تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تيمية - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { دَعْوَةُ أَخِي ذِي النُّونِ : { لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } . مَا دَعَا بِهَا مَكْرُوبٌ إلَّا فَرَّجَ اللَّهُ كُرْبَتَهُ } مَا مَعْنَى هَذِهِ الدَّعْوَةِ ؟ وَلِمَ كَانَتْ كَاشِفَةً لِلْكَرْبِ ؟ وَهَلْ لَهَا شُرُوطٌ بَاطِنَةٌ عِنْدَ النُّطْقِ بِلَفْظِهَا ؟ وَكَيْفَ مُطَابَقَةُ اعْتِقَادِ الْقَلْبِ لِمَعْنَاهَا . حَتَّى يُوجِبَ كَشْفَ ضُرِّهِ ؟ وَمَا مُنَاسَبَةُ ذِكْرِهِ : { إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } مَعَ أَنَّ التَّوْحِيدَ . يُوجِبُ كَشْفَ الضُّرِّ ؟ وَهَلْ يَكْفِيهِ اعْتِرَافُهُ . أَمْ لَا بُدَّ مِنْ التَّوْبَةِ وَالْعَزْمِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ؟ وَمَا هُوَ السِّرُّ فِي أَنَّ كَشْفَ الضُّرِّ وَزَوَالَهُ يَكُونُ عِنْدَ انْقِطَاعِ الرَّجَاءِ عَنْ الْخَلْقِ وَالتَّعَلُّقِ بِهِمْ ؟ وَمَا الْحِيلَةُ فِي انْصِرَافِ الْقَلْبِ عَنْ الرَّجَاءِ لِلْمَخْلُوقِينَ وَالتَّعَلُّقِ بِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ وَتَعَلُّقِهِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَرَجَائِهِ وَانْصِرَافِهِ إلَيْهِ بِالْكُلِّيَّةِ وَمَا السَّبَبُ الْمُعِينُ عَلَى ذَلِكَ ؟ ؟ .
123456789
وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ : مَا السَّبَبُ فِي أَنَّ الْفَرَجَ يَأْتِي عِنْدَ انْقِطَاعِ الرَّجَاءِ عَنْ الْخَلْقِ ؟ وَمَا الْحِيلَةُ فِي صَرْفِ الْقَلْبِ عَنْ التَّعَلُّقِ بِهِمْ وَتَعَلُّقِهِ بِاَللَّهِ ؟ فَيُقَالُ : سَبَبُ هَذَا تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ : " تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ " و " تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ " . فَتَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ أَنَّهُ لَا خَالِقَ إلَّا اللَّهُ فَلَا يَسْتَقِلُّ شَيْءٌ سِوَاهُ بِإِحْدَاثِ أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ ; بَلْ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ ; فَكُلُّ مَا سِوَاهُ إذَا قُدِّرَ سَبَبًا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ شَرِيكٍ مُعَاوِنٍ وَضِدٍّ مُعَوِّقٍ فَإِذَا طُلِبَ مِمَّا سِوَاهُ إحْدَاثُ أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ طُلِبَ مِنْهُ مَا لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ وَلَا يَقْدِرُ وَحْدَهُ عَلَيْهِ حَتَّى مَا يُطْلَبُ مِنْ الْعَبْدِ مِنْ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ لَا يَفْعَلُهَا إلَّا بِإِعَانَةِ اللَّهِ لَهُ كَأَنْ يَجْعَلَهُ فَاعِلًا لَهَا بِمَا يَخْلُقُهُ فِيهِ مِنْ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ وَيَخْلُقُهُ لَهُ مِنْ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ وَعِنْدَ وُجُودِ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ وَالْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ يَجِبُ وُجُودُ الْمَقْدُورِ . فَمَشِيئَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ مُسْتَلْزَمَةٌ لِكُلِّ مَا يُرِيدُهُ فَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَمَا سِوَاهُ لَا تَسْتَلْزِمُ إرَادَتُهُ شَيْئًا ; بَلْ مَا أَرَادَهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِأُمُورِ خَارِجَةٍ عَنْ مَقْدُورِهِ إنْ لَمْ يُعِنْهُ الرَّبُّ بِهَا لَمْ يَحْصُلْ مُرَادُهُ وَنَفْسُ إرَادَتِهِ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ } { وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إلَى رَبِّهِ سَبِيلًا } { وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } { يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } وَقَالَ : { فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ } { وَمَا يَذْكُرُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ } . وَالرَّاجِي لِمَخْلُوقِ طَالِبٌ بِقَلْبِهِ لِمَا يُرِيدُهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَخْلُوقِ وَذَلِكَ الْمَخْلُوقُ عَاجِزٌ عَنْهُ ثُمَّ هَذَا مِنْ الشِّرْكِ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ فَمِنْ كَمَالِ نِعْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ إلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَمْنَعَ حُصُولَ مَطَالِبِهِمْ بِالشِّرْكِ حَتَّى يَصْرِفَ قُلُوبَهُمْ إلَى التَّوْحِيدِ ثُمَّ إنْ وَحَّدَهُ الْعَبْدُ تَوْحِيدَ الْإِلَهِيَّةِ حَصَلَتْ لَهُ سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ قِيلَ فِيهِ : { وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } وَفِي قَوْلِهِ : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إلَّا إيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا } كَانَ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ وَحْدَانِيِّتِهِ حُجَّةً عَلَيْهِ . كَمَا احْتَجَّ سُبْحَانَهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُقِرُّونَ بِأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ثُمَّ يُشْرِكُونَ وَلَا يَعْبُدُونَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } { قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ } { قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ } وَهَذَا قَدْ ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . فَمِنْ تَمَامِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُنْزِلَ بِهِمْ الشِّدَّةَ وَالضُّرَّ وَمَا يُلْجِئُهُمْ إلَى تَوْحِيدِهِ فَيَدْعُونَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَيَرْجُونَهُ لَا يَرْجُونَ أَحَدًا سِوَاهُ وَتَتَعَلَّقُ قُلُوبُهُمْ بِهِ لَا بِغَيْرِهِ فَيَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ وَحَلَاوَةِ الْإِيمَانِ وَذَوْقِ طَعْمِهِ وَالْبَرَاءَةِ مِنْ الشِّرْكِ مَا هُوَ أَعْظَمُ نِعْمَةً عَلَيْهِمْ مِنْ زَوَالِ الْمَرَضِ وَالْخَوْفِ أَوْ الْجَدْبِ أَوْ حُصُولِ الْيُسْرِ وَزَوَالِ الْعُسْرِ فِي الْمَعِيشَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَذَّاتٌ بَدَنِيَّةٌ وَنِعَمٌ دُنْيَوِيَّةٌ قَدْ يَحْصُلُ لِلْكَافِرِ مِنْهَا أَعْظَمُ مِمَّا يَحْصُلُ لِلْمُؤْمِنِ . وَأَمَّا مَا يَحْصُلُ لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ الْمُخْلِصِينَ لِلَّهِ الدِّينَ فَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ كُنْهِهِ مَقَالٌ أَوْ يَسْتَحْضِرَ تَفْصِيلَهُ بَالٌ وَلِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ ذَلِكَ نَصِيبٌ بِقَدْرِ إيمَانِهِ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : يَا ابْنَ آدَمَ لَقَدْ بُورِكَ لَك فِي حَاجَةٍ أَكْثَرْت فِيهَا مِنْ قَرْعِ بَابِ سَيِّدِك . وَقَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ : إنَّهُ لَيَكُونُ لِي إلَى اللَّهِ حَاجَةٌ فَأَدْعُوهُ فَيَفْتَحُ لِي مِنْ لَذِيذِ مَعْرِفَتِهِ وَحَلَاوَةِ مُنَاجَاتِهِ مَا لَا أُحِبُّ مَعَهُ أَنْ يُعَجِّلَ قَضَاءَ حَاجَتِي خَشْيَةَ أَنْ تَنْصَرِفَ نَفْسِي عَنْ ذَلِكَ ; لِأَنَّ النَّفْسَ لَا تُرِيدُ إلَّا حَظَّهَا فَإِذَا قُضِيَ انْصَرَفَتْ . وَفِي بَعْضِ الإسرائيلِيَّاتِ يَا ابْنَ آدَمَ الْبَلَاءُ يَجْمَعُ بَيْنِي وَبَيْنَك وَالْعَافِيَةُ تَجْمَعُ بَيْنَك وَبَيْنَ نَفْسِك . وَهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ وَهُوَ مَوْجُودٌ مَذُوقٌ مَحْسُوسٌ بِالْحِسِّ الْبَاطِنِ لِلْمُؤْمِنِ وَمَا مِنْ مُؤْمِنٍ إلَّا وَقَدْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ مَا يَعْرِفُ بِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الذَّوْقِ وَالْحِسِّ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا مَنْ كَانَ لَهُ ذَوْقٌ وَحِسٌّ بِذَلِكَ . وَلَفْظُ " الذَّوْقِ " وَإِنْ كَانَ قَدْ يُظَنُّ أَنَّهُ فِي الْأَصْلِ مُخْتَصٌّ بِذَوْقِ اللِّسَانِ فَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِحْسَاسِ بِالْمُلَائِمِ وَالْمُنَافِرِ كَمَا أَنَّ لَفْظَ " الْإِحْسَاسِ " فِي عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ عَامٌّ فِيمَا يُحَسُّ بِالْحَوَاسِّ الْخَمْسِ بَلْ وَبِالْبَاطِنِ . وَأَمَّا فِي اللُّغَةِ فَأَصْلُهُ " الرُّؤْيَةُ " كَمَا قَالَ : { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ } . وَ ( الْمَقْصُودُ ) لَفْظُ " الذَّوْقِ " قَالَ تَعَالَى : { فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ } فَجَعَلَ الْخَوْفَ وَالْجُوعَ مَذُوقًا ; وَأَضَافَ إلَيْهِمَا اللِّبَاسَ لِيَشْعُرَ أَنَّهُ لَبِسَ الْجَائِعَ وَالْخَائِفَ فَشَمِلَهُ وَأَحَاطَ بِهِ إحَاطَةَ اللِّبَاسِ بِاللَّابِسِ ; بِخِلَافِ مَنْ كَانَ الْأَلَمُ لَا يَسْتَوْعِبُ مَشَاعِرَهُ بَلْ يَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَقَالَ تَعَالَى : فَذُوقُوا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ وَقَالَ تَعَالَى : { ذُقْ إنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } وَقَالَ تَعَالَى : { ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ } وَقَالَ : { لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ } وَقَالَ تَعَالَى : { لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا } { إلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا } وَقَالَ : { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ } وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ نَبِيًّا } . فَاسْتِعْمَالُ لَفْظِ " الذَّوْقِ " فِي إدْرَاكِ الْمُلَائِمِ وَالْمُنَافِرِ كَثِيرٌ . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ } كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْحَدِيثِ . فَوُجُودُ الْمُؤْمِنِ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ وَذَوْقُ طَعْمِ الْإِيمَانِ أَمْرٌ يَعْرِفُهُ مَنْ حَصَلَ لَهُ هَذَا الْوَجْدُ . وَهَذَا الذَّوْقُ أَصْحَابُهُ فِيهِ يَتَفَاوَتُونَ فَاَلَّذِي يَحْصُلُ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ عِنْدَ تَجْرِيدِ تَوْحِيدِ قُلُوبِهِمْ إلَى اللَّهِ وَإِقْبَالِهِمْ عَلَيْهِ دُونَ مَا سِوَاهُ بِحَيْثُ يَكُونُونَ حُنَفَاءَ لَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَا يُحِبُّونَ شَيْئًا إلَّا لَهُ وَلَا يَتَوَكَّلُونَ إلَّا عَلَيْهِ وَلَا يُوَالُونَ إلَّا فِيهِ وَلَا يُعَادُونَ إلَّا لَهُ وَلَا يَسْأَلُونَ إلَّا إيَّاهُ وَلَا يَرْجُونَ إلَّا إيَّاهُ وَلَا يَخَافُونَ إلَّا إيَّاهُ يَعْبُدُونَهُ وَيَسْتَعِينُونَ لَهُ وَبِهِ بِحَيْثُ يَكُونُونَ عِنْدَ الْحَقِّ بِلَا خَلْقٍ وَعِنْدَ الْخَلْقِ بِلَا هَوًى ; قَدْ فَنِيَتْ عَنْهُمْ إرَادَةُ مَا سِوَاهُ بِإِرَادَتِهِ وَمَحَبَّةُ مَا سِوَاهُ بِمَحَبَّتِهِ وَخَوْفُ مَا سِوَاهُ بِخَوْفِهِ وَرَجَاءُ مَا سِوَاهُ بِرَجَائِهِ وَدُعَاءُ مَا سِوَاهُ بِدُعَائِهِ هُوَ أَمْرٌ لَا يَعْرِفُهُ بِالذَّوْقِ وَالْوَجْدِ إلَّا مَنْ لَهُ نَصِيبٌ وَمَا مِنْ مُؤْمِنٍ إلَّا لَهُ مِنْهُ نَصِيبٌ . وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْإِسْلَامِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ بِهِ الْكُتُبَ وَهُوَ قُطْبُ الْقُرْآنِ الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ رَحَاهُ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ . قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَصْلٌ " الْفَنَاءُ " الَّذِي يُوجَدُ فِي كَلَامِ الصُّوفِيَّةِ يُفَسَّرُ بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ . ( أَحَدُهَا ) : فَنَاءُ الْقَلْبِ عَنْ إرَادَةِ مَا سِوَى الرَّبِّ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ وَعِبَادَتُهُ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ فَهَذَا حَقٌّ صَحِيحٌ وَهُوَ مَحْضُ التَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ وَهُوَ فِي " الْحَقِيقَةِ " عِبَادَةُ الْقَلْبِ وَتَوَكُّلُهُ وَاسْتِعَانَتُهُ وَتَأَلُّهُهُ وَإِنَابَتُهُ وَتَوَجُّهُهُ إلَى اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ . وَلَيْسَ لِأَحَدِ خُرُوجٌ عَنْ هَذَا . وَهَذَا هُوَ " الْقَلْبُ السَّلِيمُ " الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { إلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } وَهُوَ سَلَامَةُ الْقَلْبِ عَنْ الِاعْتِقَادَاتِ الْفَاسِدَةِ . وَالْإِرَادَاتِ الْفَاسِدَةِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ . وَهَذَا " الْفَنَاءُ " لَا يُنَافِيهِ الْبَقَاءُ ; بَلْ يَجْتَمِعُ هُوَ وَالْبَقَاءُ فَيَكُونُ الْعَبْدُ فَانِيًا عَنْ إرَادَةِ مَا سِوَاهُ وَإِنْ كَانَ شَاعِرًا بِاَللَّهِ وَبِالسِّوَى وَتَرْجَمَتُهُ قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَلَا نَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ } وَهَذَا فِي " الْجُمْلَةِ " هُوَ أَوَّلُ الدِّينِ وَآخِرُهُ . ( الْأَمْرُ الثَّانِي ) : فَنَاءُ الْقَلْبِ عَنْ شُهُودِ مَا سِوَى الرَّبِّ فَذَاكَ فَنَاءٌ عَنْ الْإِرَادَةِ وَهَذَا فَنَاءٌ عَنْ الشَّهَادَةِ . ذَاكَ فَنَاءٌ عَنْ عِبَادَةِ الْغَيْرِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَهَذَا فَنَاءٌ عَنْ الْعِلْمِ بِالْغَيْرِ وَالنَّظَرِ إلَيْهِ فَهَذَا الْفَنَاءُ فِيهِ نَقْصٌ ; فَإِنَّ شُهُودَ الْحَقَائِقِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ وَهُوَ شُهُودُ الرَّبِّ مُدَبِّرًا لِعِبَادِهِ آمِرًا بِشَرَائِعِهِ أَكْمَلُ مِنْ شُهُودِ وُجُودِهِ أَوْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ أَوْ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ وَالْفَنَاءُ بِذَلِكَ عَنْ شُهُودِ مَا سِوَى ذَلِكَ . وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ أَكْمَلَ شُهُودًا مِنْ أَنْ يَنْقُصَهُمْ شُهُودٌ لِلْحَقِّ مُجْمَلًا عَنْ شُهُودِهِ مُفَصَّلًا وَلَكِنْ عَرَضَ كَثِيرٌ مِنْ هَذَا لِكَثِيرِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ . كَمَا عَرَضَ لَهُمْ عِنْدَ تَجَلِّي بَعْضِ الْحَقَائِقِ : الْمَوْتُ وَالْغَشْيُ وَالصِّيَاحُ وَالِاضْطِرَابُ وَذَلِكَ لِضَعْفِ الْقَلْبِ عَنْ شُهُودِ الْحَقَائِقِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ وَعَنْ شُهُودِ التَّفْرِقَةِ فِي الْجَمْعِ وَالْكَثْرَةِ فِي الْوَحْدَةِ حَتَّى اخْتَلَفُوا فِي إمْكَانِ ذَلِكَ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَرَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ سِوَى ذَلِكَ لَمَّا رَأَى أَنَّهُ إذَا ذَكَرَ الْخَلْقَ أَوْ الْأَمْرَ اشْتَغَلَ عَنْ الْخَالِقِ الْآمِرِ . وَإِذَا عُورِضَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ ادَّعَى الِاخْتِصَاصَ أَوْ أَعْرَضَ عَنْ الْجَوَابِ أَوْ تَحَيَّرَ فِي الْأَمْرِ . وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَاسَ جَمِيعَ الْخَلْقِ عَلَى مَا وَجَدَهُ مِنْ نَفْسِهِ ; وَلِهَذَا يَقُولُ بَعْضُ هَؤُلَاءِ : إنَّهُ لَا يُمْكِنُ حِينَ تَجَلِّي الْحَقِّ سَمَاعُ كَلَامِهِ وَيُحْكَى عَنْ ابْنِ عَرَبِيٍّ أَنَّهُ لَمَّا ذُكِرَ لَهُ عَنْ الشَّيْخِ شِهَابِ الدِّينِ السهروردي أَنَّهُ جَوَّزَ اجْتِمَاعَ الْأَمْرَيْنِ . قَالَ : نَحْنُ نَقُولُ لَهُ عَنْ شُهُودِ الذَّاتِ وَهُوَ يُخْبِرُنَا عَنْ شُهُودِ الصِّفَاتِ وَالصَّوَابُ مَعَ شِهَابِ الدِّينِ فَإِنَّهُ كَانَ صَحِيحَ الِاعْتِقَادِ فِي امْتِيَازِ الرَّبِّ عَنْ الْعَبْدِ . وَإِنَّمَا بَنَى ابْنُ عَرَبِيٍّ عَلَى أَصْلِهِ الكفري فِي أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْوُجُودُ الْفَائِضُ عَلَى الْمُمْكِنَاتِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ شُهُودَ هَذَا لَا يَقَعُ فِيهِ خِطَابٌ وَإِنَّمَا الْخِطَابُ فِي مَقَامِ الْعَقْلِ . وَفِي هَذَا الْفَنَاءِ قَدْ يَقُولُ : أَنَا الْحَقُّ أَوْ سُبْحَانِي أَوْ مَا فِي الْجُبَّةِ إلَّا اللَّهُ إذَا فَنِيَ بِمَشْهُودِهِ عَنْ شُهُودِهِ وَبِمَوْجُودِهِ عَنْ وُجُودِهِ . وَبِمَذْكُورِهِ عَنْ ذِكْرِهِ وَبِمَعْرُوفِهِ عَنْ عِرْفَانِهِ . كَمَا يَحْكُونَ أَنَّ رَجُلًا كَانَ مُسْتَغْرِقًا فِي مَحَبَّةِ آخَرَ فَوَقَعَ الْمَحْبُوبُ فِي الْيَمِّ فَأَلْقَى الْآخَرُ نَفْسَهُ خَلْفَهُ فَقَالَ مَا الَّذِي أَوْقَعَك خَلْفِي ؟ فَقَالَ : غِبْت بِك عَنِّي فَظَنَنْت أَنَّك أَنِّي . وَفِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ يَقَعُ السُّكْرُ الَّذِي يُسْقِطُ التَّمْيِيزَ مَعَ وُجُودِ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ كَمَا يَحْصُلُ بِسُكْرِ الْخَمْرِ وَسُكْرِ عَشِيقِ الصُّوَرِ . وَكَذَلِكَ قَدْ يَحْصُلُ الْفَنَاءُ بِحَالِ خَوْفٍ أَوْ رَجَاءٍ كَمَا يَحْصُلُ بِحَالِ حُبٍّ فَيَغِيبُ الْقَلْبُ عَنْ شُهُودِ بَعْضِ الْحَقَائِقِ وَيَصْدُرُ مِنْهُ قَوْلٌ أَوْ عَمَلٌ مِنْ جِنْسِ أُمُورِ السُّكَارَى وَهِيَ شَطَحَاتُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ : كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ : أَنْصِبُ خَيْمَتِي عَلَى جَهَنَّمَ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الْمُخَالِفَةِ لِلشَّرْعِ ; وَقَدْ يَكُونُ صَاحِبُهَا غَيْرَ مَأْثُومٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَيُشْبِهُ هَذَا الْبَابُ أَمْرَ خُفَرَاءِ الْعَدُوِّ وَمَنْ يُعِينُ كَافِرًا أَوْ ظَالِمًا بِحَالِ وَيَزْعُمُ أَنَّهُ مَغْلُوبٌ عَلَيْهِ . وَيَحْكُمُ [ عَلَى ] هَؤُلَاءِ أَنَّ أَحَدَهُمْ إذَا زَالَ عَقْلُهُ بِسَبَبِ غَيْرِ مُحَرَّمٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ سَبَبُ زَوَالِ الْعَقْلِ وَالْغَلَبَةِ أَمْرًا مُحَرَّمًا . وَهَذَا كَمَا قُلْنَا فِي عُقَلَاءِ الْمَجَانِينِ والمولهين الَّذِينَ صَارَ ذَلِكَ لَهُمْ مَقَامًا دَائِمًا كَمَا أَنَّهُ يَعْرِضُ لِهَؤُلَاءِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ ذَلِكَ فِي مَنْ زَالَ عَقْلُهُ حَتَّى تَرَكَ شَيْئًا مِنْ الْوَاجِبَاتِ . إنْ كَانَ زَوَالُهُ بِسَبَبِ غَيْرِ مُحَرَّمٍ مِثْلِ الْإِغْمَاءِ بِالْمَرَضِ أَوْ أُسْقِيَ مُكْرَهًا شَيْئًا يُزِيلُ عَقْلَهُ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ وَإِنْ زَالَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْوَالِ الْمُحَرَّمَةِ أَثِمَ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي فِعْلِ الْمُحَرَّمِ . وَكَمَا أَنَّهُ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِمْ فَلَا يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ وَلَا حَمْلُ كَلَامِهِمْ وَفِعَالِهِمْ عَلَى الصِّحَّةِ بَلْ هُمْ فِي الْخَاصَّةِ مِثْلُ الْغَافِلِ وَالْمَجْنُونِ فِي التَّكَالِيفِ الظَّاهِرَةِ ; وَقَالَ فِيهِمْ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ أَعْطَاهُمْ اللَّهُ عُقُولًا وَأَحْوَالًا فَسَلَبَ عُقُولَهُمْ وَتَرَكَ أَحْوَالَهُمْ وَأَسْقَطَ مَا فَرَضَ بِمَا سَلَبَ . وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْعَارِفُونَ عَلَى أَنَّ حَالَ الْبَقَاءِ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ شُهُودُ الْحَقَائِقِ بِإِشْهَادِ الْحَقِّ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا رَوَى عَنْهُ رَسُولُهُ : { وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ . فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي } وَفِي رِوَايَةٍ { وَبِي يَنْطِقُ وَبِي يَعْقِلُ } فَإِذَا سَمِعَ بِالْحَقِّ وَرَأَى بِهِ سَمِعَ الْأَمْرَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ وَشَهِدَ الْحَقَّ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ . وَعَامَّةُ مَا تَجِدُهُ فِي كُتُبِ أَصِحَّاءِ الصُّوفِيَّةِ مِثْلِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ الْفَنَاءِ هُوَ هَذَا مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَغْلَطُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضِ أَحْكَامِهِ كَمَا تَكَلَّمْت عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَفِي الْجُمْلَةِ فَهَذَا الْفَنَاءُ صَحِيحٌ وَهُوَ فِي عيسوية الْمُحَمَّدِيَّةِ وَهُوَ شَبِيهٌ بِالصَّعْقِ وَالصِّيَاحِ الَّذِي حَدَثَ فِي التَّابِعِينَ . وَلِهَذَا يَقَعُ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ فِي نَوْعِ ضَلَالٍ ; لِأَنَّ الْفَنَاءَ عَنْ شُهُودِ الْحَقَائِقِ مَرْجِعُهُ إلَى عَدَمِ الْعِلْمِ وَالشُّهُودِ . وَهُوَ وَصْفُ نَقْصٍ لَا وَصْفُ كَمَالٍ وَإِنَّمَا يُمْدَحُ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ إرَادَةِ مَا سِوَاهُ ; لِأَنَّ ذِكْرَ الْمَخْلُوقِ قَدْ يَدْعُو إلَى إرَادَتِهِ وَالْفِتْنَةِ بِهِ . وَلِهَذَا غَالِبُ عُبَّادِ " العيسوية " فِي عَدَمِ الْعِلْمِ بِالسِّوَى وَإِرَادَتِهِ وَالْفِتْنَةِ بِهِ وَيُوصَفُونَ بِسَلَامَةِ الْقُلُوبِ . وَغَالِبُ عُلَمَاءِ " الموسوية " فِي الْعِلْمِ بِالسِّوَى وَإِرَادَتِهِ وَالْفِتْنَةِ بِهِ وَيُوصَفُونَ بِالْعِلْمِ ; لَكِنْ الْأَوَّلُونَ مَوْصُوفُونَ بِالْجَهْلِ وَالْعَدْلِ . وَالْآخَرُونَ مَوْصُوفُونَ بِالظُّلْمِ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ . فَأَمَّا الْعِلْمُ بِالْحَقِّ وَالْخَلْقِ وَإِرَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فَهَذَا نَعْتُ الْمُحَمَّدِيَّةِ الْكَامِلُونَ فِي الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَسَلَامَةُ الْقَلْبِ الْمَحْمُودَةُ هِيَ سَلَامَةُ إذْ الْجَهْلُ لَا يَكُونُ بِنَفْسِهِ صِفَةَ مَدْحٍ . إلَّا أَنَّهُ قَدْ يُمْدَحُ لِسَلَامَتِهِ بِهِ عَنْ الشُّرُورِ ; فَإِنَّ أَكْثَرَ النُّفُوسِ إذَا عَرَفَتْ الشَّرَّ الَّذِي تَهْوَاهُ اتَّبَعَتْهُ أَوْ فَزِعَتْ مِنْهُ أَوْ فَتَنَهَا . ( الثَّالِثُ ) : فَنَاءٌ عَنْ وُجُودِ السِّوَى : بِمَعْنَى أَنَّهُ يَرَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْوُجُودُ وَأَنَّهُ لَا وُجُودَ لِسِوَاهُ لَا بِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ وَالْحَالُ لِلِاتِّحَادِيَّةِ الزَّنَادِقَةِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ كالبلياني وَالتِّلْمِسَانِيّ والقونوني وَنَحْوِهِمْ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الْحَقِيقَةَ أَنَّهُ عَيْنُ الْمَوْجُودَاتِ وَحَقِيقَةُ الْكَائِنَاتِ وَأَنَّهُ لَا وُجُودَ لِغَيْرِهِ ; لَا بِمَعْنَى أَنَّ قِيَامَ الْأَشْيَاءِ بِهِ وَوُجُودَهَا بِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيَدٍ ] أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ . وَكَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ } فَإِنَّهُمْ لَوْ أَرَادُوا ذَلِكَ لَكَانَ ذَلِكَ هُوَ الشُّهُودَ الصَّحِيحَ ; لَكِنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنَّهُ هُوَ عَيْنُ الْمَوْجُودَاتِ فَهَذَا كُفْرٌ وَضَلَالٌ رُبَّمَا تَمَسَّكَ أَصْحَابُهُ بِأَلْفَاظِ مُتَشَابِهَةٍ تُوجَدُ فِي كَلَامِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ . كَمَا تَمَسَّكَ النَّصَارَى بِأَلْفَاظِ مُتَشَابِهَةٍ تُرْوَى عَنْ الْمَسِيحِ . وَيَرْجِعُونَ إلَى وَجْدٍ فَاسِدٍ أَوْ قِيَاسٍ فَاسِدٍ . فَتَدَبَّرْ هَذَا التَّقْسِيمَ فَإِنَّهُ بَيَانُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ .