ كَاشِفَةً لِلْكَرْبِ ؟ وَهَلْ لَهَا شُرُوطٌ بَاطِنَةٌ عِنْدَ النُّطْقِ بِلَفْظِهَا ؟ وَكَيْفَ مُطَابَقَةُ اعْتِقَادِ الْقَلْبِ لِمَعْنَاهَا . حَتَّى يُوجِبَ كَشْفَ ضُرِّهِ ؟ وَمَا مُنَاسَبَةُ ذِكْرِهِ : { إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } مَعَ أَنَّ التَّوْحِيدَ . يُوجِبُ كَشْفَ الضُّرِّ ؟ وَهَلْ يَكْفِيهِ اعْتِرَافُهُ . أَمْ لَا بُدَّ مِنْ التَّوْبَةِ وَالْعَزْمِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ؟ وَمَا هُوَ السِّرُّ فِي أَنَّ كَشْفَ الضُّرِّ وَزَوَالَهُ يَكُونُ عِنْدَ انْقِطَاعِ الرَّجَاءِ عَنْ الْخَلْقِ وَالتَّعَلُّقِ بِهِمْ ؟ وَمَا الْحِيلَةُ فِي انْصِرَافِ الْقَلْبِ عَنْ الرَّجَاءِ لِلْمَخْلُوقِينَ وَالتَّعَلُّقِ بِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ وَتَعَلُّقِهِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَرَجَائِهِ وَانْصِرَافِهِ إلَيْهِ بِالْكُلِّيَّةِ وَمَا السَّبَبُ الْمُعِينُ عَلَى ذَلِكَ ؟ ؟ .
و " الْعِبَادَةُ " أَصْلُهَا الْقَصْدُ وَالْإِرَادَةُ . وَالْعِبَادَةُ إذَا أُفْرِدَتْ دَخَلَ فِيهَا التَّوَكُّلُ وَنَحْوُهُ وَإِذَا قُرِنَتْ بِالتَّوَكُّلِ صَارَ التَّوَكُّلُ قَسِيمًا لَهَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي لَفْظِ الْإِيمَانِ قَالَ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ } فَهَذَا وَنَحْوُهُ يَدْخُلُ فِيهِ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَحْظُورَاتِ ; وَالتَّوَكُّلُ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وَقَالَ : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرًا مَا يَجِيءُ فِي الْقُرْآنِ : تَتَنَوَّعُ دِلَالَةُ اللَّفْظِ فِي عُمُومِهِ وَخُصُوصِهِ بِحَسَبِ الْإِفْرَادِ وَالِاقْتِرَانِ ; كَلَفْظِ " الْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ " فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } وَقَالَ { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } وَقَالَ : { يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ } فَالْمُنْكَرُ يَدْخُلُ فِيهِ مَا كَرِهَهُ اللَّهُ ; كَمَا يَدْخُلُ فِي الْمَعْرُوفِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ . وَقَدْ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : { إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } فَعَطَفَ الْمُنْكَرَ عَلَى الْفَحْشَاءِ وَدَخَلَ فِي الْمُنْكَرِ هُنَا الْبَغْيُ . وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ } فَقَرَنَ بِالْمُنْكَرِ الْفَحْشَاءَ وَالْبَغْيَ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ لَفْظُ " الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ " إذَا أُفْرِدَ أَحَدُهُمَا دَخَلَ فِيهِ الْآخَرُ وَإِذَا قُرِنَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ صَارَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ ; لَكِنْ هُنَاكَ أَحَدُ الِاسْمَيْنِ أَعَمُّ مِنْ الْآخَرِ وَهُنَا بَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ فَمَحَبَّةُ اللَّهِ وَحْدَهُ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ وَخَشْيَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ وَنَحْوُ هَذَا كُلُّ هَذَا يَدْخُلُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ تَعَالَى فِي الْمَحَبَّةِ : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } فَجَعَلَ الطَّاعَةَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وَجَعَلَ الْخَشْيَةَ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَحْدَهُ وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ } { وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } فَجَعَلَ التَّحَسُّبَ وَالرَّغْبَةَ إلَى اللَّهِ وَحْدَهُ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَ ( الْمَقْصُودُ ) هُنَا أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ : { لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ } فِيهِ إفْرَادُ الْإِلَهِيَّةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ التَّصْدِيقَ لِلَّهِ قَوْلًا وَعَمَلًا فَالْمُشْرِكُونَ كَانُوا يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ; لَكِنْ كَانُوا يَجْعَلُونَ مَعَهُ آلِهَةً أُخْرَى فَلَا يَخُصُّونَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ . وَتَخْصِيصُهُ بِالْإِلَهِيَّةِ يُوجِبُ أَلَّا يُعْبَدَ إلَّا إيَّاهُ وَأَنْ لَا يُسْأَلَ غَيْرُهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَقْصِدُ سُؤَالَ اللَّهِ وَحْدَهُ وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ لَكِنْ فِي أُمُورٍ لَا يُحِبُّهَا اللَّهُ ; بَلْ يَكْرَهُهَا وَيَنْهَى عَنْهَا فَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُخْلِصًا لَهُ فِي سُؤَالِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ لَكِنْ لَيْسَ هُوَ مُخْلِصًا فِي عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَهَذَا حَالُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ التَّوَجُّهَاتِ الْفَاسِدَةِ أَصْحَابِ الْكُشُوفَاتِ وَالتَّصَرُّفَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّهُمْ يُعَانُونَ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ . وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهَا لَكِنْ لَمَّا لَمْ تَكُنْ مُوَافِقَةً لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ حَصَلَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ الْعَاجِلَةِ وَكَانَتْ عَاقِبَتُهُمْ عَاقِبَةً سَيِّئَةً قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إلَّا إيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إلَى ضُرٍّ مَسَّهُ } . وَطَائِفَةٌ أُخْرَى قَدْ يَقْصِدُونَ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَكِنْ لَا يُحَقِّقُونَ التَّوَكُّلَ عَلَيْهِ وَالِاسْتِعَانَةَ بِهِ . فَهَؤُلَاءِ يُثَابُونَ عَلَى حُسْنِ نِيَّتِهِمْ وَعَلَى طَاعَتِهِمْ لَكِنَّهُمْ مَخْذُولُونَ فِيمَا يَقْصِدُونَهُ إذْ لَمْ يُحَقِّقُوا الِاسْتِعَانَةَ بِاَللَّهِ وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ وَلِهَذَا يُبْتَلَى الْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ بِالضَّعْفِ وَالْجَزَعِ تَارَةً " وَبِالْإِعْجَابِ أُخْرَى فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ مُرَادُهُ مِنْ الْخَيْرِ كَانَ لِضَعْفِهِ وَرُبَّمَا حَصَلَ لَهُ جَزَعٌ فَإِنْ حَصَلَ مُرَادُهُ نَظَرَ إلَى نَفْسِهِ وَقُوَّتِهِ فَحَصَلَ لَهُ إعْجَابٌ وَقَدْ يُعْجَبُ بِحَالِهِ فَيَظُنُّ حُصُولَ مُرَادِهِ فَيُخْذَلُ . قَالَ تَعَالَى : { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ } إلَى قَوْلِهِ : { ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } . وَكَثِيرًا مَا يَقْرِنُ النَّاسُ بَيْنَ الرِّيَاءِ وَالْعُجْبِ فَالرِّيَاءُ مِنْ بَابِ الْإِشْرَاكِ بِالْخَلْقِ وَالْعُجْبُ مِنْ بَابِ الْإِشْرَاكِ بِالنَّفْسِ وَهَذَا حَالُ الْمُسْتَكْبِرِ فَالْمُرَائِي لَا يُحَقِّقُ قَوْلَهُ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ } وَالْمُعْجَبُ لَا يُحَقِّقُ قَوْلَهُ : { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فَمَنْ حَقَّقَ قَوْلَهُ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ } خَرَجَ عَنْ الرِّيَاءِ وَمَنْ حَقَّقَ قَوْلَهُ { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } خَرَجَ عَنْ الْإِعْجَابِ وَفِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ : { ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ : شُحٌّ مُطَاعٌ وَهَوًى مُتَّبَعٌ وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ } . وَشَرٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مَنْ لَا تَكُونُ عِبَادَتُهُ لِلَّهِ وَلَا اسْتِعَانَتُهُ بِاَللَّهِ بَلْ يَعْبُدُ غَيْرَهُ وَيَسْتَعِينُ غَيْرَهُ وَهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ الْوَجْهَيْنِ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَكُونُ شِرْكُهُ بِالشَّيَاطِينِ كَأَصْحَابِ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ فَيَفْعَلُونَ مَا تُحِبُّهُ الشَّيَاطِينُ مِنْ الْكَذِبِ وَالْفُجُورِ وَيَدْعُونَهُ بِأَدْعِيَةِ تُحِبُّهَا الشَّيَاطِينُ وَيُعَزِّمُونَ بِالْعَزَائِمِ الَّتِي تُطِيعُهَا الشَّيَاطِينُ مِمَّا فِيهَا إشْرَاكٌ بِاَللَّهِ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ . وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ الْخَوَارِقِ مِمَّا يُظَنُّ أَنَّهُ مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ . وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَحْوَالِ السَّحَرَةِ وَالْكُهَّانِ ; وَلِهَذَا يَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَحْوَالِ الْإِيمَانِيَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ النَّفْسَانِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ فَهُمْ أَهْلُ التَّوْحِيدِ الَّذِينَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَلَمْ يَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ وَلَمْ يَتَوَكَّلُوا إلَّا عَلَيْهِ . وَقَوْلُ الْمَكْرُوبِ : { لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ } قَدْ يَسْتَحْضِرُ فِي ذَلِكَ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ دُونَ الْآخَرِ فَمَنْ أَتَمَّ اللَّهُ عَلَيْهِ النِّعْمَةَ اسْتَحْضَرَ التَّوْحِيدَ فِي النَّوْعَيْنِ فَإِنَّ الْمَكْرُوبَ هِمَّتُهُ مُنْصَرِفَةٌ إلَى دَفْعِ ضُرِّهِ وَجَلْبِ نَفْعِهِ فَقَدْ يَقُولُ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " مُسْتَشْعِرًا أَنَّهُ لَا يَكْشِفُ الضُّرَّ غَيْرُكَ وَلَا يَأْتِي بِالنِّعْمَةِ إلَّا أَنْتَ فَهَذَا مُسْتَحْضِرٌ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ وَمُسْتَحْضِرٌ تَوْحِيدَ السُّؤَالِ وَالطَّلَبِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ مُعْرِضٌ عَنْ تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ وَيَأْمُرُ بِهِ وَهُوَ أَلَّا يَعْبُدَ إلَّا إيَّاهُ وَلَا يَعْبُدُهُ إلَّا بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ فَمَنْ اسْتَشْعَرَ هَذَا فِي قَوْلِهِ : { لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ } كَانَ عَابِدًا لِلَّهِ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ وَكَانَ مُمْتَثِلًا قَوْلَهُ : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } وَقَوْلَهُ : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } وَقَوْلَهُ : { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلًا } { رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا } . ثُمَّ إنْ كَانَ مَطْلُوبُهُ مُحَرَّمًا أَثِمَ وَإِنْ قُضِيَتْ حَاجَتُهُ . وَإِنْ كَانَ طَالِبًا مُبَاحًا لِغَيْرِ قَصْدِ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ لَمْ يَكُنْ آثِمًا وَلَا مُثَابًا . وَإِنْ كَانَ طَالِبًا مَا يُعِينُهُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ لِقَصْدِ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ عَلَى ذَلِكَ كَانَ مُثَابًا مَأْجُورًا وَهَذَا مِمَّا يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَ الْعَبْدِ الرَّسُولِ وَخُلَفَائِهِ وَبَيْنَ النَّبِيِّ الْمَلِكِ فَإِنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا مَلِكًا أَوْ عَبْدًا رَسُولًا فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا رَسُولًا ; فَإِنَّ الْعَبْدَ الرَّسُولَ هُوَ الَّذِي لَا يَفْعَلُ إلَّا مَا أُمِرَ بِهِ فَفِعْلُهُ كُلُّهُ عِبَادَةٌ لِلَّهِ فَهُوَ عَبْدٌ مَحْضٌ مُنَفِّذٌ أَمْرَ مُرْسِلِهِ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ : { إنِّي وَاَللَّهِ لَا أُعْطِي أَحَدًا وَلَا أَمْنَعُ أَحَدًا وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ } وَهُوَ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ { لَا أُعْطِي أَحَدًا وَلَا أَمْنَعُ } إفْرَادَ اللَّهِ بِذَلِكَ قَدَرًا وَكَوْنًا فَإِنَّ جَمِيعَ الْمَخْلُوقِينَ يُشَارِكُونَهُ فِي هَذَا فَلَا يُعْطِي أَحَدًا وَلَا يَمْنَعُ إلَّا بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ ; وَإِنَّمَا أَرَادَ إفْرَادَ اللَّهِ بِذَلِكَ شَرْعًا وَدِينًا . أَيْ لَا أُعْطِي إلَّا مَنْ أُمِرْتُ بِإِعْطَائِهِ وَلَا أَمْنَعُ إلَّا مَنْ أُمِرْتُ بِمَنْعِهِ فَأَنَا مُطِيعٌ لِلَّهِ فِي إعْطَائِي وَمَنْعِي فَهُوَ يُقَسِّمُ الصَّدَقَةَ وَالْفَيْءَ وَالْغَنَائِمَ كَمَا يُقَسِّمُ الْمَوَارِيثَ بَيْنَ أَهْلِهَا ; لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ . وَلِهَذَا كَانَ الْمَالُ حَيْثُ أُضِيفَ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَالْمُرَادُ بِهِ مَا يَجِبُ أَنْ يُصْرَفَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ مِلْكٌ لِلرَّسُولِ كَمَا ظَنَّهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَلَا الْمُرَادُ بِهِ كَوْنَهُ مَمْلُوكًا لِلَّهِ خَلْقًا وَقَدَرًا ; فَإِنَّ جَمِيعَ الْأَمْوَالِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ . وَهَذَا كَقَوْلِهِ : { قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ } وَقَوْلِهِ : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } الْآيَةَ وَقَوْلِهِ : { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ } إلَى قَوْلِهِ : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى } الْآيَةَ . فَذَكَرَ فِي الْفَيْءِ مَا ذَكَرَ فِي الْخُمُسِ . فَظَنَّ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الرَّسُولِ تَقْتَضِي أَنَّهُ يَمْلِكُهُ كَمَا يَمْلِكُ النَّاسُ أَمْلَاكَهُمْ . ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّ غَنَائِمَ بَدْرٍ كَانَتْ مِلْكًا لِلرَّسُولِ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّ الْفَيْءَ وَأَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ كَانَ مِلْكًا لِلرَّسُولِ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّ الرَّسُولَ إنَّمَا كَانَ يَسْتَحِقُّ مِنْ الْخُمُسِ خُمُسَهُ . وَقَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ : وَكَذَلِكَ كَانَ يَسْتَحِقُّ مِنْ خُمُسِ الْفَيْءِ خُمُسَهُ وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ تُوجَدُ فِي كَلَامِ طَوَائِفَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ وَهَذَا غَلَطٌ مِنْ وُجُوهٍ : ( مِنْهَا ) أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَمْلِكُ هَذِهِ الْأَمْوَالَ كَمَا يَمْلِكُ النَّاسُ أَمْوَالَهُمْ وَلَا كَمَا يَتَصَرَّفُ الْمُلُوكُ فِي مُلْكِهِمْ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ أَنْ يَصْرِفُوا أَمْوَالَهُمْ فِي الْمُبَاحَاتِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لَهُ فَيَصْرِفَهُ فِي أَغْرَاضِهِ الْخَاصَّةِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لَهُ فَيَصْرِفَهُ فِي مَصْلَحَةِ مِلْكِهِ وَهَذِهِ حَالُ النَّبِيِّ الْمَلِكِ كداود وَسُلَيْمَانَ . قَالَ تَعَالَى : { فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } أَيْ أَعْطِ مَنْ شِئْتَ وَاحْرِمْ مَنْ شِئْتَ لَا حِسَابَ عَلَيْكَ وَنَبِيُّنَا كَانَ عَبْدًا رَسُولًا لَا يُعْطِي إلَّا مَنْ أُمِرَ بِإِعْطَائِهِ وَلَا يَمْنَعُ إلَّا مَنْ أُمِرَ بِمَنْعِهِ فَلَمْ يَكُنْ يَصْرِفُ الْأَمْوَالَ إلَّا فِي عِبَادَةٍ لِلَّهِ وَطَاعَةٍ لَهُ . ( وَمِنْهَا ) أَنَّ النَّبِيَّ لَا يُورَثُ وَلَوْ كَانَ مَلِكًا فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يُورَثُونَ فَإِذَا كَانَ مُلُوكُ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يَكُونُوا مُلَّاكًا كَمَا يَمْلِكُ النَّاسُ أَمْوَالَهُمْ فَكَيْفَ يَكُونُ صَفْوَةُ الرُّسُلِ الَّذِي هُوَ عَبْدٌ رَسُولٌ مَالِكًا . ( وَمِنْهَا ) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ قَدْرَ الْحَاجَةِ وَيَصْرِفُ سَائِرَ الْمَالِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ لَا يَسْتَفْضِلُهُ وَلَيْسَتْ هَذِهِ حَالُ الْمُلَّاكِ بَلْ الْمَالُ الَّذِي يَتَصَرَّفُ فِيهِ كُلُّهُ هُوَ مَالُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يَصْرِفَ ذَلِكَ الْمَالَ فِي طَاعَتِهِ فَتَجِبُ طَاعَتُهُ فِي قِسْمِهِ كَمَا تَجِبُ طَاعَتُهُ فِي سَائِرِ مَا يَأْمُرُ بِهِ ; فَإِنَّهُ مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَهُوَ فِي ذَلِكَ مُبَلِّغٌ عَنْ اللَّهِ . وَالْأَمْوَالُ الَّتِي كَانَ يُقَسِّمُهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهَيْنِ : ( مِنْهَا ) : مَا تَعَيَّنَ مُسْتَحِقُّهُ وَمَصْرِفُهُ كَالْمَوَارِيثِ . ( وَمِنْهَا ) مَا يَحْتَاجُ إلَى اجْتِهَادِهِ وَنَظَرِهِ وَرَأْيِهِ فَإِنَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْهُ مَا هُوَ مَحْدُودٌ بِالشَّرْعِ : كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَطَوَافِ الْأُسْبُوعِ بِالْبَيْتِ وَمِنْهُ مَا يَرْجِعُ فِي قَدْرِهِ إلَى اجْتِهَادِ الْمَأْمُورِ فَيَزِيدُهُ وَيَنْقُصُهُ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ . فَمِنْ هَذَا مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ النَّاسُ وَمِنْهُ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ : كَتَنَازُعِ الْفُقَهَاءِ فِيمَا يَجِبُ لِلزَّوْجَاتِ مِنْ النَّفَقَاتِ : هَلْ هِيَ مُقَدَّرَةٌ بِالشَّرْعِ ؟ أَمْ يُرْجَعُ فِيهَا إلَى الْعُرْفِ فَتَخْتَلِفُ فِي قَدْرِهَا وَصِفَتِهَا بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ ؟ . وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي وَهُوَ الصَّوَابُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِنْدِ : { خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ } وَقَالَ أَيْضًا : فِي خُطْبَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ { لِلنِّسَاءِ كِسْوَتُهُنَّ وَنَفَقَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } . وَكَذَلِكَ تَنَازَعُوا أَيْضًا فِيمَا يَجِبُ مِنْ الْكَفَّارَاتِ : هَلْ هُوَ مُقَدَّرٌ بِالشَّرْعِ أَوْ بِالْعُرْفِ ؟ . فَمَا أُضِيفَ إلَى اللَّهِ وَالرُّسُلِ مِنْ الْأَمْوَالِ كَانَ الْمَرْجِعُ فِي قِسْمَتِهِ إلَى أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخِلَافِ مَا سُمِّيَ مُسْتَحِقُّوهُ كَالْمَوَارِيثِ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حنين { لَيْسَ لِي مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إلَّا الْخُمُسُ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ } أَيْ لَيْسَ لَهُ بِحُكْمِ الْقَسْمِ الَّذِي يُرْجَعُ فِيهِ إلَى اجْتِهَادِهِ وَنَظَرِهِ الْخَاصِّ إلَّا الْخُمُسُ وَلِهَذَا قَالَ : { وَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ } بِخِلَافِ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ فَإِنَّهُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ . وَلِهَذَا كَانَتْ الْغَنَائِمُ يُقَسِّمُهَا الْأُمَرَاءُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَالْخُمُسُ يُرْفَعُ إلَى الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ الَّذِينَ خَلَفُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُمَّتِهِ فَيُقَسِّمُونَهَا بِأَمْرِهِمْ فَأَمَّا أَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسِ فَإِنَّمَا يَرْجِعُونَ فِيهَا لِيُعْلَمَ حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا يَسْتَفْتِي الْمُسْتَفْتِي وَكَمَا كَانُوا فِي الْحُدُودِ لِمَعْرِفَةِ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ مِنْ غَنَائِمِ حنين مَا أَعْطَاهُمْ ; فَقِيلَ : إنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ الْخُمُسِ ; وَقِيلَ : إنَّهُ كَانَ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ ; وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَهُوَ فَعَلَ ذَلِكَ لِطِيبِ نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ ; وَلِهَذَا أَجَابَ مَنْ عَتَبَ مِنْ الْأَنْصَارِ بِمَا أَزَالَ عَتْبَهُ وَأَرَادَ تَعْوِيضَهُمْ عَنْ ذَلِكَ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ الْغَنِيمَةُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ لَمْ يَمْلِكْهَا الْغَانِمُونَ ; وَإِنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا بِاجْتِهَادِهِ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . فَإِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا بَيَانُ حَالِ الْعَبْدِ الْمَحْضِ لِلَّهِ الَّذِي يَعْبُدُهُ وَيَسْتَعِينُهُ فَيَعْمَلُ لَهُ وَيَسْتَعِينُهُ وَيُحَقِّقُ قَوْلَهُ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } . تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ وَتَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ ; وَإِنْ كَانَتْ الْإِلَهِيَّةُ تَتَضَمَّنُ الرُّبُوبِيَّةَ ; وَالرُّبُوبِيَّةُ تَسْتَلْزِمُ الْإِلَهِيَّةَ ; فَإِنَّ أَحَدَهُمَا إذَا تَضَمَّنَ الْآخَرَ عِنْدَ الِانْفِرَادِ لَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَخْتَصَّ بِمَعْنَاهُ عِنْدَ الِاقْتِرَانِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } { مَلِكِ النَّاسِ } { إلَهِ النَّاسِ } وَفِي قَوْلِهِ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } فَجَمَعَ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ : اسْمِ الْإِلَهِ وَاسْمِ الرَّبِّ . فَإِنَّ " الْإِلَهَ " هُوَ الْمَعْبُودُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ . وَ " الرَّبُّ " هُوَ الَّذِي يُرَبِّي عَبْدَهُ فَيُدَبِّرُهُ . وَلِهَذَا كَانَتْ الْعِبَادَةُ مُتَعَلِّقَةً بِاسْمِهِ اللَّهِ وَالسُّؤَالُ مُتَعَلِّقًا بِاسْمِهِ الرَّبِّ ; فَإِنَّ الْعِبَادَةَ هِيَ الْغَايَةُ الَّتِي لَهَا خُلِقَ الْخَلْقُ . وَالْإِلَهِيَّةُ هِيَ الْغَايَةُ ; وَالرُّبُوبِيَّةُ تَتَضَمَّنُ خَلْقَ الْخَلْقِ وَإِنْشَاءَهُمْ فَهُوَ مُتَضَمِّنٌ ابْتِدَاءَ حَالِهِمْ ; وَالْمُصَلِّي إذَا قَالَ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فَبَدَأَ بِالْمَقْصُودِ الَّذِي هُوَ الْغَايَةُ عَلَى الْوَسِيلَةِ الَّتِي هِيَ الْبِدَايَةُ ; فَالْعِبَادَةُ غَايَةٌ مَقْصُودَةٌ ; وَالِاسْتِعَانَةُ وَسِيلَةٌ إلَيْهَا : تِلْكَ حِكْمَةٌ وَهَذَا سَبَبٌ ; وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعِلَّةِ الغائية وَالْعِلَّةِ الْفَاعِلِيَّةِ مَعْرُوفٌ ; وَلِهَذَا يُقَالُ : أَوَّلُ الْفِكْرَةِ آخِرُ الْعَمَلِ وَأَوَّلُ الْبُغْيَةِ آخِرُ الدَّرَكِ . فَالْعِلَّةُ الغائية مُتَقَدِّمَةٌ فِي التَّصَوُّرِ وَالْإِرَادَةِ وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ فِي الْوُجُودِ . فَالْمُؤْمِنُ يَقْصِدُ عِبَادَةَ اللَّهِ ابْتِدَاءً وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِإِعَانَتِهِ فَيَقُولُ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } . وَلَمَّا كَانَتْ الْعِبَادَةُ مُتَعَلِّقَةً بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى جَاءَتْ الْأَذْكَارُ الْمَشْرُوعَةُ بِهَذَا الِاسْمِ مِثْلَ كَلِمَاتِ الْأَذَانِ : اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ . وَمِثْلُ الشَّهَادَتَيْنِ : أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ [ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ] وَمِثْلُ التَّشَهُّدِ : التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَمِثْلُ التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ . وَأَمَّا السُّؤَالُ فَكَثِيرًا مَا يَجِيءُ بِاسْمِ الرَّبِّ كَقَوْلِ آدَمَ وَحَوَّاءَ : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } وَقَوْلِ نُوحٍ : { رَبِّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ } وَقَوْلِ مُوسَى : { رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي } وَقَوْلِ الْخَلِيلِ : { رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ } الْآيَةُ وَقَوْلِهِ مَعَ إسْمَاعِيلَ : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } وَكَذَلِكَ قَوْلُ الَّذِينَ قَالُوا : { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ . وَقَدْ نُقِلَ عَنْ مَالِك أَنَّهُ قَالَ : أَكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ فِي دُعَائِهِ : يَا سَيِّدِي يَا سَيِّدِي يَا حَنَّانُ يَا حَنَّانُ وَلَكِنْ يَدْعُو بِمَا دَعَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ ; رَبَّنَا رَبَّنَا نَقَلَهُ عَنْهُ العتبي فِي العتبية . وَقَالَ تَعَالَى : عَنْ أُولِي الْأَلْبَابِ : { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } الْآيَاتِ . فَإِذَا سَبَقَ إلَى قَلْبِ الْعَبْدِ قَصْدُ السُّؤَالِ نَاسَبَ أَنْ يَسْأَلَهُ بِاسْمِهِ الرَّبِّ . وَإِنْ سَأَلَهُ بِاسْمِهِ اللَّهِ لِتَضَمُّنِهِ اسْمَ الرَّبِّ كَانَ حَسَنًا وَأَمَّا إذَا سَبَقَ إلَى قَلْبِهِ قَصْدُ الْعِبَادَةِ فَاسْمُ اللَّهِ أَوْلَى بِذَلِكَ . إذَا بَدَأَ بِالثَّنَاءِ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ وَإِذَا قَصَدَ الدُّعَاءَ دَعَا بِاسْمِ الرَّبِّ وَلِهَذَا قَالَ يُونُسُ : { لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } وَقَالَ آدَمَ : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } فَإِنَّ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَهَبَ مُغَاضِبًا وَقَالَ تَعَالَى : { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ } فَفَعَلَ مَا يُلَامُ عَلَيْهِ فَكَانَ الْمُنَاسِبُ لِحَالِهِ أَنْ يَبْدَأَ بِالثَّنَاءِ عَلَى رَبِّهِ وَالِاعْتِرَافِ بِأَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَهُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ دُونَ غَيْرِهِ فَلَا يُطَاعُ الْهَوَى فَإِنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى يُضْعِفُ عِبَادَةَ اللَّهِ وَحْدَهُ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَدِمَ عَلَى ارْتِفَاعِ الْعَذَابِ عَنْ قَوْمِهِ بَعْدَ أَنْ أَظَلَّهُمْ وَخَافَ أَنْ يَنْسُبُوهُ إلَى الْكَذِبِ فَغَاضَبَ . وَفَعَلَ مَا اقْتَضَى الْكَلَامَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَنْ يُقَالَ : { لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ } وَهَذَا الْكَلَامُ يَتَضَمَّنُ بَرَاءَةَ مَا سِوَى اللَّهِ مِنْ الْإِلَهِيَّةِ سَوَاءٌ صَدَرَ ذَلِكَ [ عَنْ ] هَوَى النَّفْسِ أَوْ طَاعَةِ الْخَلْقِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ . وَلِهَذَا قَالَ : { سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } . وَالْعَبْدُ يَقُولُ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ فِيمَا يَظُنُّهُ وَهُوَ غَيْرُ مُطَابِقٍ وَفِيمَا يُرِيدُهُ وَهُوَ غَيْرُ حَسَنٍ . وَأَمَّا آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ اعْتَرَفَ أَوَّلًا بِذَنْبِهِ فَقَالَ : { ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا } وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ آدَمَ مَنْ يُنَازِعُهُ الْإِرَادَةَ لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِمَّا يُزَاحِمُ الْإِلَهِيَّةَ بَلْ ظَنَّ صِدْقَ الشَّيْطَانِ الَّذِي { وَقَاسَمَهُمَا إنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ } { فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ } فَالشَّيْطَانُ غَرَّهُمَا وَأَظْهَرَ نُصْحَهُمَا فَكَانَا فِي قَبُولِ غُرُورِهِ وَمَا أَظْهَرَ مِنْ نُصْحِهِ حَالَهُمَا مُنَاسِبًا لِقَوْلِهِمَا : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا } لِمَا حَصَلَ مِنْ التَّفْرِيطِ لَا لِأَجْلِ هَوًى وَحَظٍّ يُزَاحِمُ الْإِلَهِيَّةَ وَكَانَا مُحْتَاجَيْنِ إلَى أَنْ يَرُبَّهُمَا رُبُوبِيَّةً تُكْمِلُ عِلْمَهُمَا وَقَصْدَهُمَا . حَتَّى لَا يَغْتَرَّا بِمِثْلِ ذَلِكَ فَهُمَا يَشْهَدَانِ حَاجَتَهُمَا إلَى اللَّهِ رَبِّهِمَا الَّذِي لَا يَقْضِي حَاجَتَهُمَا غَيْرُهُ . وَذُو النُّونِ شَهِدَ مَا حَصَلَ مِنْ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّ الْإِلَهِيَّةِ بِمَا حَصَلَ مِنْ الْمُغَاضَبَةِ وَكَرَاهَةِ إنْجَاءِ أُولَئِكَ فَفِي ذَلِكَ مِنْ الْمُعَارَضَةِ فِي الْفِعْلِ لِحُبِّ شَيْءٍ آخَرَ مَا يُوجِبُ تَجْرِيدَ مَحَبَّتِهِ لِلَّهِ وَتَأَلُّهِهِ لَهُ وَأَنْ يَقُولَ : { لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ } فَإِنَّ قَوْلَ الْعَبْدِ : لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ يَمْحُو أَنْ يَتَّخِذَ إلَهَهُ هَوَاهُ . وَقَدْ رُوِيَ { مَا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ إلَهٌ يُعْبَدُ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ هَوًى مُتَّبَعٍ } فَكَمَّلَ يُونُسُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ تَحْقِيقَ إلَهِيَّتِهِ لِلَّهِ وَمَحْوَ الْهَوَى الَّذِي يُتَّخَذُ إلَهًا مِنْ دُونِهِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ عِنْدَ تَحْقِيقِ قَوْلِهِ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ إرَادَةٌ تُزَاحِمُ إلَهِيَّةَ الْحَقِّ بَلْ كَانَ مُخْلِصًا لِلَّهِ الدِّينَ إذْ كَانَ مِنْ أَفْضَلِ عِبَادِ اللَّهِ الْمُخْلِصِينَ . و ( أَيْضًا ) فَمِثْلُ هَذِهِ الْحَالِ تَعْرِضُ لِمَنْ تَعْرِضُ لَهُ فَيَبْقَى فِيهِ نَوْعُ مُغَاضَبَةٍ لِلْقَدَرِ وَمُعَارَضَةٍ لَهُ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَوَسَاوِسَ فِي حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ فَيَحْتَاجُ الْعَبْدُ أَنْ يَنْفِيَ عَنْهُ شَيْئَيْنِ : الْآرَاءَ الْفَاسِدَةَ وَالْأَهْوَاءَ الْفَاسِدَةَ فَيَعْلَمُ أَنَّ الْحِكْمَةَ وَالْعَدْلَ فِيمَا اقْتَضَاهُ عِلْمُهُ وَحِكْمَتُهُ لَا فِيمَا اقْتَضَاهُ عِلْمُ الْعَبْدِ وَحِكْمَتُهُ وَيَكُونُ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ مَعَ أَمْرِ اللَّهِ وَحُكْمِهِ هَوًى يُخَالِفُ ذَلِكَ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ } رَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ فِي صَحِيحِهِ . وَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّ عُمَرَ قَالَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاَللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ نَفْسِي . قَالَ : الْآنَ يَا عُمَرُ } . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } . فَإِذَا كَانَ الْإِيمَانُ لَا يَحْصُلُ حَتَّى يُحَكِّمَ الْعَبْدُ رَسُولَهُ وَيُسَلِّمَ لَهُ وَيَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جَاءَ بِهِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ مُقَدَّمًا عَلَى حُبّ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ وَمَالَهُ وَأَهْلَهُ فَكَيْفَ فِي تَحْكِيمِهِ اللَّهَ تَعَالَى وَالتَّسْلِيمِ لَهُ فَمَنْ رَأَى قَوْمًا يَسْتَحِقُّونَ الْعَذَابَ فِي ظَنِّهِ . وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُمْ وَرَحِمَهُمْ وَكَرِهَ هُوَ ذَلِكَ فَهَذَا إمَّا أَنْ يَكُونَ عَنْ إرَادَةٍ تُخَالِفُ حُكْمَ اللَّهِ وَإِمَّا عَنْ ظَنٍّ يُخَالِفُ عِلْمَ اللَّهِ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ . وَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّهُ عَلِيمٌ وَأَنَّهُ حَكِيمٌ لَمْ يَبْقَ لِكَرَاهِيَةِ مَا فَعَلَهُ وَجْهٌ وَهَذَا يَكُونُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَفِيمَا خَلَّفَ وَلَمْ يَأْمُرْنَا أَنْ نَكْرَهَهُ وَنَغْضَبَ عَلَيْهِ . فَأَمَّا مَا أَمَرَنَا بِكَرَاهَتِهِ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ : كَالْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ فَعَلَيْنَا أَنْ نُطِيعَهُ فِي أَمْرِهِ بِخِلَافِ تَوْبَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ وَإِنْجَائِهِ إيَّاهُمْ مِنْ الْعَذَابِ فَإِنَّ هَذَا مِنْ مَفْعُولَاتِهِ الَّتِي لَمْ يَأْمُرْنَا أَنْ نَكْرَهَهَا بَلْ هِيَ مِمَّا يُحِبُّهَا فَإِنَّهُ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ . فَكَرَاهَةُ هَذَا مِنْ نَوْعِ اتِّبَاعِ الْإِرَادَةِ الْمُزَاحِمَةِ لِلْإِلَهِيَّةِ . فَعَلَى صَاحِبِهَا أَنْ يُحَقِّقَ تَوْحِيدَ الْإِلَهِيَّةِ فَيَقُولَ : لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ . فَعَلَيْنَا أَنْ نُحِبَّ مَا يُحِبُّ وَنَرْضَى مَا يَرْضَى وَنَأْمُرَ بِمَا يَأْمُرُ وَنَنْهَى عَمَّا يَنْهَى . فَإِذَا كَانَ ( يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) فَعَلَيْنَا أَنْ نُحِبَّهُمْ ; وَلَا نَأْلَهُ مُرَادَاتِنَا الْمُخَالِفَةَ لمحابه .