تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : الْعَالِمُ الرَّبَّانِيُّ " تَقِيُّ الدِّينِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ تيمية رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى . مَا قَوْلُ السَّادَةِ الْعُلَمَاءِ أَئِمَّةِ الدِّينِ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ " كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وَقَوْلِهِ : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } وَقَوْلِهِ : { ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَ " أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ " كَقَوْلِهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ } وَقَوْلِهِ : { يَضَعُ الْجَبَّارُ قَدَمَهُ فِي النَّارِ } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَمَا قَالَتْ الْعُلَمَاءُ فِيهِ وَابْسُطُوا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ مَأْجُورِينَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
123456789101112131415161718192021222324252627
وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو الْمَعَالِي الجويني فِي كِتَابِهِ " الرِّسَالَةِ النِّظَامِيَّةِ " اخْتَلَفَ مَسَالِكُ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الظَّوَاهِرِ ; فَرَأَى بَعْضُهُمْ تَأْوِيلَهَا وَالْتَزَمَ ذَلِكَ فِي آي الْكِتَابِ وَمَا يَصِحُّ مِنْ السُّنَنِ وَذَهَبَ أَئِمَّةُ السَّلَفِ إلَى الِانْكِفَافِ عَنْ التَّأْوِيلِ وَإِجْرَاءِ الظَّوَاهِرِ عَلَى مَوَارِدِهَا وَتَفْوِيضِ مَعَانِيهَا إلَى الرَّبِّ . فَقَالَ : وَاَلَّذِي نَرْتَضِيهِ رَأْيًا وَنَدِينُ اللَّهَ بِهِ عَقِيدَةً : اتِّبَاعُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَالدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ الْقَاطِعُ فِي ذَلِكَ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ وَهُوَ حُجَّةٌ مُتَّبَعَةٌ وَهُوَ مُسْتَنَدُ مُعْظَمِ الشَّرِيعَةِ . وَقَدْ دَرَجَ صَحْبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَرْكِ التَّعَرُّضِ لِمَعَانِيهَا وَدَرْكِ مَا فِيهَا - وَهُمْ صَفْوَةُ الْإِسْلَامِ والمستقلون بِأَعْبَاءِ الشَّرِيعَةِ وَكَانُوا لَا يَأْلُونَ جَهْدًا فِي ضَبْطِ قَوَاعِدِ الْمِلَّةِ وَالتَّوَاصِي بِحِفْظِهَا وَتَعْلِيمِ النَّاسِ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْهَا - فَلَوْ كَانَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الظَّوَاهِرِ مُسَوَّغًا أَوْ مَحْتُومًا : لَأَوْشَكَ أَنْ يَكُونَ اهْتِمَامُهُمْ بِهَا فَوْقَ اهْتِمَامِهِمْ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ وَإِذَا انْصَرَمَ عَصْرُهُمْ وَعَصْرُ التَّابِعِينَ عَلَى الْإِضْرَابِ عَنْ التَّأْوِيلِ : كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْوَجْهُ الْمُتَّبَعُ فَحَقٌّ عَلَى ذِي الدِّينِ أَنْ يَعْتَقِدَ تَنَزُّهَ الْبَارِي عَنْ صِفَاتِ الْمُحَدِّثِينَ وَلَا يَخُوضُ فِي تَأْوِيلِ الْمُشْكِلَاتِ وَيَكِلُ مَعْنَاهَا إلَى الرَّبِّ تَعَالَى ; فَلْيُجْرِ آيَةَ الِاسْتِوَاءِ وَالْمَجِيءِ . وَقَوْلُهُ { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } وَقَوْله : { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } وَمَا صَحَّ مِنْ أَخْبَارِ الرَّسُولِ كَخَبَرِ النُّزُولِ وَغَيْرِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ . قُلْت : وَلْيَعْلَمْ السَّائِلُ أَنَّ الْغَرَضَ " مِنْ هَذَا الْجَوَابِ " ذِكْرُ أَلْفَاظِ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ نَقَلُوا مَذْهَبَ السَّلَفِ فِي هَذَا الْبَابِ ; وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ ذَكَرْنَا شَيْئًا مِنْ قَوْلِهِ - مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَغَيْرِهِمْ - يَقُولُ بِجَمِيعِ مَا نَقُولُهُ فِي هَذَا الْبَابِ وَغَيْرِهِ ; وَلَكِنَّ الْحَقَّ يُقْبَلُ مِنْ كُلِّ مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ ; وَكَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَقُولُ فِي كَلَامِهِ . الْمَشْهُورِ عَنْهُ ; الَّذِي رَوَاهُ أَبُو داود فِي سُنَنِهِ : اقْبَلُوا الْحَقَّ مِنْ كُلِّ مَنْ جَاءَ بِهِ ; وَإِنْ كَانَ كَافِرًا - أَوْ قَالَ فَاجِرًا - وَاحْذَرُوا زيغة الْحَكِيمِ . قَالُوا : كَيْفَ نَعْلَمُ أَنَّ الْكَافِرَ يَقُولُ كَلِمَةَ الْحَقِّ ؟ قَالَ : إنَّ عَلَى الْحَقِّ نُورًا أَوْ قَالَ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ . فَأَمَّا تَقْرِيرُ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ وَإِمَاطَةُ مَا يَعْرِضُ مِنْ الشُّبَهِ وَتَحْقِيقُ الْأَمْرِ عَلَى وَجْهٍ يَخْلُصُ إلَى الْقَلْبِ مَا يَبْرُدُ بِهِ مِنْ الْيَقِينِ وَيَقِفُ عَلَى مَوَاقِفِ آرَاءِ الْعِبَادِ فِي هَذِهِ الْمَهَامِهِ فَمَا تَتَّسِعُ لَهُ هَذِهِ الْفَتْوَى وَقَدْ كَتَبْت شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ هَذَا وَخَاطَبْت بِبَعْضِ ذَلِكَ بَعْضَ مَنْ يُجَالِسُنَا وَرُبَّمَا أَكْتُبُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - فِي ذَلِكَ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ . وَجِمَاعُ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ : أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ يَحْصُلُ مِنْهُمَا كَمَالُ الْهُدَى وَالنُّورِ لِمَنْ تَدَبَّرَ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ وَقَصَدَ اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَأَعْرَضَ عَنْ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَالْإِلْحَادِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ . وَلَا يَحْسَبُ الْحَاسِبُ أَنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ يُنَاقِضُ بَعْضَهُ بَعْضًا أَلْبَتَّةَ ; مِثْلُ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ : مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ يُخَالِفُهُ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ : { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذْ قَامَ أَحَدُكُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ } وَنَحْوُ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا غَلَطٌ . وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ مَعَنَا حَقِيقَةً وَهُوَ فَوْقَ الْعَرْشِ حَقِيقَةً كَمَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } . فَأَخْبَرَ أَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ مَعَنَا أَيْنَمَا كُنَّا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْأَوْعَالِ : { وَاَللَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ } . وَذَلِكَ أَنَّ كَلِمَةَ ( مَعَ فِي اللُّغَةِ إذَا أُطْلِقَتْ فَلَيْسَ ظَاهِرُهَا فِي اللُّغَةِ إلَّا الْمُقَارَنَةَ الْمُطْلَقَةَ ; مِنْ غَيْرِ وُجُوبِ مُمَاسَّةٍ أَوْ مُحَاذَاةٍ عَنْ يَمِينٍ أَوْ شِمَالٍ ; فَإِذَا قُيِّدَتْ بِمَعْنَى مِنْ الْمَعَانِي دَلَّتْ عَلَى الْمُقَارَنَةِ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى . فَإِنَّهُ يُقَالُ : مَا زِلْنَا نَسِيرُ وَالْقَمَرَ مَعَنَا أَوْ وَالنَّجْمَ مَعَنَا . وَيُقَالُ : هَذَا الْمَتَاعُ مَعِي لِمَجَاعَتِهِ لَك ; وَإِنْ كَانَ فَوْقَ رَأْسِك . فَاَللَّهُ مَعَ خَلْقِهِ حَقِيقَةً وَهُوَ فَوْقَ عَرْشِهِ حَقِيقَةً . ثُمَّ هَذِهِ " الْمَعِيَّةُ " تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا بِحَسَبِ الْمَوَارِدِ فَلَمَّا قَالَ : { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } إلَى قَوْلِهِ : { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } . دَلَّ ظَاهِرُ الْخِطَابِ عَلَى أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْمَعِيَّةِ وَمُقْتَضَاهَا أَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَيْكُمْ ; شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ وَمُهَيْمِنٌ عَالِمٌ بِكُمْ . وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ السَّلَفِ : إنَّهُ مَعَهُمْ بِعِلْمِهِ وَهَذَا ظَاهِرُ الْخِطَابِ وَحَقِيقَتُهُ . وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ } إلَى قَوْلِهِ : { هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا } الْآيَةَ . وَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَاحِبِهِ فِي الْغَارِ : { لَا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا } كَانَ هَذَا أَيْضًا حَقًّا عَلَى ظَاهِرِهِ وَدَلَّتْ الْحَالُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْمَعِيَّةِ هُنَا مَعِيَّةُ الِاطِّلَاعِ وَالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ . وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لِمُوسَى وَهَارُونَ : { إنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } . هُنَا الْمَعِيَّةُ عَلَى ظَاهِرِهَا وَحُكْمُهَا فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ النَّصْرُ وَالتَّأْيِيدُ . وَقَدْ يَدْخُلُ عَلَى صَبِيٍّ مَنْ يُخِيفُهُ فَيَبْكِي فَيُشْرِفُ عَلَيْهِ أَبُوهُ مِنْ فَوْقِ السَّقْفِ فَيَقُولُ : لَا تَخَفْ ; أَنَا مَعَك أَوْ أَنَا هُنَا ; أَوْ أَنَا حَاضِرٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ . يُنَبِّهُهُ عَلَى الْمَعِيَّةِ الْمُوجِبَةِ بِحُكْمِ الْحَالِ دَفْعَ الْمَكْرُوهِ ; فَفَرْقٌ بَيْنَ مَعْنَى الْمَعِيَّةِ وَبَيْنَ مُقْتَضَاهَا ; وَرُبَّمَا صَارَ مُقْتَضَاهَا مِنْ مَعْنَاهَا . فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَوَاضِعِ . فَلَفْظُ " الْمَعِيَّةِ " قَدْ اُسْتُعْمِلَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي مَوَاضِعَ يَقْتَضِي فِي كُلِّ مَوْضِعٍ أُمُورًا لَا يَقْتَضِيهَا فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ ; فَإِمَّا أَنْ تَخْتَلِفَ دَلَالَتُهَا بِحَسَبِ الْمَوَاضِعِ أَوْ تَدُلَّ عَلَى قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ جَمِيعِ مَوَارِدِهَا - وَإِنْ امْتَازَ كُلُّ مَوْضِعٍ بِخَاصِّيَّةٍ - فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَيْسَ مُقْتَضَاهَا أَنْ تَكُونَ ذَاتُ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ مُخْتَلِطَةً بِالْخَلْقِ حَتَّى يُقَالَ قَدْ صُرِفَتْ عَنْ ظَاهِرِهَا . وَنَظِيرُهَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ " الرُّبُوبِيَّةُ وَالْعُبُودِيَّةُ " فَإِنَّهُمَا وَإِنْ اشْتَرَكَتَا فِي أَصْلِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ فَلَمَّا قَالَ : { بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } { رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ } كَانَتْ رُبُوبِيَّةُ مُوسَى وَهَارُونَ لَهَا اخْتِصَاصٌ زَائِدٌ عَلَى الرُّبُوبِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْخَلْقِ ; فَإِنَّ مَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْ الْكَمَالِ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى غَيْرَهُ فَقَدْ رَبَّهُ وَرَبَّاهُ رُبُوبِيَّةً وَتَرْبِيَةً أَكْمَلَ مِنْ غَيْرِهِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا } وَ { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا } . فَإِنَّ الْعَبْدَ تَارَةً يَعْنِي بِهِ الْمَعْبَدَ فَيَعُمُّ الْخَلْقَ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا } وَتَارَةً يَعْنِي بِهِ الْعَابِدَ فَيَخُصُّ ; ثُمَّ يَخْتَلِفُونَ فَمَنْ كَانَ أَعْبَدَ عِلْمًا وَحَالًا كَانَتْ عُبُودِيَّتُهُ أَكْمَلَ ; فَكَانَتْ الْإِضَافَةُ فِي حَقِّهِ أَكْمَلَ مَعَ أَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ . وَمِثْلُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ يُسَمِّيهَا بَعْضُ النَّاسِ " مُشَكِّكَةً " لِتَشَكُّكِ الْمُسْتَمِعِ فِيهَا هَلْ هِيَ مِنْ قَبِيلِ الْأَسْمَاءِ الْمُتَوَاطِئَةِ أَوْ مِنْ قَبِيلِ الْمُشْتَرَكَةِ فِي اللَّفْظِ فَقَطْ وَالْمُحَقِّقُونَ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا لَيْسَتْ خَارِجَةً عَنْ جِنْسِ الْمُتَوَاطِئَةِ ; إذْ وَاضِعُ اللُّغَةِ إنَّمَا وَضَعَ اللَّفْظَ بِإِزَاءِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ وَإِنْ كَانَتْ نَوْعًا مُخْتَصًّا مِنْ الْمُتَوَاطِئَةِ فَلَا بَأْسَ بِتَخْصِيصِهَا بِلَفْظِ . وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ " الْمَعِيَّةَ " تُضَافُ إلَى كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ - كَإِضَافَةِ الرُّبُوبِيَّةِ مَثَلًا - وَأَنَّ الِاسْتِوَاءَ عَلَى الشَّيْءِ لَيْسَ إلَّا لِلْعَرْشِ وَأَنَّ اللَّهَ يُوصَفُ بِالْعُلُوِّ وَالْفَوْقِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَلَا يُوصَفُ بِالسُّفُولِ وَلَا بِالتَّحْتِيَّةِ قَطُّ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا : عَلِمَ أَنَّ الْقُرْآنَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ . ثُمَّ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ كَوْنَ اللَّهِ فِي السَّمَاءِ بِمَعْنَى أَنَّ السَّمَاءَ تُحِيطُ بِهِ وَتَحْوِيهِ فَهُوَ كَاذِبٌ - إنْ نَقَلَهُ عَنْ غَيْرِهِ - وَضَالٌّ - إنْ اعْتَقَدَهُ فِي رَبِّهِ - وَمَا سَمِعْنَا أَحَدًا يَفْهَمُ هَذَا مِنْ اللَّفْظِ وَلَا رَأْيَنَا أَحَدًا نَقَلَهُ عَنْ وَاحِدٍ وَلَوْ سُئِلَ سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ هَلْ تَفْهَمُونَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ " إنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ " إنَّ السَّمَاءَ تَحْوِيهِ لَبَادَرَ كُلُّ أَحَدٍ مِنْهُمْ إلَى أَنْ يَقُولَ هَذَا شَيْءٌ لَعَلَّهُ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِنَا . وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ هَكَذَا : فَمِنْ التَّكَلُّفِ أَنْ يَجْعَلَ ظَاهِرَ اللَّفْظِ شَيْئًا مُحَالًا لَا يَفْهَمُهُ النَّاسُ مِنْهُ ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يَتَأَوَّلَهُ ; بَلْ عِنْدَ النَّاسِ " أَنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ " " وَهُوَ عَلَى الْعَرْشِ " وَاحِدٌ ; إذْ السَّمَاءُ إنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْعُلُوَّ فَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ فِي الْعُلُوِّ لَا فِي السُّفْلِ وَقَدْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ كُرْسِيَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَسِعَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنَّ الْكُرْسِيَّ فِي الْعَرْشِ كَحَلْقَةِ مُلْقَاةٍ بِأَرْضِ فَلَاةٍ وَأَنَّ الْعَرْشَ خَلْقٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ لَا نِسْبَةَ لَهُ إلَى قُدْرَةِ اللَّهِ وَعَظَمَتِهِ فَكَيْفَ يُتَوَهَّمُ بَعْدَ هَذَا أَنَّ خَلْقًا يَحْصُرُهُ وَيَحْوِيهِ ؟ وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ : { وَلَأُصَلِّبَنَّكُم فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } وَقَالَ : { فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ } بِمَعْنَى ( عَلَى وَنَحْوُ ذَلِكَ وَهُوَ كَلَامٌ عَرَبِيٌّ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا وَهَذَا يَعْلَمُهُ مَنْ عَرَفَ حَقَائِقَ مَعَانِي الْحُرُوفِ وَأَنَّهَا مُتَوَاطِئَةٌ فِي الْغَالِبِ لَا مُشْتَرَكَةٌ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ فَلَا يَبْصُقْ قِبَلَ وَجْهِهِ } الْحَدِيثَ . حَقٌّ عَلَى ظَاهِرِهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَهُوَ قِبَلَ وَجْهِ الْمُصَلِّي ; بَلْ هَذَا الْوَصْفُ يَثْبُتُ لِلْمَخْلُوقَاتِ . فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ أَنَّهُ يُنَاجِي السَّمَاءَ أَوْ يُنَاجِي الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَكَانَتْ السَّمَاءُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ فَوْقَهُ وَكَانَتْ أَيْضًا قِبَلَ وَجْهِهِ . وَقَدْ ضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَثَلَ بِذَلِكَ - وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ بِالتَّمْثِيلِ بَيَانُ جَوَازِ هَذَا وَإِمْكَانُهُ ; لَا تَشْبِيهُ الْخَالِقِ بِالْمَخْلُوقِ - فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيَرَى رَبَّهُ مُخْلِيًا بِهِ فَقَالَ لَهُ أَبُو رَزِينٍ العقيلي : كَيْفَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهُوَ وَاحِدٌ وَنَحْنُ جَمِيعٌ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأُنْبِئُك بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي آلَاءِ اللَّهِ هَذَا الْقَمَرُ كُلُّكُمْ يَرَاهُ مُخْلِيًا بِهِ وَهُوَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ; فَاَللَّهُ أَكْبَرُ } أَوْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ : { إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ } فَشَبَّهَ الرُّؤْيَةَ بِالرُّؤْيَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَرْئِيُّ مُشَابِهًا لِلْمَرْئِيِّ فَالْمُؤْمِنُونَ إذَا رَأَوْا رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَنَاجَوْهُ كُلٌّ يَرَاهُ فَوْقَهُ قِبَلَ وَجْهِهِ ; كَمَا يَرَى الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَلَا مُنَافَاةَ أَصْلًا . وَمَنْ كَانَ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ الْمَعْرِفَةِ بِاَللَّهِ وَالرُّسُوخِ فِي الْعِلْمِ بِاَللَّهِ : يَكُونُ إقْرَارُهُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى مَا هُمَا عَلَيْهِ أَوْكَدَ . وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ يَقُولُ : مَذْهَبُ السَّلَفِ إقْرَارُهَا عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ مَعَ اعْتِقَادٍ أَنَّ ظَاهِرَهَا غَيْرُ مُرَادٍ وَهَذَا اللَّفْظُ " مُجْمَلٌ " فَإِنَّ قَوْلَهُ : ظَاهِرَهَا غَيْرُ مُرَادٍ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالظَّاهِرِ نُعُوتَ الْمَخْلُوقِينَ وَصِفَاتِ المحدثين ; مِثْلُ أَنْ يُرَادَ بِكَوْنِ " اللَّهِ قَبِلَ وَجْهِ الْمُصَلِّي " أَنَّهُ مُسْتَقِرٌّ فِي الْحَائِطِ الَّذِي يُصَلِّي إلَيْهِ وَإِنَّ " اللَّهَ مَعَنَا " ظَاهِرُهُ أَنَّهُ إلَى جَانِبِنَا وَنَحْوُ ذَلِكَ فَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُرَادٍ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُرَادٍ فَقَدْ أَصَابَ فِي الْمَعْنَى لَكِنْ أَخْطَأَ بِإِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذَا ظَاهِرُ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فَإِنَّ هَذَا الْمُحَالَ لَيْسَ هُوَ الظَّاهِرُ عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَعْنَى الْمُمْتَنِعُ صَارَ يَظْهَرُ لِبَعْضِ النَّاسِ فَيَكُونُ الْقَائِلُ لِذَلِكَ مُصِيبًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ مَعْذُورًا فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ . فَإِنَّ الظُّهُورَ وَالْبُطُونَ قَدْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ وَهُوَ مِنْ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ . وَكَانَ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا أَنْ يُبَيِّنَ لِمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ هُوَ الظَّاهِرَ حَتَّى يَكُونَ قَدْ أَعْطَى كَلَامَ اللَّهِ وَكَلَامَ رَسُولِهِ حَقَّهُ لَفْظًا وَمَعْنًى . وَإِنْ كَانَ النَّاقِلُ عَنْ السَّلَفِ أَرَادَ بِقَوْلِهِ : الظَّاهِرُ غَيْرُ مُرَادٍ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي تَظْهَرُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ مِمَّا يَلِيقُ بِجَلَالِ اللَّهِ وَعَظَمَتِهِ وَلَا يَخْتَصُّ بِصِفَةِ الْمَخْلُوقِينَ بَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ لِلَّهِ أَوْ جَائِزَةٌ عَلَيْهِ جَوَازًا ذِهْنِيًّا أَوْ جَوَازًا خَارِجِيًّا غَيْرَ مُرَادٍ فَهَذَا قَدْ أَخْطَأَ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْ السَّلَفِ أَوْ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ ; فَمَا يُمْكِنُ أَحَدٌ قَطُّ أَنْ يَنْقُلَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ مَا يَدُلُّ - لَا نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا - أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَلَا أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ سَمْعٌ وَلَا بَصَرٌ وَلَا يَدٌ حَقِيقَةً . وَقَدْ رَأَيْت هَذَا الْمَعْنَى يَنْتَحِلُهُ بَعْضُ مَنْ يَحْكِيهِ عَنْ السَّلَفِ وَيَقُولُونَ إنَّ طَرِيقَةَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ طَرِيقَةُ السَّلَفِ - بِمَعْنَى أَنَّ الْفَرِيقَيْنِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ لَمْ تَدُلَّ عَلَى صِفَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَلَكِنَّ السَّلَفَ أَمْسَكُوا عَنْ تَأْوِيلِهَا والمتأخرون رَأَوْا الْمَصْلَحَةَ فِي تَأْوِيلِهَا لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ وَيَقُولُونَ : الْفَرْقُ بَيْنَ الطَّرِيقَيْنِ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ يُعَيِّنُونَ الْمُرَادَ بِالتَّأْوِيلِ وَأُولَئِكَ لَا يُعَيِّنُونَ لِجَوَازِ أَنْ يُرَادَ غَيْرُهُ . وَهَذَا الْقَوْلُ عَلَى الْإِطْلَاقِ كَذِبٌ صَرِيحٌ عَلَى السَّلَفِ : أَمَّا فِي كَثِيرٍ مِنْ الصِّفَاتِ فَقَطْعًا : مِثْلُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَوْقَ الْعَرْشِ فَإِنَّ مَنْ تَأَمَّلَ كَلَامَ السَّلَفِ الْمَنْقُولَ عَنْهُمْ - الَّذِي لَمْ يُحْكَ هُنَا عُشْرُهُ - عَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُصَرِّحِينَ بِأَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ حَقِيقَةً وَأَنَّهُمْ مَا اعْتَقَدُوا خِلَافَ هَذَا قَطُّ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ قَدْ صَرَّحَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الصِّفَاتِ بِمِثْلِ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَعْدَ الْبَحْثِ التَّامِّ وَمُطَالَعَةِ مَا أَمْكَنَ مِنْ كَلَامِ السَّلَفِ مَا رَأَيْت كَلَامَ أَحَدٍ مِنْهُمْ يَدُلُّ - لَا نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا وَلَا بِالْقَرَائِنِ - عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ; بَلْ الَّذِي رَأَيْته أَنَّ كَثِيرًا مِنْ كَلَامِهِمْ يَدُلُّ - إمَّا نَصًّا وَإِمَّا ظَاهِرًا - عَلَى تَقْرِيرِ جِنْسِ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَلَا أَنْقُلُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إثْبَاتَ كُلِّ صِفَةٍ ; بَلْ الَّذِي رَأَيْته أَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ جِنْسَهَا فِي الْجُمْلَةِ ; وَمَا رَأَيْت أَحَدًا مِنْهُمْ نَفَاهَا . وَإِنَّمَا يَنْفُونَ التَّشْبِيهَ وَيُنْكِرُونَ عَلَى الْمُشَبِّهَةِ الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ ; مَعَ إنْكَارِهِمْ عَلَى مَنْ يَنْفِي الصِّفَاتِ أَيْضًا ; كَقَوْلِ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ الخزاعي شَيْخِ الْبُخَارِيِّ : مَنْ شَبَّهَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ فَقَدْ كَفَرَ وَمَنْ جَحَدَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فَقَدْ كَفَرَ وَلَيْسَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَلَا رَسُولُهُ تَشْبِيهًا . وَكَانُوا إذَا رَأَوْا الرَّجُلَ قَدْ أَغْرَقَ فِي نَفْيِ التَّشْبِيهِ مِنْ غَيْرِ إثْبَاتِ الصِّفَاتِ قَالُوا : هَذَا جهمي مُعَطِّلٌ ; وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا فِي كَلَامِهِمْ فَإِنَّ الجهمية وَالْمُعْتَزِلَةَ إلَى الْيَوْمِ يُسَمُّونَ مَنْ أَثْبَتَ شَيْئًا مِنْ الصِّفَاتِ مُشَبِّهًا - كَذِبًا مِنْهُمْ وَافْتِرَاءً - حَتَّى إنَّ مِنْهُمْ مَنْ غَلَا وَرَمَى الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ حَتَّى قَالَ ثُمَامَةُ بْنُ الْأَشْرَسِ مِنْ رُؤَسَاءَ الجهمية : ثَلَاثَةٌ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ مُشَبِّهَةٌ ; مُوسَى حَيْثُ قَالَ : { إنْ هِيَ إلَّا فِتْنَتُكَ } وَعِيسَى حَيْثُ قَالَ : { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : { يَنْزِلُ رَبُّنَا } . وَحَتَّى إنَّ جُلَّ الْمُعْتَزِلَةِ تُدْخِلُ عَامَّةَ الْأَئِمَّةِ : مِثْلَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَالثَّوْرِيِّ وَأَصْحَابِهِ والأوزاعي وَأَصْحَابِهِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَأَحْمَد وَأَصْحَابِهِ وَإِسْحَاقَ بْنِ راهويه وَأَبِي عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ فِي قِسْمِ الْمُشَبِّهَةِ . وَقَدْ صَنَّفَ أَبُو إسْحَاقَ إبْرَاهِيمُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ دِرْبَاسٍ الشَّافِعِيُّ جُزْءًا سَمَّاهُ : " تَنْزِيهُ أَئِمَّةِ الشَّرِيعَةِ عَنْ الْأَلْقَابِ الشَّنِيعَةِ " ذَكَرَ فِيهِ كَلَامَ السَّلَفِ وَغَيْرِهِمْ فِي مَعَانِي هَذَا الْبَابِ وَذَكَرَ أَنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ كُلُّ صِنْفٍ مِنْهُمْ يُلَقِّبُ " أَهْلَ السُّنَّةِ " بِلَقَبِ افْتَرَاهُ - يَزْعُمُ أَنَّهُ صَحِيحٌ عَلَى رَأْيِهِ الْفَاسِدِ - كَمَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُلَقِّبُونَ النَّبِيَّ بِأَلْقَابِ افْتَرَوْهَا . فَالرَّوَافِضُ تُسَمِّيهِمْ نَوَاصِبَ وَالْقَدَرِيَّةُ يُسَمُّونَهُمْ مُجْبِرَةً وَالْمُرْجِئَةُ تُسَمِّيهِمْ شَكَّاكًا والجهمية تُسَمِّيهِمْ مُشَبِّهَةً وَأَهْلُ الْكَلَامِ يُسَمُّونَهُمْ حَشْوِيَّةً وَنَوَابِتَ وَغُثَاءً وَغُثْرًا إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ . كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تُسَمِّي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَارَةً مَجْنُونًا وَتَارَةً شَاعِرًا وَتَارَةً كَاهِنًا وَتَارَةً مُفْتَرِيًا . قَالُوا فَهَذِهِ عَلَامَةُ الْإِرْثِ الصَّحِيحِ وَالْمُتَابَعَةِ التَّامَّةِ فَإِنَّ السُّنَّةَ هِيَ مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ اعْتِقَادًا وَاقْتِصَادًا وَقَوْلًا وَعَمَلًا ; فَكَمَا أَنَّ الْمُنْحَرِفِينَ عَنْهُ يُسَمُّونَهُمْ بِأَسْمَاءِ مَذْمُومَةٍ مَكْذُوبَةٍ - وَإِنْ اعْتَقَدُوا صِدْقَهَا بِنَاءً عَلَى عَقِيدَتِهِمْ الْفَاسِدَةِ - فَكَذَلِكَ التَّابِعُونَ لَهُ عَلَى بَصِيرَةٍ الَّذِينَ هُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِهِ فِي الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ ; بَاطِنًا وَظَاهِرًا . وَأَمَّا الَّذِينَ وَافَقُوهُ بِبَوَاطِنِهِمْ وَعَجَزُوا عَنْ إقَامَةِ الظَّوَاهِرِ وَاَلَّذِينَ وَافَقُوهُ بِظَوَاهِرِهِمْ وَعَجَزُوا عَنْ تَحْقِيقِ الْبَوَاطِنِ وَاَلَّذِينَ وَافَقُوهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ : فَلَا بُدَّ لِلْمُنْحَرِفِينَ عَنْ سُنَّتِهِ أَنْ يَعْتَقِدُوا فِيهِمْ نَقْصًا يَذُمُّونَهُمْ بِهِ وَيُسَمُّونَهُمْ بِأَسْمَاءِ مَكْذُوبَةٍ - وَإِنْ اعْتَقَدُوا صِدْقَهَا - كَقَوْلِ الرافضي : مَنْ لَمْ يُبْغِضْ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعُمَرَ : فَقَدْ أَبْغَضَ عَلِيًّا ; لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِعَلِيِّ إلَّا بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُمَا ثُمَّ يَجْعَلُ مَنْ أَحَبَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ ناصبيا ; بِنَاءً عَلَى هَذِهِ الْمُلَازَمَةِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي اعْتَقَدَهَا صَحِيحَةً أَوْ عَانَدَ فِيهَا وَهُوَ الْغَالِبُ . وَكَقَوْلِ الْقَدَرِيِّ : مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ الْكَائِنَاتِ وَخَلَقَ أَفْعَالَ الْعِبَادِ : فَقَدْ سَلَبَ مِنْ الْعِبَادِ الِاخْتِيَارَ وَالْقُدْرَةَ وَجَعَلَهُمْ مَجْبُورِينَ كَالْجَمَادَاتِ الَّتِي لَا إرَادَةَ لَهَا وَلَا قُدْرَةَ . وَكَقَوْلِ الجهمي : مَنْ قَالَ إنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ : فَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ مَحْصُورٌ وَأَنَّهُ جِسْمٌ مُرَكَّبٌ مَحْدُودٌ وَأَنَّهُ مُشَابِهٌ لِخَلْقِهِ . وَكَقَوْلِ الجهمية الْمُعْتَزِلَةِ : مَنْ قَالَ إنَّ لِلَّهِ عِلْمًا وَقُدْرَةً فَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ جِسْمٌ مُرَكَّبٌ وَأَنَّهُ مُشَبِّهٌ ; لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ أَعْرَاضُ وَالْعَرَضُ لَا يَقُومُ إلَّا بِجَوْهَرِ مُتَحَيِّزٍ وَكُلُّ مُتَحَيِّزٍ جِسْمٌ مُرَكَّبٌ أَوْ جَوْهَرٌ فَرْدٌ وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ فَهُوَ مُشَبِّهٌ لِأَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ . وَمَنْ حَكَى عَنْ النَّاسِ " الْمَقَالَاتِ " وَسَمَّاهُمْ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْمَكْذُوبَةِ - بِنَاءً عَلَى عَقِيدَتِهِ الَّتِي هُمْ مُخَالِفُونَ لَهُ فِيهَا - فَهُوَ وَرَبُّهُ وَاَللَّهُ مِنْ وَرَائِهِ بِالْمِرْصَادِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إلَّا بِأَهْلِهِ .