تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَكُنْت وَأَنَا بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي سَنَةِ إحْدَى عَشْرَةَ وَسَبْعِمِائَةٍ قَدْ اُسْتُفْتِيت عَنْ التَّوَسُّلِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَتَبْت فِي ذَلِكَ جَوَابًا مَبْسُوطًا وَقَدْ أَحْبَبْت إيرَادَهُ هُنَا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَزِيدِ الْفَائِدَةِ فَإِنَّ هَذِهِ الْقَوَاعِدَ - الْمُتَعَلِّقَةَ بِتَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ وَحَسْمِ مَادَّةِ الشِّرْكِ وَالْغُلُوِّ - كُلَّمَا تَنَوَّعَ بَيَانُهَا وَوَضَحَتْ عِبَارَاتُهَا كَانَ ذَلِكَ نُورًا عَلَى نُورٍ . وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ . وَصُورَةُ السُّؤَالِ : الْمَسْئُولُ مِنْ السَّادَةِ الْعُلَمَاءِ أَئِمَّةِ الدِّينِ أَنْ يُبَيِّنُوا مَا يَجُوزُ وَمَا لَا يَجُوزُ مِنْ الِاسْتِشْفَاعِ وَالتَّوَسُّلِ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ .
12345678910111213141516171819202122232425
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ الْعَامَّةِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا كَانَتْ لَكُمْ حَاجَةٌ فَاسْأَلُوا اللَّهَ بِجَاهِي } حَدِيثٌ بَاطِلٌ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ وَإِنَّمَا الْمَشْرُوعُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ فِي دُعَاءٍ . وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ الدُّعَاءَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَغَيْرِهِ ذَكَرُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ لَمْ يَذْكُرُوا فِيمَا شَرَعَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْحَالِ التَّوَسُّلَ بِهِ كَمَا لَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ دُعَاءَ غَيْرِ اللَّهِ وَالِاسْتِعَانَةَ الْمُطْلَقَةَ بِغَيْرِهِ فِي حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ ; وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ ; فَإِنَّ دُعَاءَ غَيْرِ اللَّهِ كُفْرٌ وَلِهَذَا لَمْ يُنْقَلْ دُعَاءُ أَحَدٍ مِنْ الْمَوْتَى وَالْغَائِبِينَ - لَا الْأَنْبِيَاءُ وَلَا غَيْرُهُمْ - عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْعِلْمِ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِمَّنْ لَيْسَ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ الْمُجْتَهِدِينَ بِخِلَافِ قَوْلِهِمْ : أَسْأَلُك بِجَاهِ نَبِيِّنَا أَوْ بِحَقِّهِ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ فِعْلُهُ وَلَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا بَيْنَهُمْ وَلَا فِيهِ سُنَّةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ السُّنَّةُ تَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنْهُ كَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَغَيْرِهِمَا . وَرَأَيْت فِي فَتَاوِي الْفَقِيهِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ قَالَ : لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَوَسَّلَ إلَى اللَّهِ بِأَحَدِ مِنْ خَلْقِهِ إلَّا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ صَحَّ حَدِيثُ الْأَعْمَى : فَلَمْ يُعْرَفْ صِحَّتُهُ - ثُمَّ رَأَيْت عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمْ قَالُوا : لَا يَجُوزُ الْإِقْسَامُ عَلَى اللَّهِ بِأَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَرَأَيْت فِي كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنْ قَدْ يُخَرَّجُ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فِي جَوَازِ الْحَلِفِ بِهِ - وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى التَّوَسُّلِ بِدُعَائِهِ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْإِقْسَامِ بِالْمَخْلُوقِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَا مِنْ بَابِ السُّؤَالِ بِذَاتِ الرَّسُولِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَاَلَّذِينَ يَتَوَسَّلُونَ بِذَاتِهِ لِقَبُولِ الدُّعَاءِ عَدَلُوا عَمَّا أُمِرُوا بِهِ وَشُرِعَ لَهُمْ - وَهُوَ مِنْ أَنْفَعِ الْأُمُورِ لَهُمْ - إلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ مَنْ أَعْظَمِ الْوَسَائِلِ الَّتِي بِهَا يُسْتَجَابُ الدُّعَاءُ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهَا . وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ فِي الدُّعَاءِ هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ . { مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا } وَعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ لَمْ يَحْمَدْ اللَّهَ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَجَّلَ هَذَا ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ : إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِحَمْدِ رَبِّهِ ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ ثُمَّ يَدْعُو بَعْدَهُ بِمَا شَاءَ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو داود - وَهَذَا لَفْظُهُ - والترمذي والنسائي وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ صَحِيحٌ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاص أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ; ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ ; فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ ; فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّفَاعَةُ } . وَفِي سُنَنِ أَبِي داود والنسائي عَنْهُ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ الْمُؤَذِّنِينَ يَفْضُلُونَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْ كَمَا يَقُولُونَ فَإِذَا انْتَهَيْت سَلْ تعطه } وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ " مَنْ قَالَ حِينَ يُنَادِي الْمُنَادِي : اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ الْقَائِمَةِ وَالصَّلَاةِ النَّافِعَةِ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَارْضَ عَنْهُ رِضَاءً لَا سَخَطَ بَعْدَهُ اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ دَعْوَتَهُ ؟ . وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الدُّعَاءُ لَا يُرَدُّ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو داود والترمذي والنسائي وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ . وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سَاعَتَانِ تُفْتَحُ فِيهِمَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ قَلَّمَا تُرَدُّ عَلَى دَاعٍ دَعْوَتُهُ : عِنْدَ حُصُولِ النِّدَاءِ وَالصَّفِّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } رَوَاهُ أَبُو داود . وَفِي الْمُسْنَدِ وَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِمَا عَنْ الطُّفَيْلِ بْنِ أبي بْنِ كَعْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا ذَهَبَ رُبُعُ اللَّيْلِ قَامَ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اُذْكُرُوا اللَّهَ جَاءَتْ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ . جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ } . { قَالَ أبي : قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أُكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَيْك فَكَمْ أَجْعَلُ لَك مِنْ صَلَاتِي ؟ قَالَ مَا شِئْت قُلْت ; الرُّبُعَ ؟ قَالَ : مَا شِئْت وَإِنْ زِدْت فَهُوَ خَيْرٌ لَك قُلْت : النِّصْفَ . قَالَ ؟ مَا شِئْت وَإِنْ زِدْت فَهُوَ خَيْرٌ لَك قُلْت : الثُّلُثَيْنِ ؟ قَالَ مَا شِئْت وَإِنْ زِدْت فَهُوَ خَيْرٌ لَك قُلْت : أَجْعَلُ لَك صَلَاتِي كُلَّهَا ؟ قَالَ إذًا يَكْفِيك اللَّهُ مَا أَهَمَّك مِنْ أَمْرِ دُنْيَاك وَآخِرَتِك وَفِي لَفْظٍ إذًا تُكْفَى هَمَّك وَيُغْفَرُ ذَنْبُك } . وَقَوْلُ السَّائِلِ : أَجْعَلُ لَك مِنْ صَلَاتِي ؟ يَعْنِي مِنْ دُعَائِي ; فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِي اللُّغَةِ هِيَ الدُّعَاءُ قَالَ تَعَالَى : { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ } . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى } { وَقَالَتْ : امْرَأَةٌ : صَلِّ عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَعَلَى زَوْجِي فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكِ وَعَلَى زَوْجِك } . فَيَكُونُ مَقْصُودُ السَّائِلِ أَيْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ أَسْتَجْلِبُ بِهِ الْخَيْرَ وَأَسْتَدْفِعُ بِهِ الشَّرَّ فَكَمْ أَجْعَلُ لَك مِنْ الدُّعَاءِ قَالَ : " مَا شِئْت " فَلَمَّا انْتَهَى إلَى قَوْلِهِ : أَجْعَلُ لَك صَلَاتِي كُلَّهَا ؟ قَالَ { إذًا تُكْفَى هَمَّك وَيُغْفَرُ ذَنْبُك } . وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى { إذًا يَكْفِيك اللَّهُ مَا أَهَمَّك مِنْ أَمْرِ دُنْيَاك وَآخِرَتِك } . وَهَذَا غَايَةُ مَا يَدْعُو بِهِ الْإِنْسَانُ مِنْ جَلْبِ الْخَيْرَاتِ وَدَفْعِ الْمَضَرَّاتِ ; فَإِنَّ الدُّعَاءَ فِيهِ تَحْصِيلُ الْمَطْلُوبِ وَانْدِفَاعُ الْمَرْهُوبِ كَمَا بُسِطَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ .