سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تيمية - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { دَعْوَةُ أَخِي ذِي النُّونِ : { لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } . مَا دَعَا بِهَا مَكْرُوبٌ إلَّا فَرَّجَ اللَّهُ كُرْبَتَهُ } مَا مَعْنَى هَذِهِ الدَّعْوَةِ ؟ وَلِمَ كَانَتْ كَاشِفَةً لِلْكَرْبِ ؟ وَهَلْ لَهَا شُرُوطٌ بَاطِنَةٌ عِنْدَ النُّطْقِ بِلَفْظِهَا ؟ وَكَيْفَ مُطَابَقَةُ اعْتِقَادِ الْقَلْبِ لِمَعْنَاهَا . حَتَّى يُوجِبَ كَشْفَ ضُرِّهِ ؟ وَمَا مُنَاسَبَةُ ذِكْرِهِ : { إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } مَعَ أَنَّ التَّوْحِيدَ . يُوجِبُ كَشْفَ الضُّرِّ ؟ وَهَلْ يَكْفِيهِ اعْتِرَافُهُ . أَمْ لَا بُدَّ مِنْ التَّوْبَةِ وَالْعَزْمِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ؟ وَمَا هُوَ السِّرُّ فِي أَنَّ كَشْفَ الضُّرِّ وَزَوَالَهُ يَكُونُ عِنْدَ انْقِطَاعِ الرَّجَاءِ عَنْ الْخَلْقِ وَالتَّعَلُّقِ بِهِمْ ؟ وَمَا الْحِيلَةُ فِي انْصِرَافِ الْقَلْبِ عَنْ الرَّجَاءِ لِلْمَخْلُوقِينَ وَالتَّعَلُّقِ بِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ وَتَعَلُّقِهِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَرَجَائِهِ وَانْصِرَافِهِ إلَيْهِ بِالْكُلِّيَّةِ وَمَا السَّبَبُ الْمُعِينُ عَلَى ذَلِكَ ؟ ؟ .
فَصْل وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ : هَلْ الِاعْتِرَافُ بِالْخَطِيئَةِ بِمُجَرَّدِهِ مَعَ التَّوْحِيدِ مُوجِبٌ لِغُفْرَانِهَا وَكَشْفِ الْكُرْبَةِ الصَّادِرَةِ عَنْهَا ; أَمْ يَحْتَاجُ إلَى شَيْءٍ آخَرَ ؟ فَجَوَابُهُ : أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْغُفْرَانِ مَعَ التَّوْحِيدِ هُوَ التَّوْبَةُ الْمَأْمُورُ بِهَا ; فَإِنَّ الشِّرْكَ لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ إلَّا بِتَوْبَةِ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ الْقُرْآنِ وَمَا دُونَ الشِّرْكِ فَهُوَ مَعَ التَّوْبَةِ مَغْفُورٌ ; وَبِدُونِ التَّوْبَةِ مُعَلَّقٌ بِالْمَشِيئَةِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } فَهَذَا فِي حَقِّ التَّائِبِينَ وَلِهَذَا عَمَّمَ وَأَطْلَقَ وَحَتَّمَ أَنَّهُ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا وَقَالَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } فَخَصَّ مَا دُونَ الشِّرْكِ وَعَلَّقَهُ بِالْمَشِيئَةِ فَإِذَا كَانَ الشِّرْكُ لَا يُغْفَرُ إلَّا بِتَوْبَةِ ; وَأَمَّا مَا دُونَهُ فَيَغْفِرُهُ اللَّهُ لِلتَّائِبِ ; وَقَدْ يَغْفِرُهُ بِدُونِ التَّوْبَةِ لِمَنْ يَشَاءُ فَالِاعْتِرَافُ بِالْخَطِيئَةِ مَعَ التَّوْحِيدِ إنْ كَانَ مُتَضَمِّنًا لِلتَّوْبَةِ أَوْجَبَ الْمَغْفِرَةَ ; وَإِذَا غُفِرَ الذَّنْبُ زَالَتْ عُقُوبَتُهُ ; فَإِنَّ الْمَغْفِرَةَ هِيَ وِقَايَةُ شَرِّ الذَّنْبِ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : الْغَفْرُ السَّتْرُ وَيَقُولُ : إنَّمَا سُمِّيَ الْمَغْفِرَةَ وَالْغَفَّارَ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى السَّتْرِ وَتَفْسِيرُ اسْمِ اللَّهِ الْغَفَّارِ بِأَنَّهُ السَّتَّارُ وَهَذَا تَقْصِيرٌ فِي مَعْنَى الْغَفْرِ ; فَإِنَّ الْمَغْفِرَةَ مَعْنَاهَا وِقَايَةُ شَرِّ الذَّنْبِ بِحَيْثُ لَا يُعَاقَبُ عَلَى الذَّنْبِ فَمَنْ غُفِرَ ذَنْبُهُ لَمْ يُعَاقَبْ عَلَيْهِ . وَأَمَّا مُجَرَّدُ سَتْرِهِ فَقَدْ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ وَمَنْ عُوقِبَ عَلَى الذَّنْبِ بَاطِنًا أَوْ ظَاهِرًا فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ وَإِنَّمَا يَكُونُ غُفْرَانُ الذَّنْبِ إذَا لَمْ يُعَاقَبْ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ الْمُسْتَحَقَّةَ بِالذَّنْبِ . وَأَمَّا إذَا اُبْتُلِيَ مَعَ ذَلِكَ بِمَا يَكُونُ سَبَبًا فِي حَقِّهِ لِزِيَادَةِ أَجْرِهِ فَهَذَا لَا يُنَافِي الْمَغْفِرَةَ . وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مِنْ تَمَامِ التَّوْبَةِ أَنْ يَأْتِيَ بِحَسَنَاتِ يَفْعَلُهَا فَإِنَّ مَا يُشْتَرَطُ فِي التَّوْبَةِ مِنْ تَمَامِ التَّوْبَةِ ; وَقَدْ يَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّهُ تَائِبٌ وَلَا يَكُونُ تَائِبًا بَلْ يَكُونُ تَارِكًا وَالتَّارِكُ غَيْرُ التَّائِبِ فَإِنَّهُ قَدْ يُعْرِضُ عَنْ الذَّنْبِ لِعَدَمِ خُطُورِهِ بِبَالِهِ أَوْ الْمُقْتَضِي لِعَجْزِهِ عَنْهُ أَوْ تَنْتَفِي إرَادَتُهُ لَهُ بِسَبَبِ غَيْرِ دِينِيٍّ وَهَذَا لَيْسَ بِتَوْبَةِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ سَيِّئَةٌ وَيَكْرَهَ فِعْلَهُ لِنَهْيِ اللَّهِ عَنْهُ وَيَدَعَهُ لِلَّهِ تَعَالَى ; لَا لِرَغْبَةِ مَخْلُوقٍ وَلَا لِرَهْبَةِ مَخْلُوقٍ ; فَإِنَّ التَّوْبَةَ مِنْ أَعْظَمِ الْحَسَنَاتِ ; وَالْحَسَنَاتُ كُلُّهَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ وَمُوَافَقَةُ أَمْرِهِ كَمَا قَالَ الفضيل بْنُ عِيَاضٍ فِي قَوْلِهِ : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } قَالَ أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ قَالُوا : يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ ؟ قَالَ : إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ ; حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا . وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ . وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِك خَالِصًا وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدِ فِيهِ شَيْئًا . وَبَسْطُ الْكَلَامِ فِي التَّوْبَةِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَأَمَّا الِاعْتِرَافُ بِالذَّنْبِ عَلَى وَجْهِ الْخُضُوعِ لِلَّهِ مِنْ غَيْرِ إقْلَاعٍ عَنْهُ فَهَذَا فِي نَفْسِ الِاسْتِغْفَارِ الْمُجَرَّدِ الَّذِي لَا تَوْبَةَ مَعَهُ وَهُوَ كَاَلَّذِي يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَغْفِرَ لَهُ الذَّنْبَ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ وَهَذَا يَأْسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَلَا يُقْطَعُ بِالْمَغْفِرَةِ لَهُ فَإِنَّهُ دَاعٍ دَعْوَةً مُجَرَّدَةً . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو بِدَعْوَةِ لَيْسَ فِيهَا إثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إلَّا كَانَ بَيْنَ إحْدَى ثَلَاثٍ : إمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَ لَهُ مِنْ الْجَزَاءِ مِثْلَهَا ; وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ الشَّرِّ مِثْلَهَا . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ : إذًا نُكْثِرُ قَالَ : اللَّهُ أَكْثَرُ } فَمِثْلُ هَذَا الدُّعَاءِ قَدْ تَحْصُلُ مَعَهُ الْمَغْفِرَةُ وَإِذَا لَمْ تَحْصُلْ فَلَا بُدَّ أَنْ يَحْصُلَ مَعَهُ صَرْفُ شَرٍّ آخَرَ أَوْ حُصُولُ خَيْرٍ آخَرَ فَهُوَ نَافِعٌ كَمَا يَنْفَعُ كُلُّ دُعَاءٍ . وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاءِ : الِاسْتِغْفَارُ مَعَ الْإِصْرَارِ تَوْبَةُ الْكَذَّابِينَ فَهَذَا إذَا كَانَ الْمُسْتَغْفِرُ يَقُولُهُ عَلَى وَجْهِ التَّوْبَةِ أَوْ يَدَّعِي أَنَّ اسْتِغْفَارَهُ تَوْبَةٌ وَأَنَّهُ تَائِبٌ بِهَذَا الِاسْتِغْفَارِ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مَعَ الْإِصْرَارِ لَا يَكُونُ تَائِبًا فَإِنَّ التَّوْبَةَ وَالْإِصْرَارَ ضِدَّانِ : الْإِصْرَارُ يُضَادُّ التَّوْبَةَ لَكِنْ لَا يُضَادُّ الِاسْتِغْفَارَ بِدُونِ التَّوْبَةِ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : هَلْ الِاعْتِرَافُ بِالذَّنْبِ الْمُعَيَّنِ يُوجِبُ دَفْعَ مَا حَصَلَ بِذُنُوبِ مُتَعَدِّدَةٍ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ اسْتِحْضَارِ جَمِيعِ الذُّنُوبِ ؟ فَجَوَابُ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أُصُولٍ : ( أَحَدُهَا ) أَنَّ التَّوْبَةَ تَصِحُّ مِنْ ذَنْبٍ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى ذَنْبٍ آخَرَ إذَا كَانَ الْمُقْتَضِي لِلتَّوْبَةِ مِنْ أَحَدِهِمَا أَقْوَى مِنْ الْمُقْتَضِي لِلتَّوْبَةِ مِنْ الْآخَرِ أَوْ كَانَ الْمَانِعُ مِنْ أَحَدِهِمَا أَشَدَّ وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ . وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ كَأَبِي هَاشِمٍ إلَى أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَصِحُّ مِنْ قَبِيحٍ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى الْآخَرِ قَالُوا : لِأَنَّ الْبَاعِثَ عَلَى التَّوْبَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ تَوْبَةً صَحِيحَةً وَالْخَشْيَةُ مَانِعَةٌ مِنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ لَا مِنْ بَعْضِهَا وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَابْنُ عَقِيلٍ هَذَا رِوَايَةً عَنْ أَحْمَد لِأَنَّ المروذي نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ تَابَ مِنْ الْفَاحِشَةِ وَقَالَ : لَوْ مَرِضْت لَمْ أَعُدْ لَكِنْ لَا يَدَعُ النَّظَرَ فَقَالَ أَحْمَد : أَيُّ تَوْبَةٍ هَذِهِ قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ { سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَظْرَةِ الْفَجْأَةِ فَقَالَ : اصْرِفْ بَصَرَك } وَالْمَعْرُوفُ عَنْ أَحْمَد وَسَائِرِ الْأَئِمَّةِ هُوَ الْقَوْلُ بِصِحَّةِ التَّوْبَةِ وَأَحْمَد فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا أَرَادَ أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ تَوْبَةً عَامَّةً يَحْصُلُ بِسَبَبِهَا مِنْ التَّائِبِينَ تَوْبَةٌ مُطْلَقًا لَمْ يُرِدْ أَنَّ ذَنْبَ هَذَا كَذَنْبِ الْمُصِرِّ عَلَى الْكَبَائِرِ فَإِنَّ نُصُوصَهُ الْمُتَوَاتِرَةَ عَنْهُ وَأَقْوَالَهُ الثَّابِتَةَ تُنَافِي ذَلِكَ وَحَمْلُ كَلَامِ الْإِمَامِ عَلَى مَا يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى التَّنَاقُضِ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْقَوْلُ الْآخَرُ مُبْتَدَعًا لَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَأَحْمَد يَقُولُ : إيَّاكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ فِي مَسْأَلَةٍ لَيْسَ لَك فِيهَا إمَامٌ وَكَانَ فِي الْمِحْنَةِ يَقُولُ : كَيْفَ أَقُولُ مَا لَمْ يُقَلْ ؟ وَاتِّبَاعُ أَحْمَد لِلسُّنَّةِ وَالْآثَارِ وَقُوَّةُ رَغْبَتِهِ فِي ذَلِكَ وَكَرَاهَتُهُ لِخِلَافِهِ مِنْ الْأُمُورِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْهُ يَعْرِفُهَا مَنْ يَعْرِفُ حَالَهُ مِنْ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ . وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ الْخَشْيَةَ تُوجِبُ الْعُمُومَ . فَجَوَابُهُ أَنَّهُ قَدْ يَعْلَمُ قُبْحَ أَحَدِ الذَّنْبَيْنِ دُونَ الْآخَرِ وَإِنَّمَا يَتُوبُ مِمَّا يَعْلَمُ قُبْحَهُ . و ( أَيْضًا ) فَقَدْ يَعْلَمُ قُبْحَهَا وَلَكِنَّ هَوَاهُ يَغْلِبُهُ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَيَتُوبُ مِنْ هَذَا دُونَ ذَاكَ كَمَنْ أَدَّى بَعْضَ الْوَاجِبَاتِ دُونَ بَعْضٍ ; فَإِنَّ ذَلِكَ يُقْبَلُ مِنْهُ . وَلَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ لَهُمْ أَصْلٌ فَاسِدٌ وَافَقُوا فِيهِ الْخَوَارِجَ فِي الْحُكْمِ وَإِنْ خَالَفُوهُمْ فِي الِاسْمِ فَقَالُوا : إنَّ أَصْحَابَ الْكَبَائِرِ يُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ وَلَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا بِشَفَاعَةِ وَلَا غَيْرِهَا وَعِنْدَهُمْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ مِمَّنْ يُعَاقِبُهُ اللَّهُ ثُمَّ يُثِيبُهُ ; وَلِهَذَا يَقُولُونَ : بِحُبُوطِ جَمِيعِ الْحَسَنَاتِ بِالْكَبِيرَةِ . وَأَمَّا الصَّحَابَةُ وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَعَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ يَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ وَيُشْفَعُ فِيهِمْ وَأَنَّ الْكَبِيرَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تُحْبِطُ جَمِيعَ الْحَسَنَاتِ ; وَلَكِنْ قَدْ يُحْبَطُ مَا يُقَابِلُهَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَلَا يُحْبِطُ جَمِيعَ الْحَسَنَاتِ إلَّا الْكُفْرُ كَمَا لَا يُحْبِطُ جَمِيعَ السَّيِّئَاتِ إلَّا التَّوْبَةُ فَصَاحِبُ الْكَبِيرَةِ إذَا أَتَى بِحَسَنَاتِ يَبْتَغِي بِهَا رِضَا اللَّهِ أَثَابَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْعُقُوبَةِ عَلَى كَبِيرَتِهِ . وَكِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يُفَرِّقُ بَيْنَ حُكْمِ السَّارِقِ وَالزَّانِي وَقِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَبَيْنَ حُكْمِ الْكُفَّارِ فِي " الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ " . وَالسُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَعَلَى هَذَا تَنَازَعَ النَّاسُ فِي قَوْلِهِ : { إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } فَعَلَى قَوْلِ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ لَا تُقْبَلُ حَسَنَةٌ إلَّا مِمَّنْ اتَّقَاهُ مُطْلَقًا فَلَمْ يَأْتِ كَبِيرَةً وَعِنْدَ الْمُرْجِئَةِ إنَّمَا يَتَقَبَّلُ مِمَّنْ اتَّقَى الشِّرْكَ فَجَعَلُوا أَهْلَ الْكَبَائِرِ دَاخِلِينَ فِي اسْمِ " الْمُتَّقِينَ " وَعِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يُتَقَبَّلُ الْعَمَلُ مِمَّنْ اتَّقَى اللَّهَ فِيهِ فَعَمِلَهُ خَالِصًا لِلَّهِ مُوَافِقًا لِأَمْرِ اللَّهِ فَمَنْ اتَّقَاهُ فِي عَمَلٍ تَقَبَّلَهُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا فِي غَيْرِهِ . وَمَنْ لَمْ يَتَّقِهِ فِيهِ لَمْ يَتَقَبَّلْهُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ مُطِيعًا فِي غَيْرِهِ . وَالتَّوْبَةُ مِنْ بَعْضِ الذُّنُوبِ دُونَ بَعْضٍ كَفِعْلِ بَعْضِ الْحَسَنَاتِ الْمَأْمُورِ بِهَا دُونَ بَعْضٍ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَتْرُوكُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْمَفْعُولِ كَالْإِيمَانِ الْمَشْرُوطِ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَعْمَالِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ } وَقَالَ : { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } . ( الْأَصْلُ الثَّانِي ) أَنَّ مَنْ لَهُ ذُنُوبٌ فَتَابَ مِنْ بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ فَإِنَّ التَّوْبَةَ إنَّمَا تَقْتَضِي مَغْفِرَةَ مَا تَابَ مِنْهُ أَمَّا مَا لَمْ يَتُبْ مِنْهُ فَهُوَ بَاقٍ فِيهِ عَلَى حُكْمِ مَنْ لَمْ يَتُبْ لَا عَلَى حُكْمِ مَنْ تَابَ وَمَا عَلِمْت فِي هَذَا نِزَاعًا إلَّا فِي الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ فَإِنَّ إسْلَامَهُ يَتَضَمَّنُ التَّوْبَةَ مِنْ الْكُفْرِ فَيُغْفَرُ لَهُ بِالْإِسْلَامِ الْكُفْرُ الَّذِي تَابَ مِنْهُ وَهَلْ تُغْفَرُ لَهُ الذُّنُوبُ الَّتِي فَعَلَهَا فِي حَالِ الْكُفْرِ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا فِي الْإِسْلَامِ ؟ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ : ( أَحَدُهُمَا ) يُغْفَرُ لَهُ الْجَمِيعُ لِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ . مَعَ قَوْله تَعَالَى { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } . ( وَالْقَوْلُ الثَّانِي ) أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ بِالْإِسْلَامِ إلَّا مَا تَابَ مِنْهُ ; فَإِذَا أَسْلَمَ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى كَبَائِرَ دُونَ الْكُفْرِ فَحُكْمُهُ فِي ذَلِكَ حُكْمُ أَمْثَالِهِ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأُصُولُ وَالنُّصُوصُ ; فَإِنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ لَهُ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ؟ فَقَالَ : مَنْ أَحْسَنَ مِنْكُمْ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمَنْ أَسَاءَ فِي الْإِسْلَامِ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ } فَقَدْ دَلَّ هَذَا النَّصُّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا تُرْفَعُ الْمُؤَاخَذَةُ بِالْأَعْمَالِ الَّتِي فُعِلَتْ فِي حَالِ الْجَاهِلِيَّةِ عَمَّنْ أَحْسَنَ لَا عَمَّنْ لَا يُحْسِنُ ; وَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا فَلَمْ يُحْسِنْ . وقَوْله تَعَالَى { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُنْتَهِيَ عَنْ شَيْءٍ يُغْفَرُ لَهُ مَا قَدْ سَلَفَ مِنْهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُنْتَهِيَ عَنْ شَيْءٍ يُغْفَرُ لَهُ مَا سَلَفَ مِنْ غَيْرِهِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ لِغَيْرِهِ : إنْ انْتَهَيْتَ غَفَرْت لَك مَا تَقَدَّمَ وَنَحْوَ ذَلِكَ يُفْهَمُ مِنْهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ أَنَّك إنْ انْتَهَيْت عَنْ هَذَا الْأَمْرِ غُفِرَ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْهُ وَإِذَا انْتَهَيْت عَنْ شَيْءٍ غُفِرَ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْهُ كَمَا يُفْهَمُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : { إنْ تُبْت } لَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّك بِالِانْتِهَاءِ عَنْ ذَنْبٍ يُغْفَرُ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ غَيْرِهِ . وَأَمَّا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ } وَفِي رِوَايَةٍ { يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ } فَهَذَا قَالَهُ لَمَّا أَسْلَمَ عَمْرُو بْنُ العاص وَطَلَبَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ فَقَالَ لَهُ : { يَا عَمْرُو أَمَا عَلِمْت أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ وَأَنَّ التَّوْبَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا } وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّوْبَةَ إنَّمَا تُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا تَابَ مِنْهُ لَا تُوجِبُ التَّوْبَةُ غُفْرَانَ جَمِيعِ الذُّنُوبِ . ( الْأَصْلُ الثَّالِثُ ) أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَسْتَحْضِرُ ذُنُوبًا فَيَتُوبُ مِنْهَا وَقَدْ يَتُوبُ تَوْبَةً مُطْلَقَةً لَا يَسْتَحْضِرُ مَعَهَا ذُنُوبَهُ لَكِنْ إذَا كَانَتْ نِيَّتُهُ التَّوْبَةَ الْعَامَّةَ فَهِيَ تَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يَرَاهُ ذَنْبًا ; لِأَنَّ التَّوْبَةَ الْعَامَّةَ تَتَضَمَّنُ عَزْمًا عَامًّا بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ وَكَذَلِكَ تَتَضَمَّنُ نَدَمًا عَامًّا عَلَى كُلِّ مَحْظُورٍ . وَ " النَّدَمُ " سَوَاءٌ قِيلَ : إنَّهُ مِنْ بَابِ الِاعْتِقَادَاتِ أَوْ مِنْ بَابِ الْإِرَادَاتِ أَوْ قِيلَ : إنَّهُ مِنْ بَابِ الْآلَامِ الَّتِي تَلْحَقُ النَّفْسَ بِسَبَبِ فِعْلِ مَا يَضُرُّهَا ; فَإِذَا اسْتَشْعَرَ الْقَلْبُ أَنَّهُ فَعَلَ مَا يَضُرُّهُ حَصَلَ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِأَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ كَانَ مِنْ السَّيِّئَاتِ وَهَذَا مِنْ بَابِ الِاعْتِقَادَاتِ وَكَرَاهِيَةٌ لِمَا كَانَ فَعَلَهُ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْإِرَادَاتِ ; وَحَصَلَ لَهُ أَذًى وَغَمٌّ لِمَا كَانَ فَعَلَهُ ; وَهَذَا مِنْ بَابِ الْآلَامِ كَالْغُمُومِ وَالْأَحْزَانِ كَمَا أَنَّ الْفَرَحَ وَالسُّرُورَ هُوَ مِنْ بَابِ اللَّذَّاتِ لَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْإِرَادَاتِ . وَمَنْ قَالَ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ : إنَّ اللَّذَّةَ هِيَ إدْرَاكُ الْمُلَائِمِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُلَائِمٌ وَأَنَّ الْأَلَمَ هُوَ إدْرَاكُ الْمُنَافِرِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُنَافِرٌ فَقَدْ غَلِطَ فِي ذَلِكَ ; فَإِنَّ اللَّذَّةَ وَالْأَلَمَ حَالَانِ يَتَعَقَّبَانِ إدْرَاكَ الْمُلَائِمِ وَالْمُنَافِرِ فَإِنَّ الْحُبَّ لِمَا يُلَائِمُهُ كَالطَّعَامِ الْمُشْتَهَى مَثَلًا لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : ( أَحَدُهَا ) الْحُبُّ كَالشَّهْوَةِ لِلطَّعَامِ . و ( الثَّانِي ) إدْرَاكُ الْمَحْبُوبِ كَأَكْلِ الطَّعَامِ . و ( الثَّالِثُ ) : اللَّذَّةُ الْحَاصِلَةُ بِذَلِكَ وَاللَّذَّةُ أَمْرٌ مُغَايِرٌ لِلشَّهْوَةِ وَلِذَوْقِ الْمُشْتَهِي ; بَلْ هِيَ حَاصِلَةٌ لِذَوْقِ الْمُشْتَهِي ; لَيْسَتْ نَفْسَ ذَوْقِ الْمُشْتَهِي . وَكَذَلِكَ " الْمَكْرُوهُ " كَالضَّرْبِ مَثَلًا . فَإِنَّ كَرَاهَتَهُ شَيْءٌ وَحُصُولَهُ شَيْءٌ آخَرُ وَالْأَلَمُ الْحَاصِلُ بِهِ ثَالِثٌ . وَكَذَلِكَ مَا لِلْعَارِفِينَ أَهْلِ مَحَبَّةِ اللَّهِ مِنْ النَّعِيمِ وَالسُّرُورِ بِذَلِكَ ; فَإِنَّ حُبَّهُمْ لِلَّهِ شَيْءٌ ثُمَّ مَا يَحْصُلُ مِنْ ذِكْرِ الْمَحْبُوبِ شَيْءٌ ثُمَّ اللَّذَّةُ الْحَاصِلَةُ بِذَلِكَ أَمْرٌ ثَالِثٌ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْحُبَّ مَشْرُوطٌ بِشُعُورِ الْمَحْبُوبِ كَمَا أَنَّ الشَّهْوَةَ مَشْرُوطَةٌ بِشُعُورِ الْمُشْتَهِي ; لَكِنَّ الشُّعُورَ الْمَشْرُوطَ فِي اللَّذَّةِ غَيْرُ الشُّعُورِ الْمَشْرُوطِ فِي الْمَحَبَّةِ فَهَذَا الثَّانِي يُسَمَّى إدْرَاكًا وَذَوْقًا وَنَيْلًا وَوَجْدًا وَوِصَالًا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ إدْرَاكِ الْمَحْبُوبِ سَوَاءٌ كَانَ بِالْبَاطِنِ أَوْ الظَّاهِرِ ثُمَّ هَذَا الذَّوْقُ يَسْتَلْزِمُ اللَّذَّةَ وَاللَّذَّةُ أَمْرٌ يُحِسُّهُ الْحَيُّ بَاطِنًا وَظَاهِرًا . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ : مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ سِوَاهُمَا وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ } فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ ذَوْقَ طَعْمِ الْإِيمَانِ لِمَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ نَبِيًّا وَأَنَّ وَجْدَ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ حَاصِلٌ لِمَنْ كَانَ حُبُّهُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ أَشَدَّ مِنْ حُبِّهِ لِغَيْرِهِمَا وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ شَخْصًا لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ ضِدَّ الْإِيمَانِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ ; فَهَذَا الْحُبُّ لِلْإِيمَانِ وَالْكَرَاهِيَةُ لِلْكُفْرِ اسْتَلْزَمَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ كَمَا اسْتَلْزَمَ الرِّضَى الْمُتَقَدِّمَ ذَوْقَ طَعْمِ الْإِيمَانِ وَهَذَا هُوَ اللَّذَّةُ ; وَلَيْسَ هُوَ نَفْسَ التَّصْدِيقِ وَالْمَعْرِفَةِ الْحَاصِلَةِ فِي الْقَلْبِ وَلَا نَفْسَ الْحُبِّ الْحَاصِلِ فِي الْقَلْبِ ; بَلْ هَذَا نَتِيجَةُ ذَاكَ وَثَمَرَتُهُ وَلَازِمٌ لَهُ وَهِيَ أُمُورٌ مُتَلَازِمَةٌ فَلَا تُوجَدُ اللَّذَّةُ إلَّا بِحُبِّ وَذَوْقٍ وَإِلَّا فَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا وَلَمْ يَذُقْ مِنْهُ شَيْئًا لَمْ يَجِدْ لَذَّةً كَاَلَّذِي يَشْتَهِي الطَّعَامَ وَلَمْ يَذُقْ مِنْهُ شَيْئًا وَلَوْ ذَاقَ مَا لَا يُحِبُّهُ لَمْ يَجِدْ لَذَّةً كَمَنْ ذَاقَ مَا لَا يُرِيدُهُ فَإِذَا اجْتَمَعَ حُبُّ الشَّيْءِ وَذَوْقُهُ حَصَلَتْ اللَّذَّةُ بَعْدَ ذَلِكَ . وَإِنْ حَصَلَ بُغْضُهُ وَذَوْقُ الْبَغِيضِ حَصَلَ الْأَلَمُ فَاَلَّذِي يُبْغِضُ الذَّنْبَ وَلَا يَفْعَلُهُ لَا يَنْدَمُ وَاَلَّذِي لَا يُبْغِضُهُ لَا يَنْدَمُ عَلَى فِعْلِهِ فَإِذَا فَعَلَهُ وَعَرَفَ أَنَّ هَذَا مِمَّا يُبْغِضُهُ وَيَضُرُّهُ نَدِمَ عَلَى فِعْلِهِ إيَّاهُ . وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { النَّدَمُ تَوْبَةٌ } . إذَا تَبَيَّنَ هَذَا . فَمَنْ تَابَ تَوْبَةً عَامَّةً كَانَتْ هَذِهِ التَّوْبَةُ مُقْتَضِيَةً لِغُفْرَانِ الذُّنُوبِ كُلِّهَا وَإِنْ لَمْ يَسْتَحْضِرْ أَعْيَانَ الذُّنُوبِ إلَّا أَنْ يُعَارِضَ هَذَا الْعَامَّ مُعَارِضٌ يُوجِبُ التَّخْصِيصَ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الذُّنُوبِ لَوْ اسْتَحْضَرَهُ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ ; لِقُوَّةِ إرَادَتِهِ إيَّاهُ أَوْ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ حَسَنٌ لَيْسَ بِقَبِيحِ فَمَا كَانَ لَوْ اسْتَحْضَرَهُ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي التَّوْبَةِ وَأَمَّا مَا كَانَ لَوْ حَضَرَ بِعَيْنِهِ لَكَانَ مِمَّا يَتُوبُ مِنْهُ فَإِنَّ التَّوْبَةَ الْعَامَّةَ شَامِلَتُهُ . وَأَمَّا " التَّوْبَةُ الْمُطْلَقَةُ " : وَهِيَ أَنْ يَتُوبَ تَوْبَةً مُجْمَلَةً وَلَا تُسْتَلْزَمُ التَّوْبَةُ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَهَذِهِ لَا تُوجِبُ دُخُولَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الذُّنُوبِ فِيهَا وَلَا تَمْنَعُ دُخُولَهُ كَاللَّفْظِ الْمُطْلَقِ ; لَكِنَّ هَذِهِ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لِغُفْرَانِ الْمُعَيَّنِ . كَمَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لِغُفْرَانِ الْجَمِيعِ ; بِخِلَافِ الْعَامَّةِ فَإِنَّهَا مُقْتَضِيَةٌ لِلْغُفْرَانِ الْعَامِّ كَمَا تَنَاوَلَتْ الذُّنُوبَ تَنَاوُلًا عَامًّا . وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَا يَسْتَحْضِرُ عِنْدَ التَّوْبَةِ إلَّا بَعْضَ الْمُتَّصِفَاتِ بِالْفَاحِشَةِ أَوْ مُقَدِّمَاتِهَا أَوْ بَعْضَ الظُّلْمِ بِاللِّسَانِ أَوْ الْيَدِ وَقَدْ يَكُونُ مَا تَرَكَهُ مِنْ الْمَأْمُورِ الَّذِي يَجِبُ لِلَّهِ عَلَيْهِ فِي بَاطِنِهِ وَظَاهِرِهِ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ وَحَقَائِقِهِ أَعْظَمَ ضَرَرًا عَلَيْهِ مِمَّا فَعَلَهُ مِنْ بَعْضِ الْفَوَاحِشِ فَإِنَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ الَّتِي بِهَا يَصِيرُ الْعَبْدُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا أَعْظَمَ نَفْعًا مِنْ نَفْعِ تَرْكِ بَعْضِ الذُّنُوبِ الظَّاهِرَةِ كَحُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ; فَإِنَّ هَذَا أَعْظَمُ الْحَسَنَاتِ الْفِعْلِيَّةِ حَتَّى ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّهُ كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ يُدْعَى حِمَارًا وَكَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ وَكَانَ كُلَّمَا أُتِيَ بِهِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَدَهُ الْحَدَّ فَلَمَّا كَثُرَ ذَلِكَ مِنْهُ أُتِيَ بِهِ مَرَّةً فَأَمَرَ بِجَلْدِهِ فَلَعَنَهُ رَجُلٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَلْعَنْهُ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } . فَنَهَى عَنْ لَعْنِهِ مَعَ إصْرَارِهِ عَلَى الشُّرْبِ لِكَوْنِهِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ فِي الْخَمْرِ عَشَرَةً : { لَعَنَ الْخَمْرَ وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا } . وَلَكِنَّ لَعْنَ الْمُطْلَقِ لَا يَسْتَلْزِمُ لَعْنَ الْمُعَيَّنِ الَّذِي قَامَ بِهِ مَا يَمْنَعُ لُحُوقَ اللَّعْنَةِ لَهُ . وَكَذَلِكَ " التَّكْفِيرُ الْمُطْلَقُ " و " الْوَعِيدُ الْمُطْلَقُ " . وَلِهَذَا كَانَ الْوَعِيدُ الْمُطْلَقُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَشْرُوطًا بِثُبُوتِ شُرُوطٍ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعَ فَلَا يَلْحَقُ التَّائِبَ مِنْ الذَّنْبِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَلْحَقُ مَنْ لَهُ حَسَنَاتٌ تَمْحُو سَيِّئَاتِهِ وَلَا يَلْحَقُ الْمَشْفُوعَ لَهُ وَالْمَغْفُورَ لَهُ ; فَإِنَّ الذُّنُوبَ تَزُولُ عُقُوبَتُهَا الَّتِي هِيَ جَهَنَّمُ بِأَسْبَابِ التَّوْبَةِ وَالْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ وَالْمَصَائِبِ الْمُكَفِّرَةِ - لَكِنَّهَا مِنْ عُقُوبَاتِ الدُّنْيَا - وَكَذَلِكَ مَا يَحْصُلُ فِي الْبَرْزَخِ مِنْ الشِّدَّةِ وَكَذَلِكَ مَا يَحْصُلُ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ وَتَزُولُ أَيْضًا بِدُعَاءِ الْمُؤْمِنِينَ : كَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَشَفَاعَةِ الشَّفِيعِ الْمُطَاعِ كَمَنْ يَشْفَعُ فِيهِ سَيِّدُ الشُّفَعَاءِ { مُحَمَّدٌ } صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا . وَحِينَئِذٍ فَأَيُّ ذَنْبٍ تَابَ مِنْهُ ارْتَفَعَ مُوجِبُهُ وَمَا لَمْ يَتُبْ مِنْهُ فَلَهُ حُكْمُ الذُّنُوبِ الَّتِي لَمْ يَتُبْ مِنْهَا فَالشِّدَّةُ إذَا حَصَلَتْ بِذُنُوبِ وَتَابَ مِنْ بَعْضِهَا خُفِّفَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا تَابَ مِنْهُ بِخِلَافِ مَا لَمْ يَتُبْ مِنْهُ ; بِخِلَافِ صَاحِبِ التَّوْبَةِ الْعَامَّةِ . وَالنَّاسُ فِي غَالِب أَحْوَالِهِمْ لَا يَتُوبُونَ تَوْبَةً عَامَّةً مَعَ حَاجَتِهِمْ إلَى ذَلِكَ فَإِنَّ التَّوْبَةَ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ فِي كُلِّ حَالٍ ; لِأَنَّهُ دَائِمًا يَظْهَرُ لَهُ مَا فَرَّطَ فِيهِ مِنْ تَرْكِ مَأْمُورٍ أَوْ مَا اعْتَدَى فِيهِ مِنْ فِعْلِ مَحْظُورٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ دَائِمًا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .