وَكُنْت وَأَنَا بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي سَنَةِ إحْدَى عَشْرَةَ وَسَبْعِمِائَةٍ قَدْ اُسْتُفْتِيت عَنْ التَّوَسُّلِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَتَبْت فِي ذَلِكَ جَوَابًا مَبْسُوطًا وَقَدْ أَحْبَبْت إيرَادَهُ هُنَا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَزِيدِ الْفَائِدَةِ فَإِنَّ هَذِهِ الْقَوَاعِدَ - الْمُتَعَلِّقَةَ بِتَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ وَحَسْمِ مَادَّةِ الشِّرْكِ وَالْغُلُوِّ - كُلَّمَا تَنَوَّعَ بَيَانُهَا وَوَضَحَتْ عِبَارَاتُهَا كَانَ ذَلِكَ نُورًا عَلَى نُورٍ . وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ . وَصُورَةُ السُّؤَالِ : الْمَسْئُولُ مِنْ السَّادَةِ الْعُلَمَاءِ أَئِمَّةِ الدِّينِ أَنْ يُبَيِّنُوا مَا يَجُوزُ وَمَا لَا يَجُوزُ مِنْ الِاسْتِشْفَاعِ وَالتَّوَسُّلِ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ .
فَأَمَّا التَّوَسُّلُ بِذَاتِهِ فِي حُضُورِهِ أَوْ مَغِيبِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ - مِثْلَ الْإِقْسَامِ بِذَاتِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ السُّؤَالِ بِنَفْسِ ذَوَاتِهِمْ بِدُعَائِهِمْ - فَلَيْسَ هَذَا مَشْهُورًا عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بَلْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَمَنْ بِحَضْرَتِهِمَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ لَمَّا أَجْدَبُوا اسْتَسْقَوْا وَتَوَسَّلُوا وَاسْتَشْفَعُوا بِمَنْ كَانَ حَيًّا كَالْعَبَّاسِ وكيزيد بْنِ الْأَسْوَدِ وَلَمْ يَتَوَسَّلُوا وَلَمْ يَسْتَشْفِعُوا وَلَمْ يَسْتَسْقُوا فِي هَذِهِ الْحَالِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا عِنْدَ قَبْرِهِ وَلَا غَيْرِ قَبْرِهِ بَلْ عَدَلُوا إلَى الْبَدَلِ كَالْعَبَّاسِ وكيزيد بَلْ كَانُوا يُصَلُّونَ عَلَيْهِ فِي دُعَائِهِمْ وَقَدْ قَالَ عُمَرُ : اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا . فَجَعَلُوا هَذَا بَدَلًا عَنْ ذَلِكَ لَمَّا تَعَذَّرَ أَنْ يَتَوَسَّلُوا بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ وَقَدْ كَانَ مِنْ الْمُمْكِنِ أَنْ يَأْتُوا إلَى قَبْرِهِ فَيَتَوَسَّلُوا بِهِ وَيَقُولُوا فِي دُعَائِهِمْ فِي الصَّحْرَاءِ بِالْجَاهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ الْقَسَمَ بِمَخْلُوقِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوْ السُّؤَالِ بِهِ ; فَيَقُولُونَ : نَسْأَلُك أَوْ نُقْسِمُ عَلَيْك بِنَبِيِّك أَوْ بِجَاهِ نَبِيِّك وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ . وَرَوَى بَعْضُ الْجُهَّالِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ بِجَاهِي فَإِنَّ جَاهِي عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ; } وَهَذَا الْحَدِيثُ كَذِبٌ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا أَهْلُ الْحَدِيثِ وَلَا ذَكَرَهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ مَعَ أَنَّ جَاهَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَعْظَمُ مِنْ جَاهِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَقَدْ أَخْبَرَنَا سُبْحَانَهُ عَنْ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَنَّهُمَا وَجِيهَان عِنْدَ اللَّهِ فَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا } وَقَالَ تَعَالَى : { إذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ } . فَإِذَا كَانَ مُوسَى وَعِيسَى وَجِيهَيْنِ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ; فَكَيْفَ بِسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ صَاحِبِ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ الَّذِي يَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ والآخرون ; وَصَاحِبِ الْكَوْثَرِ وَالْحَوْضِ الْمَوْرُودِ الَّذِي آنِيَتُهُ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ وَمَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنْ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنْ الْعَسَلِ وَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا ؟ . وَهُوَ صَاحِبُ الشَّفَاعَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَتَأَخَّرُ عَنْهَا آدَمَ وَأُولُو الْعَزْمِ - نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ وَيَتَقَدَّمُ هُوَ إلَيْهَا وَهُوَ صَاحِبُ اللِّوَاءِ آدَمَ وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِهِ وَهُوَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ إمَامُ الْأَنْبِيَاءِ إذَا اجْتَمَعُوا وَخَطِيبُهُمْ إذَا وَفَدُوا ذُو الْجَاهِ الْعَظِيمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ .