تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)

التحليل الموضوعي

متن:
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ مُفْتِي الْأَنَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تيمية عَنْ قَوْمٍ يَقُولُونَ : كَلَامُ النَّاسِ وَغَيْرِهِمْ قَدِيمٌ - سَوَاءٌ كَانَ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا فُحْشًا أَوْ غَيْرَ فُحْشٍ نَظْمًا أَوْ نَثْرًا - وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِهِمْ فِي الْقِدَمِ إلَّا مِنْ جِهَةِ الثَّوَابِ . وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمْ - بَلْ أَكْثَرُهُمْ - : أَصْوَاتُ الْحَمِيرِ وَالْكِلَابِ كَذَلِكَ وَلَمَّا قُرِئَ عَلَيْهِمْ مَا نُقِلَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد رَدًّا عَلَى قَوْلِهِمْ تَأَوَّلُوا ذَلِكَ وَقَالُوا : بِأَنَّ أَحْمَد إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ خَوْفًا مِنْ النَّاسِ فَهَلْ هَؤُلَاءِ مُصِيبُونَ أَوْ مُخْطِئُونَ ؟ وَهَلْ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى زَجْرُهُمْ عَنْ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَكْفُرُونَ بِالْإِصْرَارِ عَلَى ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ الَّذِي نُقِلَ عَنْ أَحْمَد حُقٌّ كَمَا زَعَمُوا أَمْ لَا فَأَجَابَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
1234567891011121314151617181920212223
فَصْلٌ شُبْهَةُ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ وَجَدُوا النَّاسَ قَدْ تَكَلَّمُوا فِي " حُرُوفِ الْمُعْجَمِ " وَ " أَسْمَاءُ الْمَخْلُوقَاتِ " . فَإِنَّ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ تَكَلَّمُوا فِي حُرُوفِ الْمُعْجَمِ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ وَالْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ وَقَالَ طَوَائِفُ مِنْهُمْ : كَابْنِ حَامِدٍ وَأَبِي نَصْرٍ السجزي وَالْقَاضِي فِي أَشْهَرِ قَوْلَيْهِ وَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِمْ : إنَّهَا مَخْلُوقَةٌ وَقَالُوا : الْحُرُوفُ حَرْفَانِ . وَقَالَ طَوَائِفَ وَهُمْ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ : كَالْقَاضِي يَعْقُوبَ البرزيني وَالشَّرِيفِ أَبِي الْفَضَائِلِ الزَّيْدِيِّ الحراني وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ سمعون وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي الْحُسَيْنِ وَحَكَاهُ عَنْ أَبِيهِ فِي آخِرِ قَوْلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي الْفَرَجِ الْأَنْصَارِيِّ وَالشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ وَابْنِ الزاغوني وَغَيْرِهِمْ : الْحَرْفُ حَرْفٌ وَاحِدٌ وَحُرُوفُ الْمُعْجَمِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ حَيْثُ تَصَرَّفَتْ ; لِأَنَّهَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَحَقِيقَةُ الْحَرْفِ وَاحِدَةٌ لَا تَخْتَلِفُ . وَقَدْ نُقِلَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْإِنْكَارُ عَلَى مَنْ قَالَ : بِخَلْقِ الْحُرُوفِ وَإِنَّهُ لَمَّا حُكِيَ لَهُ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَالَ : لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْحُرُوفَ سَجَدَتْ لَهُ إلَّا الْأَلِفُ فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد : هَذَا كُفْرٌ . وَرُوِيَ إنْكَارُ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ . وَالْأَوَّلُونَ لَا يُنَازِعُونَ فِي هَذَا ; فَإِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْحُرُوفَ مَخْلُوقَةٌ ; فَإِنَّهُ إذَا قَالَ ذَلِكَ دَخَلَ فِيهِ حُرُوفُ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ وَهُمْ يَخُصُّونَ الْكَلَامَ فِي الْحُرُوفِ الْمَوْجُودَةِ فِي كَلَامِ الْمَخْلُوقِ دُونَ الْحُرُوفِ الْمَوْجُودَةِ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ : حَقِيقَةُ الْحُرُوفِ وَالِاسْمِ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ كَلِمَاتٍ مَوْجُودَةٍ فِي الْقُرْآنِ وَقَدْ تَكَلَّمَ بِهَا بَعْضُ الْمَخْلُوقِينَ . فَالْمُتَكَلِّمُ تَارَةً يَقْصِدُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلَامِ غَيْرِهِ وَإِنْ وَافَقَهُ فِي لَفْظِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى إلَّا فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ وَهُوَ مَا دُونُ السُّورَةِ الْقَصِيرَةِ ; فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ تَحَدَّى الْخَلْقَ أَنْ يَأْتُوا بِسُورَةِ مِثْلِهِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَنْ يَفْعَلُوا . قَالَ الْأَوَّلُونَ : فَمُوَافَقَةُ لَفْظُ الْكَلَامِ لِلَفْظِ الْكَلَامِ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا حُكْمُ الْآخَرِ فِي النِّسْبَةِ إلَى الْمُتَكَلِّمِ الْمَخْلُوقِ ; بِحَيْثُ يُنْسَبُ أَحَدُهُمَا إلَى مَنْ يُنْسَبُ إلَيْهِ الْآخَرُ فَكَيْفَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْخَالِقِ ؟ بَلْ { لَمَّا كَتَبَ مُسَيْلِمَةُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مُسَيْلِمَةَ رَسُولِ اللَّهِ إلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ رَدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ } كَانَ اللَّفْظُ بِرَسُولِ اللَّهِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ سَوَاءً : مِنْ أَحَدِهِمَا صِدْقٌ - وَمِنْ أَعْظَمِ الصِّدْقِ - وَمِنْ الْآخَرِ كَذِبٌ - وَمِنْ أَقْبَحِ الْكَذِبِ . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ عَنْ الْكُفَّارِ مَقَالَاتِ سُوءٍ فِي كِتَابِهِ مِثْلَ قَوْلِهِمْ : { اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا } { مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إنْ يَقُولُونَ إلَّا كَذِبًا } وَقَوْلِهِمْ : { عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ } وَ { الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ } وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ الْبَاطِلَةِ وَقَدْ حَكَاهَا اللَّهُ عَنْهُمْ فَإِذَا تَكَلَّمْنَا بِمَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ كُنَّا مُتَكَلِّمِينَ بِكَلَامِ اللَّهِ وَلَوْ حَكَيْنَاهَا عَنْهُمْ ابْتِدَاءً لَكُنَّا قَدْ حَكَيْنَا كَلَامَهُمْ الْكَذِبَ الْمَذْمُومَ . وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ : مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أَوْ دعاه جَاز لَهُ ذَلِكَ مَعَ الْجَنَابَةِ وَإِنْ وَافَقَ لَفْظَ الْقُرْآنِ إذَا لَمْ يَقْصِدْ الْقِرَاءَةَ . وَقَالُوا : لَوْ تَكَلَّمَ بِلَفْظِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ يَقْصِدُ مُجَرَّدَ خِطَابِ الْآدَمِيِّ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ وَالصَّلَاةُ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ وَإِنْ قَصَدَ مَعَ تَنْبِيهِ الْغَيْرِ الْقِرَاءَةَ صَحَّتْ صِلَاتُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَمَا لَوْ لَمْ يَقْصِدْ إلَّا الْقِرَاءَةَ . وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ تَبْطُلُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَة . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَسْأَلَةُ الْفَتْحِ عَلَى الْإِمَامِ وَتَنْبِيهُ الدَّاخِلِ بِآيَةِ مِنْ الْقُرْآنِ وَغَيْرُ ذَلِكَ . وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّاهُ لَيْسَ هُوَ اسْمًا لِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى : هُوَ إنْشَاءٌ وَإِخْبَارٌ وَالْإِنْشَاءُ فِيهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَمْرَ زَيْدٍ لَيْسَ هُوَ أَمْرَ عَمْرٍو وَلَا حُكْمُهُ حُكْمُهُ وَإِنْ اتَّفَقَ اللَّفْظُ وَكَذَلِكَ اخْتِيَارُ زَيْدٍ لَيْسَ هُوَ اخْتِيَارَ عَمْرٍو وَلَا حُكْمُهُ حُكْمُهُ وَإِنْ اتَّفَقَ اللَّفْظُ . فَالْآمِرُ الْمُطَاعُ الْحَكِيمُ إذَا أَمَرَ بِأَمْرِ كَانَ لَهُ حُكْمٌ خِلَافُ مَا إذَا أَمَرَ بِهِ الْجَاهِلُ الْعَاجِزُ وَإِنْ اتَّفَقَ لَفْظُهُمَا وَكَذَلِكَ الشَّاهِدُ الْعَالِمُ الصَّادِقُ إذَا أَخْبَرَ بِخَبَرِ كَانَ حُكْمُهُ خِلَافَ مَا إذَا أَخْبَرَ بِهِ الْجَاهِلُ الْكَاذِبُ وَإِنْ اتَّفَقَ لَفْظُهُمَا . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَنْ أَدْخَلَ فِي كَلَامٍ لَهُ بَعْضَ لَفْظٍ أَدْخَلَهُ غَيْرُهُ فِي كَلَامِهِ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هَذَا اللَّفْظُ مِنْ كَلَامِ ذَلِكَ الْمُتَكَلِّمِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ شَبِيهًا بِالْآخَرِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ كَتَبَ حُرُوفًا تُشْبِهُ حُرُوفَ الْمُصْحَفِ كَتَبَهَا كَلَامًا آخَرَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حُرُوفِ الْمُصْحَفِ . وَقَالَ الْآخَرُونَ مُجَرَّدُ الْمُوَافَقَةِ فِي اللَّفْظِ لَا يُوجِبُ أَنْ يُجْعَلَ حُكْمُ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ حُكْمَ الْآخَرِ لَكِنْ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَصْلًا سَابِقًا إلَى ذَلِكَ الْكَلَامِ وَالْآخَرُ إنَّمَا احْتَذَى فِيهِ حَذْوَهُ وَمِثَالُهُ : كَانَ اللَّفْظُ وَالْكَلَامُ مَنْسُوبًا إلَى الْأَوَّلِ ; بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ لَبِيَدِ : أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ أَوْ بِقَوْلِهِ : وَيَأْتِيك بِالْأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدْ أَوْ بِمَثَلِ مِنْ الْأَمْثَالِ السَّائِرَةِ كَقَوْلِهِ : " عَسَى الْغُوَيْرُ أَبْؤُسًا " وَ " يَدَاك أَوْكَتَا وَفُوك نَفَخَ " وَكُلُّ الصَّيْدِ فِي جَوْفِ الْفَرَا " وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَهَذَا الْكَلَامُ هُوَ تَكَلَّمَ بِهِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ ; لَا عَلَى سَبِيلِ التَّبْلِيغِ عَنْ غَيْرِهِ وَمَعَ هَذَا فَهُوَ مَنْسُوبٌ إلَى قَائِلِهِ الْأَوَّلِ فَهَكَذَا الْحُرُوفُ الْمَوْجُودَةُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَإِنْ أَدْخَلَهَا النَّاسُ فِي كَلَامِهِمْ الَّذِي هُوَ كَلَامُهُمْ فَأَصْلُهَا مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى . قَالَ الْأَوَّلُونَ : هُنَا مَقَامَانِ . ( أَحَدُهُمَا : أَنَّ كُلَّ مَنْ أَنْطَقَهُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الِاسْتِفَادَةِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ أَوْ مِمَّنْ اسْتَفَادَهَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ . وَهَذِهِ الدَّعْوَى الْعَامَّةُ تَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ ; فَإِنَّ تَعْلِيمَ اللَّهِ لِآدَمَ الْأَسْمَاءَ أَوْ إنْزَالَهُ كُتُبَهُ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَنْطِقْ غَيْرُ آدَمَ مِمَّنْ لَمْ يَسْمَعُ الْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ كَمَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَنْطِقُ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ وَالْأَسْمَاءِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَهُ بِلِسَانِهِمْ الَّذِي كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِهِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ . ( الْمَقَامُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ نَطَقَ بِهَا إلَّا مُسْتَفِيدًا لَهَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ ; لَكِنْ إذَا أَنْشَأَ بِهَا كَلَامًا لِنَفْسِهِ وَلَمْ يَقْصِدْ بِهَا قِرَاءَةَ كَلَامِ اللَّهِ لَمْ تَكُنْ فِي هَذِهِ الْحَالِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ كَمَا لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْجُمَلِ الْمُرَكَّبَةِ وَأَوْلَى . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ . قَالَ الْآخَرُونَ - الْقَائِلُونَ بِأَنَّ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ مُطْلَقًا - لَنَا فِي الْأَسْمَاءِ الْمَوْجُودَةِ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ قَوْلَانِ . مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ جَمِيعَ الْأَسْمَاءِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ فِي الْحُرُوفِ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقُولُ ذَلِكَ وَقَدْ حَكَى الْقَوْلَيْنِ ابْنُ حَامِدٍ وَغَيْرُهُ عَمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ فَمَنْ عَمَّمَ ذَلِكَ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا } وَهَذِهِ الْحُجَّةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ . ( إحْدَاهُمَا أَنَّ مَبْدَأَ اللُّغَاتِ تَوْقِيفِيَّةٌ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّوْقِيفِ خِطَابُ اللَّهِ بِهَا لَا تَعْرِيفُهُ بِعِلْمِ ضَرُورِيٍّ وَهَذَا الْمَوْضِعُ قَدْ تَنَازَعَ فِيهِ النَّاسُ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَسَائِر الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْأُصُولِ . فَقَالَ قَوْمٌ : إنَّهَا تَوْقِيفِيَّةٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ وَالشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ المقدسي وَطَوَائِفُ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد ; وَهُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ وَابْنِ فورك وَغَيْرِهِمَا . وَقَالَ قَوْمٌ : بَعْضُهَا تَوْقِيفِيٌّ وَبَعْضُهَا اصْطِلَاحِيٌّ . وَهَذَا قَوْلُ طَوَائِفَ : مِنْهُمْ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ . وَقَالَ قَوْمٌ : يَجُوزُ فِيهَا هَذَا وَهَذَا وَلَا نَجْزِمُ بِشَيْءِ . وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الباقلاني وَغَيْرِهِمَا . وَلَمْ يَقُلْ : إنَّهَا كُلَّهَا اصْطِلَاحِيَّةٌ إلَّا طَوَائِفُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ - وَرَأْسُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ أَبُو هَاشِمٍ ابْنُ الجبائي . وَاَلَّذِينَ قَالُوا إنَّهَا " تَوْقِيفِيَّةٌ " تَنَازَعُوا : هَلْ التَّوْقِيفُ بِالْخِطَابِ أَوْ بِتَعْرِيفِ ضَرُورِيٍّ أَوْ كِلَيْهِمَا ؟ فَمَنْ قَالَ : إنَّهَا تَوْقِيفِيَّةٌ وَإِنَّ التَّوْقِيفَ بِالْخِطَابِ فَإِنَّهُ يَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ : إنَّهَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ ; لِأَنَّهَا كُلَّهَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى ; لَكِنْ نَحْنُ نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ فِي أَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ مَا هُوَ مُرْتَجَلٌ وَضَعَهُ النَّاسُ ابْتِدَاءً فَيَكُونُ التَّرَدُّدُ فِي أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ . وَ " أَيْضًا " فَإِنَّ تَعْلِيمَ اللَّهِ لِآدَمَ بِالْخِطَابِ لَا يُوجِبُ بَقَاءَ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ بِأَلْفَاظِهَا فِي ذُرِّيَّتِهِ ; بَلْ الْمَأْثُورُ أَنَّ أَهْلَ سَفِينَةِ نُوحٍ لَمَّا خَرَجُوا مِنْ السَّفِينَةِ أُعْطِيَ كُلُّ قَوْمٍ لُغَةً وَتَبَلْبَلَتْ أَلْسِنَتُهُمْ . وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا تَجَاذُبٌ وَالنِّزَاعُ فِيهَا بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَسَائِر أَهْلِ السُّنَّةِ يَعُودُ إلَى نِزَاعٍ لَفْظِيٍّ فِيمَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ النِّزَاعُ وَلَيْسَ بَيْنَهُمْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ خِلَافٌ مُحَقَّقٌ مَعْنَوِيٌّ . وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي قَالَ الْحَرْفُ حَرْفٌ وَاحِدٌ وَإِنَّ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ لَيْسَتْ مَخْلُوقَةً ; إنَّمَا مَقْصُودُهُ بِذَلِكَ أَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَأَنَّهَا مُنْتَزَعَةٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَأَنَّهَا مَادَّةُ لَفْظِ كَلَامِ اللَّهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ . فَأَمَّا حَرْفٌ مُجَرَّدٌ فَلَا يُوجَدُ لَا فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي غَيْرِهِ وَلَا يُنْطَقُ بِالْحَرْفِ إلَّا فِي ضِمْنِ مَا يَأْتَلِفُ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ وَحُرُوفِ الْمَعَانِي وَأَمَّا الْحُرُوفُ الَّتِي يُنْطَقُ بِهَا مُفْرَدَةً مِثْلُ : أَلِف لَام مِيم وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذِهِ فِي الْحَقِيقَةِ أَسْمَاءُ الْحُرُوفِ وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ حُرُوفًا بِاسْمِ مُسَمَّاهَا كَمَا يُسَمَّى ضَرَبَ فِعْلٌ مَاضٍ بِاعْتِبَارِ مُسَمَّاهُ ; وَلِهَذَا لَمَّا سَأَلَ الْخَلِيلُ أَصْحَابَهُ كَيْفَ تَنْطِقُونَ بالزاء مِنْ زَيْدٍ ؟ قَالُوا : نَقُولُ " زا " قَالَ : جِئْتُمْ بِالِاسْمِ ; وَإِنَّمَا يُقَالُ " زه " . وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ - الَّتِي هِيَ أَسْمَاءُ الْحُرُوفِ - إلَّا نِصْفُهَا وَهِيَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ حَرْفًا وَهِيَ نِصْفُ أَجْنَاسِ الْحُرُوفِ : نَصِفُ الْمَجْهُورَةِ وَ الْمَهْمُوسَةِ والمستعلية وَالْمُطْبَقَةِ وَالشَّدِيدَةِ وَالرَّخْوَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَجْنَاسِ الْحُرُوفِ . وَهُوَ أَشْرَفُ النِّصْفَيْنِ . وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لَا يُوجَدُ فِي الْقُرْآنِ إلَّا فِي ضِمْنِ الْأَسْمَاءِ أَوْ الْأَفْعَالِ أَوْ حُرُوفِ الْمَعَانِي - الَّتِي لَيْسَتْ بِاسْمِ وَلَا فِعْلٍ . فَلَا يَجُوزُ أَنْ نَعْتَقِدَ أَنَّ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ بِأَسْمَائِهَا جَمِيعِهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْقُرْآنِ ; لَكِنْ نَفْسُ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ الَّتِي هِيَ أَبْعَاضُ الْكَلَامِ مَوْجُودَةٌ فِي الْقُرْآنِ ; بَلْ قَدْ اجْتَمَعَتْ فِي آيَتَيْنِ : " إحْدَاهُمَا " فِي آلِ عِمْرَانَ وَ " الثَّانِيَةِ " فِي سُورَةِ الْفَتْحِ : { ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ } الْآيَةَ وَ { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ } الْآيَةَ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَنْ تَكَلَّمَ بِكَلَامِ آخَرَ مُؤَلَّفٍ مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ فَلَمْ يَنْطِقْ بِنَفْسِ الْحُرُوفِ الَّتِي فِي لَفْظِ الْقُرْآنِ وَإِنَّمَا نَطَقَ بِمِثْلِهَا وَذَلِكَ الَّذِي نَطَقَ بِهِ قَدْ يَكُونُ هُوَ أَخَذَهُ وَإِذَا ابْتَدَأَ مِنْ لَفْظِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ لَا يَكُونُ حَقِيقَةً . قِيلَ : الْحَرْفُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَهُ الْحَقِيقَةُ الْمُطْلَقَةُ الَّتِي لَا تَأْلِيفَ فِيهَا لَا تُوجَدُ لَا فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا فِي كَلَامِ عِبَادِهِ وَإِنَّمَا الْمَوْجُودُ الْحَرْفُ الَّذِي هُوَ جُزْءٌ مِنْ اللَّفْظِ أَوْ اسْمُهُ إذَا لَمْ يُوجَدْ إلَّا حَرْفٌ ; وَلَكِنَّ هَذَا الْمُطْلَقُ ; بَلْ الْأَعْيَانُ الْمَوْجُودَةُ فِي الْخَارِجِ قَائِمَةٌ بِأَنْفُسِهَا كَالْإِنْسَانِ لَا يُوجَدُ مُجَرَّدًا عَنْ الْأَعْيَانِ فِي الْأَعْيَانِ لَا يُوجَدُ مُجَرَّدًا عَنْ الْأَعْيَانِ إلَّا فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ فَكَيْفَ بِالْحَرْفِ الَّذِي لَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ إلَّا مُؤَلَّفًا فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ غَيْرَ مُؤَلَّفٍ مُتَعَدِّدَ الْأَعْيَانِ كَمَا يُوجَدُ الْإِنْسَانُ لَمْ تَكُنْ حَقِيقَتُهُ الْمُطْلَقَةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ مَوْجُودَةً إلَّا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْحُرُوفَ تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا بِاخْتِلَافِ مَعَانِيهَا وَاخْتِلَافِ الْمُتَكَلِّمِ بِهَا وَهَذَا أَوْجَبَ تَعْظِيمَ حُرُوفِ الْقُرْآنِ الْمَنْطُوقَةَ وَالْمَسْطُورَةَ وَكَانَ لَهَا مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مَا امْتَازَتْ بِهِ عَمَّا سِوَاهَا وَاخْتِلَافُ الْأَحْكَامِ إنَّمَا كَانَ لِاخْتِلَافِ صِفَاتِهَا وَأَحْوَالِهَا . فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يُقَالَ مَا قَالَهُ الْأَئِمَّةُ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ : إنَّ كَلَامَ الْإِنْسَانِ كُلَّهُ مَخْلُوقٌ حُرُوفَهُ وَمَعَانِيَهُ وَالْقُرْآنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ حُرُوفَهُ وَمَعَانِيَهُ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { يَقُولُ اللَّهُ : أَنَا الرَّحْمَنُ خَلَقْت الرَّحِمَ وَشَقَقْت لَهَا مِنْ اسْمِي فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْته وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتّهُ } " وَرَوَى الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ { الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَالَ : عَجَبًا لَهُمْ كَيْفَ يَكْفُرُونَ بِهِ وَهُمْ يَتَقَلَّبُونَ فِي نَعْمَائِهِ وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَسْمَائِهِ } . وَذَكَرَ فِي مُعْظَمِ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ أَنَّهَا مَبَانِي أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى وَكُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ مِنْ السَّمَاءِ وَهَذَا مِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ قَالَ : لَيْسَتْ مَخْلُوقَةً وَلَيْسَ بِحُجَّةِ ; فَإِنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ مِنْ كَلَامِهِ وَكَلَامُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمَا اشْتَقَّهُ هُوَ مِنْ أَسْمَائِهِ فَتَكَلَّمَ بِهِ فَكَلَامُهُ بِهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَمَّا إذَا اشْتَقُّوا اسْمًا أَحْدَثُوهُ فَذَلِكَ الِاسْمُ هُمْ أَحْدَثُوهُ وَلَا يَلْزَمُ إذَا كَانَ الْمُشْتَقُّ مِنْهُ غَيْرَ مَخْلُوقٍ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَقُّ كَذَلِكَ . وَمَا يُرْوَى عَنْ الْمَسِيحِ فَلَا يُعْرَفُ ثُبُوتُهُ عَنْهُ وَبِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ فَإِذَا كَانَ قَدْ أَلْهَمَ عِبَادَهُ أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِالْحُرُوفِ الَّتِي هِيَ مَبَانِي أَسْمَائِهِ الَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ مَا أَحْدَثُوهُ هُمْ غَيْرَ مَخْلُوقٍ . وَبِالْجُمْلَةِ فَمَنْ نَظَرَ إلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْحَرْفِ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ مَوْجُودَةٌ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ قَالَ إنَّهَا مَخْلُوقَةٌ إشَارَةً إلَى نَفْسِ حَقِيقَةِ الْحَرْفِ ; لَا إلَى عَيْنِ جُزْءِ اللَّفْظِ الَّذِي بِهِ يَنْطِقُ الْكُفَّارُ وَالْمُشْرِكُونَ ; فَإِنَّ ذَلِكَ الْحَرْفَ الَّذِي هُوَ صَوْتٌ لِمُقَدَّرِ أَوْ تَقْدِيرُ صَوْتِ قَائِمٍ بِالْكَافِرِ وَالْمُشْرِكِ لَا يَقُولُ عَاقِلٌ : إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ ; مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مُضَافًا إلَى اللَّهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ وَإِنَّمَا يُضَافُ إلَى اللَّهِ مَا شَارَكَهُ فِي اسْمِهِ مِمَّا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْمَعْنَى الْمُضَافِ إلَى اللَّهِ . وَهَذَا بِخِلَافِ الْحُرُوفِ الَّتِي فِي كَلَامِ اللَّهِ ; فَإِنَّ تِلْكَ كَلَامُ اللَّهِ كَيْفَ مَا تَصَرَّفَتْ وَنَحْنُ لَمَّا يَسَّرَ اللَّهُ كَلَامَهُ بِأَلْسِنَتِنَا أَمْكَنَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِكَلَامِهِ ; لَكِنْ بِأَدَوَاتِنَا وَأَصْوَاتِنَا ; وَلَيْسَ تَكَلُّمُنَا بِهِ وَسَمْعُهُ مِنَّا كَتَكَلُّمِ اللَّهِ بِهِ وَسَمْعِهِ مِنْهُ كَمَا تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَى هَذَا كَمَا أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فَكَذَلِكَ سَائِر مَا يُضَافُ إلَيْهِ ; وَلَكِنْ لَمَّا أَنْطَقَنَا اللَّهُ بِأَدَوَاتِنَا وَحَرَكَاتِنَا وَأَصْوَاتِنَا صَارَ بَيْنَ بَعْضِ لَفْظِنَا بِهِ وَلَفْظِنَا بِغَيْرِهِ نَوْعٌ مِنْ الشَّبَهِ ; فَإِذَا تَكَلَّمْنَا بِكَلَامِ آخَرَ فَهُوَ يُشْبِهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ لَفْظَنَا وَصَوْتَنَا بِالْقُرْآنِ لَا يُشْبِهُ تَكَلُّمَ اللَّهِ بِهِ وَقِرَاءَتَهُ إيَّاهُ فَإِذَا كَانَ وُجُودُ هَذِهِ الْحُرُوفِ فِي كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ تَكَلُّمِ اللَّهِ بِالْقُرْآنِ وَإِنَّمَا يُشْبِهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ تَكَلُّمَنَا بِهِ مِنْ جِهَةِ مَا يُضَافُ إلَيْنَا لَا مِنْ جِهَةِ مَا يُضَافُ إلَى اللَّهِ امْتَنَعَ حِينَئِذٍ أَنْ يُقَالَ : عَيْنُ الْحَرْفِ الَّذِي هُوَ جُزْءُ لَفْظَةٍ مِنْ الِاسْمِ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ النَّاسُ هُوَ عَيْنُ الْحَرْفِ الَّذِي هُوَ جُزْءُ لَفْظٍ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا يُشْبِهُهُ وَيُقَارِبُهُ فَهُوَ هُوَ بِاعْتِبَارِ النَّوْعِ ; وَلَيْسَ هُوَ إيَّاهُ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ وَالشَّخْصُ خِلَافُ حُرُوفِ كَلَامِ اللَّهِ الْقُرْآنِ ; فَإِنَّهَا كَلَامُ اللَّهِ حَيْثُ تَصَرَّفَتْ وَفِيهَا دِقَّةٌ وَشُبْهَةٌ أَشَرْنَا إلَيْهَا فِي هَذَا الْجَوَابِ وَشَرَحْنَاهَا فِي مَوْضِعِهَا . فَمَنْ قَالَ : إنَّ الْحُرُوفَ حَرْفَانِ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُمَا عَيْنَانِ وَشَخْصَانِ وَهَذَا حَقٌّ . وَمَنْ قَالَ : الْحَرْفُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَرَادَ بِهِ : أَنَّ الْحَقِيقَةَ النَّوْعِيَّةَ وَاحِدَةٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَهَذَا حَقٌّ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ حُرُوفَ الْهِجَاءِ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ فَقَدْ صَدَقَ بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ النَّوْعِيَّةِ . وَمَنْ قَالَ : إنَّهَا مَخْلُوقَةٌ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ الشَّخْصِيَّةِ فَقَدْ صَدَقَ . وَنَظِيرُ هَذَا كَثِيرٌ يُوجَدُ فِي كَلَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَيَكُونُ النِّزَاعُ فِي مَعْنَيَيْنِ مُتَنَوِّعَيْنِ نِزَاعًا لَفْظِيًّا اعْتِبَارِيًّا وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : أَكْثَرُ اخْتِلَافِ الْعُقَلَاءِ مِنْ جِهَةِ اشْتِرَاكِ الْأَسْمَاءِ ; لَكِنْ وُقُوعُ الِاشْتِرَاكِ وَالْإِجْمَالِ يَضِلُّ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ الْخَلْقِ كَمَا يَهْتَدِي بِهِ كَثِيرٌ مِنْ الْخَلْقِ وَهُوَ سَبَبُ ضَلَالِ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالِ الْمَسْئُولِ عَنْهُمْ فَإِنَّ حُجَّتَهُمْ : أَنَّ اللَّهَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا وَعَلَّمَهُ الْبَيَانَ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ " اللُّغَاتِ تَوْقِيفِيَّةٌ " كَقَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ : كَأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبِي مُحَمَّدٍ المقدسي وَهُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ وَابْنِ فورك وَغَيْرِهِمَا . لَكِنَّ " التَّوْقِيفَ " هَلْ الْمُرَادُ بِهِ التَّكْلِيمُ أَوْ التَّعْرِيفُ أَوْ كِلَاهُمَا ؟ هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ . فَاَلَّذِينَ قَالُوا : إنَّهَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ يَقُولُونَ : إنَّهَا " تَوْقِيفِيَّةٌ " وَإِنَّ التَّعْلِيمَ هُوَ بِالْخِطَابِ فَيَكُونُ اللَّهُ قَدْ تَكَلَّمَ بِالْأَسْمَاءِ كُلِّهَا وَكَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ . قَالَ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالُ الضَّالُّونَ : وَكَلَامُ الْآدَمِيِّينَ لَيْسَ إلَّا مَا يَأْتَلِفُ مِنْ الْحُرُوفِ وَالْأَسْمَاءِ وَتِلْكَ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ . فَهَذَا أَيْضًا غَيْرُ مَخْلُوقٍ . فَبَنَوْا قَوْلَهُمْ عَلَى أَنَّ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَأَنَّ الْأَسْمَاءَ الْمُؤَلَّفَةَ مِنْ الْحُرُوفِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَاعْتَقَدُوا مَعَ ذَلِكَ أَنَّ كَلَامَ الْآدَمِيِّينَ لَيْسَ إلَّا مَا يَأْتَلِفُ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالْحُرُوفِ وَتِلْكَ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ فَقَالُوا : كَلَامُ الْآدَمِيِّينَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ ; لِأَنَّ مُفْرَدَاتِهِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ . وَإِذَا ضُويِقُوا . فَقَدْ يَقُولُونَ النَّظْمُ وَالتَّأْلِيفُ مَخْلُوقٌ وَأَمَّا نَفْسُ الْمَنْظُومِ الْمُؤَلَّفِ فَهُوَ قَدِيمٌ ثُمَّ يَحْسَبُونَ أَنَّ الْمَوَادَّ الْمَنْظُومَةَ الْمُؤَلَّفَةَ هِيَ أَدْخَلُ فِي الْكَلَامِ مِنْ نَفْسِ التَّأْلِيفِ وَالنَّظْمِ كَمَا أَنَّ أَجْزَاءَ الْبَيْتِ هِيَ أَدْخَلُ فِي مُسَمَّاهُ مِنْ تَأْلِيفِهِ وَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ اسْمًا لِلْأَجْزَاءِ وَلِتَأْلِيفِهَا . وَرُبَّمَا طَرَدَ بَعْضُهُمْ هَذِهِ " الْمَقَالَةِ " فِي سَائِر أَصْوَاتِ الْآدَمِيِّينَ . وَلَمَّا أَلْزَمُهُمْ مَنْ خَاطَبَهُمْ بِأَصْوَاتِ الْعِبَادِ ; الَّتِي لَيْسَتْ بِكَلَامِ طَرَدَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ فِي الْأَصْوَاتِ ثُمَّ طَرَدَ ذَلِكَ فِي أَصْوَاتِ الْبَهَائِمِ : مِنْ الْحَمِيرِ وَغَيْرِهَا وَيَلْزَمُهُمْ طَرْدُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَصْوَاتِ حَتَّى أَصْوَاتُ الْعِيدَانِ وَالْمَزَامِيرِ ; إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَصْوَاتِ الْبَهَائِمِ . وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَهَالَةَ إذَا انْتَهَتْ إلَى هَذَا الْحَدِّ صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْوَتَدَ وَالْحَائِطَ وَالْعَجَلَ الَّذِي يُعْمَلُ مِنْهُ الْجِلْدُ كَلَامُ اللَّهِ أَوْ يَقُولُ : إنَّ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ كَانَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ الْكِبَارِ أَوْ يَقُولُ : إنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ عَلَى جَمَلٍ أَوْرَقَ يُعَانِقُ الْمُشَاةَ وَيُصَافِحُ الرُّكْبَانَ أَوْ يَقُولُ : إنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ لَيْسَا مَدْفُونَيْنِ بِالْحُجْرَةِ أَوْ أَنَّهُمَا فِرْعَوْنُ وَهَامَانُ وَأَنَّهُمَا كَانَا كَافِرَيْنِ عَدُوَّيْنِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ أَبِي جَهْلٍ وَأَبِي لَهَبٍ أَوْ يَقُولُ : إنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ هُوَ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَوْ يَقُولُ : إنَّ الَّذِي صَفَعَتْهُ الْيَهُودُ وَصَلَبَتْهُ وَوَضَعَتْ الشَّوْكَ عَلَى رَأْسِهِ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَإِنَّ الْيَدَيْنِ الْمُسَمَّرَتَيْنِ هُمَا اللَّتَانِ خَلَقَتَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَوْ يَقُولُ : إنَّ اللَّهَ قَعَدَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ يَبْكِي وَيَنُوحُ حَتَّى جَاءَ بَعْضُ مَشَايِخِ الْيَهُودِ فَبَرَكَ عَلَيْهِ أَوْ أَنَّهُ بَكَى حَتَّى رَمَدَتْ عَيْنَاهُ وَعَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَأَنَّهُ نَدِمَ عَلَى الطُّوفَانِ وَعَضَّ يَدَيْهِ مِنْ النَّدَمِ حَتَّى جَرَى الدَّمُ أَوْ يَقُولُ : إنَّ الشَّيْخَ فُلَانًا وَالشَّيْخَ فُلَانًا يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ وَكُلُّ رِزْقٍ لَا يَرْزُقُنِيهِ مَا أُرِيدُهُ أَوْ يَقُولُ إنَّ عَلِيًّا هُوَ الَّذِي كَانَ يُعَلِّمُ الْقُرْآنَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ يَقُولُ : إنَّ صَانِعَ الْعَالَمِ لَمَّا صَنَعَهُ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الطَّبِيعَةُ حَتَّى أَهَلَكَ نَفْسَهُ أَوْ يَقُولُ : إنَّ وُجُودَهُ وَوُجُودَ هَذَا وَهَذَا هُوَ عَيْنُ وُجُودِ الْحَقِّ وَإِنَّ اللَّهَ هُوَ عَيْنُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَأَنَّ كُلَّ صَوْتٍ وَنُطْقٍ فِي الْعَالَمِ فَهُوَ صَوْتُهُ وَكَلَامُهُ وَكُلَّ حَرَكَةٍ فِي الْعَالَمِ وَسُكُونٍ فَهُوَ حَرَكَتُهُ وَسُكُونُهُ وَإِنَّ الْحَقَّ الْمُنَزَّهَ هُوَ الْخَلْقُ الْمُشَبَّهُ وَإِنَّهُ لَوْ زَالَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ لَزَالَتْ حَقِيقَةُ اللَّهِ وَإِنَّهُ مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُ لَا اسْمَ لَهُ وَلَا صِفَةَ وَإِنَّهُ لَا وُجُودَ لَهُ إلَّا فِي الْأَعْيَانِ الْمُمْكِنَاتِ وَإِنَّهُ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ السَّارِي فِي الْمَخْلُوقَاتِ : الَّذِي لَا يَتَمَيَّزُ وَلَا يَنْفَصِلُ عَنْ الْمَخْلُوقَاتِ . إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ الَّتِي يَقُولُهَا الْغُلَاة مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَالْكِتَابِيِّينَ . وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ مِنْ غَالِيَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ . فَإِنَّ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ - وَإِنْ كَانُوا أَصْلَحَ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ أَشْبَاهِهِمْ فَالسُّنَّةُ فِي الْإِسْلَامِ كَالْإِسْلَامِ فِي الْمَلَلِ كَمَا أَنَّهُ يُوجَدُ فِي الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ مَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِمْ وَإِنْ كَانَ كُلُّ خَيْرٍ فِي غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ فِي الْمُسْلِمِينَ أَكْثَرُ وَكُلُّ شَرٍّ فِي الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ فِي غَيْرِهِمْ أَكْثَرُ فَكَذَلِكَ الْمُنْتَسِبَةُ إلَى السُّنَّةِ - قَدْ يُوجَدُ فِيهِمْ مَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِمْ وَإِنْ كَانَ كُلُّ خَيْرٍ فِي غَيْرِ أَهْلِ السُّنَّةِ فَهُوَ فِيهِمْ أَكْثَرُ وَكُلُّ شَرٍّ فِيهِمْ فَهُوَ فِي غَيْرِهِمْ أَكْثَرُ ; إذْ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لِتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ : حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ . قَالُوا : الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ؟ قَالَ : فَمَنْ } ؟ " وَقَالَ : " { لَتَأْخُذُنَّ مَآخِذَ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ : شِبْرًا بِشِبْرِ وَذِرَاعًا بِذِرَاعِ قَالُوا : فَارِسُ وَالرُّومُ ؟ قَالَ : وَمَنْ النَّاسُ إلَّا هَؤُلَاءِ } " . وَإِزَالَةُ شُبْهَةِ هَؤُلَاءِ تَحْتَاجُ إلَى الْكَلَامِ فِي " الْحُرُوفِ وَالْأَسْمَاءِ " هَلْ هِيَ مَخْلُوقَةٌ أَمْ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَإِنْ كُنَّا قَدْ أَشَرْنَا إلَى ذَلِكَ ; بَلْ نَتَكَلَّمُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَنَقُولُ مَعَ هَذَا : يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّ كَلَامَ الْآدَمِيِّينَ مَخْلُوقٌ وَيُطْلَقُ الْقَوْلُ بِذَلِكَ إطْلَاقًا لَا يَحْتَاجُ إلَى تَفْصِيلٍ : بِأَنْ يُقَالَ نَظْمُهُ وَتَأْلِيفُهُ مَخْلُوقٌ وَحُرُوفُهُ وَأَسْمَاؤُهُ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ أَوْ تَرْكِيبُهُ مَخْلُوقٌ وَمُفْرَدَاتُهُ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ فَإِنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ . وَذَلِكَ لِأَنَّ كَلَامَ الْمُتَكَلِّمِ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ أَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ لَيْسَ الْكَلَامُ اسْمًا لِمُجَرَّدِ الْأَلْفَاظِ وَلَا لِمُجَرَّدِ الْمَعَانِي . وَعَامَّةُ مَا يُوجَدُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ ; بَلْ وَسَائِر الْأُمَمِ عَرِبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ مَنْ لَفْظَا الْكَلَامِ وَالْقَوْلِ وَهَذَا كَلَامُ فُلَانٍ أَوْ كَلَامُ فُلَانٍ ; فَإِنَّهُ عِنْدَ إطْلَاقِهِ يَتَنَاوَلُ اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا لِشُمُولِهِ لَهُمَا ; لَيْسَ حَقِيقَةً فِي اللَّفْظِ فَقَطْ كَمَا يَقُولُهُ قَوْمٌ ; وَلَا فِي الْمَعْنَى فَقَطْ كَمَا يَقُولُهُ قَوْمٌ . وَلَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا كَمَا يَقُولُهُ قَوْمٌ . وَلَا مُشْتَرَكٌ فِي كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ وَحَقِيقَةٌ فِي الْمَعْنَى فِي كَلَامِ اللَّهِ كَمَا يَقُولُهُ قَوْمٌ . وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ } " { وَقَوْلُ مُعَاذٍ لَهُ : وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ ؟ فَقَالَ : ثَكِلَتْك أُمُّك يَا مُعَاذُ ; وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ } " وَقَوْلُهُ : " { كَلِمَتَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ حَبِيبَتَانِ إلَى الرَّحْمَنِ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ } " وَقَوْلُهُ : " { إنَّ أَصْدَقَ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ : كَلِمَةُ لَبِيَدٍ : أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ } وَقَوْلُهُ : " { إنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَا يَقُولُهَا أَحَدٌ عِنْدَ الْمَوْتِ إلَّا وَجَدَ رُوحَهُ لَهَا رَوْحًا . فَمَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ } " وَمَا فِي الْقُرْآنِ : مِثْلُ قَوْلِهِ : { إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } وَقَوْلُهُ : { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ أَسْمَاءِ الْقَوْلِ وَالْكَلَامِ جَمِيعًا وَنَحْوُهُمَا فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمُتَكَلِّمُ بِالْكَلَامِ الْمُبْتَدِئِ لَهُ سَوَاءً كَانَ نَظْمًا أَوْ نَثْرًا لَا رَيْبَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَلَّفَ مَعَانِيَهُ وَأَلَّفَ أَلْفَاظَهُ ; وَأَمَّا مُفْرَدَاتُ " الْأَسْمَاءِ وَالْحُرُوفِ " فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ تَعَلَّمَهَا مِنْ غَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَخْلُوقَةً أَوْ غَيْرَ مَخْلُوقَةٍ ; فَإِنَّ " اللُّغَاتِ " سَابِقَةٌ لِكَلَامِ عَامَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَنُطْقِ النَّاطِقِينَ مِنْ الْبَشَرِ وَهُمْ تَلَقَّوْا الْأَسْمَاءَ وَحُرُوفَ الْأَسْمَاءِ الْمَوْجُودَةِ فِي لُغَاتِهِمْ عَمَّنْ قَبْلَهُمْ إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْأَمْرُ إلَى أَوَّلِ مُتَكَلِّمٍ بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ الْمُفْرَدَةِ . ثُمَّ أَنَّهُ مِمَّا عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْأَرْضِ جَمِيعُهُمْ : أَنَّ الْكَلَامَ هُوَ كَلَامُ مَنْ أَلَّفَ مَعَانِيَهُ وَأَلْفَاظَهُ وَإِنْ كَانَ جَمِيعُ مَا فِيهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالْحُرُوفِ إنَّمَا تَعَلَّمَهَا مِنْ غَيْرِهِ فَالنَّاسُ مُطْبِقُونَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْقَصَائِدَ كَلَامُ مُنْشِئِيهَا : مِثْلُ شَعْرِ امْرِئِ الْقَيْسِ وَالنَّابِغَةِ الذبياني : كَقَوْلِهِ : قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلٍ فَجَمِيعُ الْأُمَمِ يَعْلَمُونَ وَيَقُولُونَ إنَّ هَذَا شِعْرُ امْرِئِ الْقَيْسِ وَكَلَامُهُ وَإِنْ كَانَتْ الْأَسْمَاءُ الْمُفْرَدَةُ فِيهِ إنَّمَا تَعَلَّمَهَا مِنْ غَيْرِهِ ; فَإِنَّ الْعَرَبَ نَطَقَتْ قَبْلَهُ بِلَفْظِ " قِفَا " وَبِلَفْظِ " نَبْكِ " وَبِلَفْظِ " مِنْ ذِكْرَى " " حَبِيبٍ " " وَمَنْزِلٍ " وَجَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ إذَا سَمِعُوا قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى } " أَوْ " { ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ : مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ } " وَقَوْلُهُ : " { مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ } " قَالُوا : هَذَا كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا حَدِيثُهُ وَهَذَا قَوْلُهُ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّ جَمِيعَ مُفْرَدَاتِ هَذَا الْكَلَامِ قَدْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَبْلَهُ : مِثْلُ لَفْظِ " إنَّمَا " وَلَفْظِ " الْأَعْمَالُ " وَلَفْظِ " النِّيَّةِ " وَ " النِّيَّاتِ " وَلَفْظِ " كُلُّ امْرِئِ " وَلَفْظِ " مَا نَوَى " وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَهَكَذَا كَلَامُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَكَلَامُ مُصَنِّفِي الْكُتُبِ وَالرَّسَائِلِ وَالْخُطَبِ كُلُّهُمْ يَقُولُ : هَذِهِ الرِّسَالَةُ كَلَامُ فُلَانٍ وَهَذِهِ الْخُطْبَةُ كَلَامُ فُلَانٍ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ كَلَامِ فُلَانٍ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ مَسْبُوقٌ بِمُفْرَدَاتِ الْكَلَامِ : أَسْمَائِهِ وَحُرُوفِ هِجَائِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَمْ يَكُنْ كَلَامًا بِاعْتِبَارِ الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ وَلَا بِاعْتِبَارِ أَجْزَائِهَا - وَهِيَ حُرُوفُ الْهِجَاءِ - وَلَا كَانَ الْمَقْصُودُ بِوَضْعِ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَى الدَّلَالَةَ عَلَى الْمَعَانِي الْمُفْرَدَةِ فَإِنَّ الْمَعَانِيَ الْمُفْرَدَةَ لَا يُعْلَمُ وَضْعُ اللَّفْظِ لَهَا إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهَا فَلَوْ كَانَ الْعِلْمُ بِهَا لَا يُسْتَفَادُ إلَّا مِنْ اللَّفْظِ لَزِمَ الدَّوْرُ . وَلِهَذَا يَقُولُ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ - وَهُمْ أَخْبَرُ بِمُشَبَّهَاتِ الْأَلْفَاظِ مِنْ غَيْرِهِمْ - : إنَّ اسْمَ الْكَلَامِ لَا يُقَالُ إلَّا عَلَى الْجُمْلَةِ الْمُفِيدَةِ كَالْمُرَكَّبَةِ مِنْ اسْمَيْنِ أَوْ اسْمٍ وَفِعْلٍ . وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ " سِيبَوَيْهِ حَكِيمُ لِسَانِ الْعَرَبِ فِي ( بَابِ الْحِكَايَةِ بِالْقَوْلِ حَيْثُ ذَكَرَ أَنَّ الْقَوْلَ يُحْكَى بِهِ مَا كَانَ كَلَامًا وَلَا يُحْكَى بِهِ مَا كَانَ قَوْلًا وَالْقَوْلُ إنَّمَا تُحْكَى بِهِ الْجُمَلُ الْمُفِيدَةُ . فَعُلِمَ أَنَّهَا هِيَ الْكَلَامُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ . وَحَيْثُ أَطْلَقَ الْفُقَهَاءُ اسْمَ " الْكَلَامِ " عَلَى حَرْفَيْنِ فَصَاعِدًا فِي ( بَابِ الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا غَرَضُهُمْ مَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ سَوَاءً كَانَ مُفِيدًا أَوْ غَيْرَ مُفِيدٍ وَمَوْضُوعًا أَوْ مُهْمَلًا حَتَّى لَوْ صَوَّتَ تَصْوِيتًا طَوِيلًا وَلَحَّنَ لُحُونَ الْغِنَاءِ أَبْطَلَ الصَّلَاةَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي اللُّغَةِ كَلَامًا . وَهُمْ فِيمَا إذَا حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ أَوْ لَيَتَكَلَّمَن لَا يُعَلِّقُونَ الْبِرَّ وَالْحِنْثَ إلَّا بِمَا هُوَ فِي عُرْفِ الْحَالِفِ كَلَامٌ وَإِنْ كَانَ أَخَصَّ مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ وَأَطْلَقَ يَمِينَهُ حَنِثَ بِكَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ وَهَلْ يَحْنَثُ بِتَكَلُّمِهِ بِالْقُرْآنِ ؟ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ : لَا يَحْنَثُ بِحَالِ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا يَحْنَثُ بِتِلَاوَتِهِ فِي الصَّلَاةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَقَّفَ ; لِأَنَّ الْيَمِينَ مَرْجِعُهَا إلَى عُرْفِ الْحَالِفِ فَعُمُومُ اسْمِ الْكَلَامِ وَخُصُوصُهُ عِنْدَهُمْ بِحَسَبِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ . وَالسَّلَفُ إذَا ذَمُّوا أَهْلَ الْكَلَامِ وَقَالُوا : عُلَمَاءُ الْكَلَامِ زَنَادِقَةٌ وَمَا ارْتَدَى أَحَدٌ بِالْكَلَامِ فَأَفْلَحَ فَلَمْ يُرِيدُوا بِهِ مُطْلَقَ الْكَلَامِ وَإِنَّمَا هُوَ حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ فِيمَنْ يَتَكَلَّمُ فِي الدِّينِ بِغَيْرِ طَرِيقَةِ الْمُرْسَلِينَ . وَالْخَائِضُونَ فِي " أُصُولِ الْفِقْهِ " وَإِنْ قَالُوا : إنَّ الْكَلَامَ مَا تَأَلَّفَ مِنْ حَرْفَيْنِ فَصَاعِدًا أَوْ مَا انْتَظَمَ مِنْ " الْحُرُوفِ " وَهِيَ الْأَصْوَاتُ الْمُقَطَّعَةُ الْمُتَوَاضِعُ عَلَيْهَا . وَتَنَازَعُوا فِي الْحَرْفِ الْوَاحِدِ الْمُؤَلَّفِ مَعَ غَيْرِهِ هَلْ يُسَمَّى كَلَامًا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ; كَمَا قَالَ أَكْثَرُ مُتَكَلِّمِيهِمْ : إنَّ الْجِسْمَ هُوَ الْمُؤَلَّفُ وَأَقَلُّ التَّرْكِيبِ مَنْ جَوْهَرَيْنِ وَتَنَازَعُوا فِي الْجَوْهَرِ الْوَاحِدِ الْمُؤَلَّفِ هَلْ يُسَمَّى جِسْمًا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ;