تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ مُفْتِي الْأَنَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تيمية عَنْ قَوْمٍ يَقُولُونَ : كَلَامُ النَّاسِ وَغَيْرِهِمْ قَدِيمٌ - سَوَاءٌ كَانَ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا فُحْشًا أَوْ غَيْرَ فُحْشٍ نَظْمًا أَوْ نَثْرًا - وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِهِمْ فِي الْقِدَمِ إلَّا مِنْ جِهَةِ الثَّوَابِ . وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمْ - بَلْ أَكْثَرُهُمْ - : أَصْوَاتُ الْحَمِيرِ وَالْكِلَابِ كَذَلِكَ وَلَمَّا قُرِئَ عَلَيْهِمْ مَا نُقِلَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد رَدًّا عَلَى قَوْلِهِمْ تَأَوَّلُوا ذَلِكَ وَقَالُوا : بِأَنَّ أَحْمَد إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ خَوْفًا مِنْ النَّاسِ فَهَلْ هَؤُلَاءِ مُصِيبُونَ أَوْ مُخْطِئُونَ ؟ وَهَلْ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى زَجْرُهُمْ عَنْ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَكْفُرُونَ بِالْإِصْرَارِ عَلَى ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ الَّذِي نُقِلَ عَنْ أَحْمَد حُقٌّ كَمَا زَعَمُوا أَمْ لَا فَأَجَابَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
1234567891011121314151617181920212223
فَأَوَّلُ مَا ابْتَدَعَ الجهمية الْقَوْلَ " بِخَلْقِ الْقُرْآنِ " وَ " نَفْيِ الصِّفَاتِ " فَأَنْكَرَهَا مَنْ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ التَّابِعِينَ ثُمَّ تَابِعِي التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَكَفَّرُوا قَائِلَهَا . ثُمَّ ابْتَدَعَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ الَّذِينَ نَاظَرُوا الجهمية : الْقَوْلَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ الْمُنَزَّلَ مَخْلُوقٌ أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامِ اللَّهِ أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَصَاحِفِ وَلَا فِي الصُّدُورِ وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ أَنْ تَكُونَ حُرُوفُ الْقُرْآنِ كَلَامَ اللَّهِ أَوْ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَكَلَّمَ بِالصَّوْتِ وَأَنْكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَأَئِمَّةُ وَقْتِهِ ذَلِكَ . وَقَابَلَهُمْ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْحَدِيثِ ; فَزَعَمُوا أَنَّ أَلْفَاظَ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتَ الْعِبَادِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ أَوْ ادَّعَوْا أَنَّ بَعْضَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ أَوْ صِفَاتِهِمْ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ أَوْ أَنَّ مَا يَسْمَعُ مِنْ النَّاسِ مِنْ الْقُرْآنِ هُوَ مِثْلُ مَا يَسْمَعُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَأَنْكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَعَامَّةُ أَئِمَّةِ وَقْتِهِ وَأَصْحَابُهُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ ذَلِكَ . وَإِنْكَارُ جَمِيعِ هَذِهِ الْبِدَعِ وَرَدُّهَا مَوْجُودٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِي الْكُتُبِ الثَّابِتَةِ مِثْلِ " كِتَابِ السُّنَّةِ " لِلْخَلَّالِ وَ " الْإِبَانَةِ " لِابْنِ بَطَّةَ وَ " كُتُبِ الْمِحْنَةِ " الَّتِي رَوَاهَا حَنْبَلٌ وَصَالِحٌ وَ " كِتَابِ السُّنَّةِ " لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَد وَ " السُّنَّةِ " للالكائي وَ " السُّنَّةِ " لِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَمَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ الْكُتُبِ . فَأَمَّا الرَّدُّ عَلَى " الجهمية " الْقَائِلِينَ بِنَفْيِ الصِّفَاتِ وَخَلْقِ الْقُرْآنِ فَفِي كَلَامِ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ وَالْأَئِمَّةِ الْمَشَاهِيرِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ كَثِيرٌ وَفِي " مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ " مِنْ ذَلِكَ آثَارٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا . مِثْلُ مَا رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنِ شَاهِينَ واللالكائي وَغَيْرِهِمْ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قِيلَ لَهُ يَوْمَ صفين : حَكَّمْت رَجُلَيْنِ فَقَالَ : مَا حَكَّمْت مَخْلُوقًا مَا حَكَّمْت إلَّا الْقُرْآنَ وَعَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ : كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي جِنَازَةٍ فَلَمَّا وَضَعَ الْمَيِّتَ فِي لَحْدِهِ قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ : اللَّهُمَّ رَبَّ الْقُرْآنِ اغْفِرْ لَهُ فَوَثَبَ إلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَهُ : مَهْ الْقُرْآنُ مِنْهُ . وَفِي رِوَايَةٍ : الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَلَيْسَ بِمَرْبُوبِ مِنْهُ خَرَجَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ . وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : مَنْ حَلَفَ بِالْقُرْآنِ فَعَلَيْهِ بِكُلِّ آيَةٍ كَفَّارَةٌ فَمَنْ كَفَرَ بِحَرْفِ مِنْهُ فَقَدْ كَفَرَ بِهِ أَجْمَعَ . وَمِنْ الْمُسْتَفِيضِ عَنْ سُفْيَانِ بْنِ عيينة عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ - وَرُبَّمَا وَقَفَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى سُفْيَانَ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ - قَالَ : أَدْرَكْت مَشَايِخَنَا وَالنَّاسَ مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً يَقُولُونَ : الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ وَمَشَايِخُ عَمْرِو مَنْ لَقِيَ عَمْرُو مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ . وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ زَيْنِ الْعَابِدِينَ وَابْنِهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ : لَيْسَ الْقُرْآنُ بِخَالِقِ وَلَا مَخْلُوقٍ وَلَكِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ . وَمِثْلَ هَذَا مَأْثُورٌ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَأَيُّوبِ السختياني وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ وَابْنِ الماجشون والأوزاعي وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ وهشيم وَعَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَأَبِي إسْحَاقَ الفزاري وَوَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ وَالْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ وَمُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ راهويه وَبِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ وَمَعْرُوفٍ الكرخي وَأَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سلام وَأَبِي ثَوْرٍ وَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَأَبِي زُرْعَةَ وَأَبِي حَاتِمٍ وَمَنْ لَا يُحْصَى كَثْرَةً . قَالَ أَبُو الْقَاسِمُ اللالكائي - وَقَدْ سَمَّى عُلَمَاءُ الْقُرُونِ الْفَاضِلَةِ وَمَنْ يَلِيهِمْ الَّذِينَ نَقَلَ عَنْهُمْ فِي كِتَابِهِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ " - فَهَؤُلَاءِ خَمْسُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ نَفْسًا مِنْ التَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِ التَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمَرْضِيِّينَ - سِوَى الصَّحَابَةِ - عَلَى اخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ وَمُضِيِّ السِّنِينَ وَالْأَعْوَامِ وَفِيهِمْ نَحْوٌ مَنْ مِائَةِ إمَامٍ مِمَّنْ أَخَذَ النَّاسُ بِقَوْلِهِمْ وَتَمَذْهَبُوا بِمَذَاهِبِهِمْ وَلَوْ اشْتَغَلْت بِنَقْلِ قَوْلِ الْمُحَدِّثِينَ لَبَلَغْت أَسْمَاؤُهُمْ أُلُوفًا كَثِيرَةً فَنَقَلْت عَنْ هَؤُلَاءِ عَصْرًا بَعْدَ عَصْرٍ لَا يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ الْمُنْكِرُ وَمَنْ أَنْكَرَ قَوْلَهُمْ اسْتَتَابُوهُ أَوْ أَمَرُوا بِقَتْلِهِ أَوْ نَفْيِهِ أَوْ صَلْبِهِ . قَالَ : وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ قَالَ : الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ ثُمَّ " الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَكِلَاهُمَا قَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ . وَمِمَّنْ أَفْتَى بِقَتْلِ هَؤُلَاءِ : مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى وَسُفْيَانُ بْنُ عيينة وَأَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ الْخَلِيفَةُ وَمَعْمَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَمُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ وَوَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَبُوهُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ داود الخريبي وَبِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ - صَاحِبُ أَبِي يُوسُفَ - وَأَبُو مُصْعَبٍ الزُّهْرِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سلام وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ مِنْ الْأَئِمَّةِ .