سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ مُفْتِي الْأَنَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تيمية عَنْ قَوْمٍ يَقُولُونَ : كَلَامُ النَّاسِ وَغَيْرِهِمْ قَدِيمٌ - سَوَاءٌ كَانَ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا فُحْشًا أَوْ غَيْرَ فُحْشٍ نَظْمًا أَوْ نَثْرًا - وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِهِمْ فِي الْقِدَمِ إلَّا مِنْ جِهَةِ الثَّوَابِ . وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمْ - بَلْ أَكْثَرُهُمْ - : أَصْوَاتُ الْحَمِيرِ وَالْكِلَابِ كَذَلِكَ وَلَمَّا قُرِئَ عَلَيْهِمْ مَا نُقِلَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد رَدًّا عَلَى قَوْلِهِمْ تَأَوَّلُوا ذَلِكَ وَقَالُوا : بِأَنَّ أَحْمَد إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ خَوْفًا مِنْ النَّاسِ فَهَلْ هَؤُلَاءِ مُصِيبُونَ أَوْ مُخْطِئُونَ ؟ وَهَلْ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى زَجْرُهُمْ عَنْ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَكْفُرُونَ بِالْإِصْرَارِ عَلَى ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ الَّذِي نُقِلَ عَنْ أَحْمَد حُقٌّ كَمَا زَعَمُوا أَمْ لَا فَأَجَابَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
فَصْلٌ وَأَمَّا نُصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَد عَلَى " خَلْقِ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ " وَ " خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ " فَمَوْجُودَةٌ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ سَائِر الْأَئِمَّةِ . وَلَيْسَ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ ; وَلِهَذَا قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ شَيْخُ الْإِمَامِ أَحْمَد : مَا زِلْت أَسْمَعُ أَصْحَابَنَا يَقُولُونَ : أَفْعَالُ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ وَقَدْ سُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَد عَنْ أَفَاعِيلِ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ هِيَ ؟ فَقَالَ نَعَمْ . وَنَصَّ عَلَى كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَد بْنِ الْحَسَنِ التِّرْمِذِيِّ كَمَا سَيَأْتِي وَفِيمَا خَرَّجَهُ عَلَى " الزَّنَادِقَةِ والجهمية " وَهُوَ مَرْوِيٌّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ ( وِجَادَةً وَقَدْ ذَكَرَهُ الْخَلَّالُ أَيْضًا فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ " وَنَقَلَ مِنْهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ وَقَدْ حَكَى إجْمَاعَ الْخَلْقِ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَبُو نَصْرٍ السجزي فِي " الْإِبَانَةِ " وَهُوَ مَنْ أَشَدِّ النَّاسِ إنْكَارًا عَلَى مَنْ يَقُولُ : إنَّ أَلْفَاظَ الْعِبَادِ بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ أَوْ يَقُولُ : إنَّ الْمَسْمُوعَ مِنْ الْقَارِئِ لَيْسَ هُوَ الْقُرْآنَ . قَالَ أَبُو نَصْرٍ : وَأَمَّا نِسْبَةُ الْأَصْوَاتِ إلَى الْقُرَّاءِ - فِيمَا ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْبَابِ وَفِي غَيْرِهِ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا - وَنِسْبَةُ الْقِرَاءَةِ إلَيْهِمْ وَإِنْ فَرِحَ بِهَا الزَّائِغُونَ فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهَا ; وَذَلِكَ أَنَّا لَمْ نَخْتَلِفْ فِي إضَافَةِ الصَّوْتِ إلَى الْإِنْسَانِ وَأَنَّهُ إذَا صَاحَ أَوْ تَكَلَّمَ بِكَلَامِ النَّاسِ أَوْ نَادَى إنْسَانًا فَصَوْتُهُ مَخْلُوقٌ . قَالَ : وَهَذَا لَا يَشْتَبِهُ : وَإِنَّمَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي أَنَّ الْمُسْتَمِعَ مِنْ قَارِئِ الْقُرْآنِ مَاذَا يَسْتَمِعُ ؟ وَسَاقَ الْكَلَامَ إلَى آخِرِهِ . وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ " الْإِجْمَاعَ " أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ . فَصْلٌ وَإِنَّمَا نَبَّهْت عَلَى أَصْلِ مَقَالَةِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَسَائِر أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ فِي " مَسْأَلَةِ تِلَاوَتِنَا لِلْقُرْآنِ " لِأَنَّهَا أَصْلُ مَا وَقَعَ مِنْ الِاضْطِرَابِ وَالتَّنَازُعِ فِي هَذَا الْبَابِ مِثْلُ " مَسْأَلَةِ الْإِيمَانِ " هَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ ؟ وَ " مَسْأَلَةِ نُورِ الْإِيمَانِ " وَ " الْهُدَى " وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَكْثُرُ تَنَازُعُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ فِيهَا وَيَتَمَسَّكُ كُلُّ فَرِيقٍ بِبَعْضِ مِنْ الْحَقِّ فَيَصِيرُونَ بِمَنْزِلَةِ الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ مُخْتَلِفِينَ فِي الْكِتَابِ كُلٌّ مِنْهُمْ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يُؤْمِنُ بِبَعْضِ وَيَكْفُرُ بِبَعْضِ وَهُمْ عَامَّتُهُمْ فِي جَهْلٍ وَظُلْمٍ : جَهْلٍ بِحَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَالْحَقِّ وَظُلْمِ الْخَلْقِ وَيَقَعُ بِسَبَبِهَا بَيْنَ الْأُمَّةِ مِنْ التَّكْفِيرِ وَالتَّلَاعُنِ مَا يَفْرَحُ بِهِ الشَّيْطَانُ وَيَغْضَبُ لَهُ الرَّحْمَنُ وَيَدْخُلُ بِهِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِيمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنْ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ وَيَخْرُجُ عَمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الِاجْتِمَاعِ والائتلاف . وَأَصْلُ ذَلِكَ الْقُرْبُ وَالِاتِّصَالُ الْحَاصِلُ بَيْنَ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ مِنْ صِفَاتِهِ وَبَيْنَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَصِفَاتِهِمْ ; فَلِعُسْرِ الْفَرْقِ وَالتَّمْيِيزِ يَمِيلُ قَوْمٌ إلَى زِيَادَةٍ فِي الْإِثْبَاتِ . وَآخَرُونَ إلَى زِيَادَةٍ فِي النَّفْيِ ; وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَد وَالْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ : النَّهْيُ عَنْ الْإِثْبَاتِ الْعَامِّ وَالنَّفْيِ الْعَامِّ ; بَلْ إمَّا الْإِمْسَاكُ عَنْهُمَا - وَهُوَ الْأَصْلَحُ لِلْعُمُومِ وَهُوَ جُمَلُ الِاعْتِقَادِ . وَأَمَّا التَّفْصِيلُ الْمُحَقَّقُ فَهُوَ لِذِي الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ لِعُمُومِ أَهْلِ الْإِيمَانِ . وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَهَا أَصْلَانِ . ( أَحَدُهُمَا أَنَّ " أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ " وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهَا الْأَئِمَّةُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ وَسَائِر أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الْمُخَالِفِينَ لِلْقَدَرِيَّةِ وَاتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مُحْدَثَةٌ . وَ ( الْأَصْلُ الثَّانِي مَسْأَلَةُ " تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَقِرَاءَتُهُ وَاللَّفْظُ بِهِ " هَلْ يُقَالُ إنَّهُ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ ؟ وَالْإِمَامُ أَحْمَد قَدْ نَصَّ عَلَى رَدِّ الْمُقَالَتَيْنِ هُوَ وَسَائِر أَئِمَّةِ السُّنَّةِ مِنْ الْمُسْتَقْدِمِينَ وَالْمُسْتَأْخِرِين ; لَكِنْ كَانَ رَدُّهُ عَلَى " اللَّفْظِيَّةِ النَّافِيَةِ " أَكْثَرَ وَأَشْهَرَ وَأَغْلَظَ لِوَجْهَيْنِ . ( أَحَدُهُمَا أَنَّ قَوْلَهُمْ يُفْضِي إلَى زِيَادَةِ التَّعْطِيلِ وَالنَّفْيِ وَجَانِبُ النَّفْيِ - أَبَدًا - شَرٌّ مِنْ جَانِبِ الْإِثْبَاتِ ; فَإِنَّ الرُّسُلَ جَاءُوا بِالْإِثْبَاتِ الْمُفَصَّلِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ وَبِالنَّفْيِ الْمُجْمَلِ : فَوَصَفُوهُ بِالْعِلْمِ وَالرَّحْمَةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ وَالْكَلَامِ وَالْعُلُوِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ وَفِي النَّفْيِ : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } . وَأَمَّا الْخَارِجُونَ عَنْ حَقِيقَةِ الرِّسَالَةِ : مِنْ الصَّابِئَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ وَالْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ وَمَنْ تَجَهَّمَ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ فَطَرِيقَتُهُمْ " النَّفْيُ الْمُفَصَّلُ " لَيْسَ كَذَا لَيْسَ كَذَا وَفِي الْإِثْبَاتُ أَمْرٌ مُجْمَلٌ وَلِهَذَا يُقَالُ : الْمُعَطِّلُ أَعْمَى وَالْمُشَبِّهُ أَعْشَى . فَأَهْلُ التَّشْبِيهِ مَعَ ضَلَالِهِمْ خَيْرٌ مِنْ أَهْلِ التَّعْطِيلِ . ( الْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ أَحْمَد إنَّمَا اُبْتُلِيَ بالجهمية الْمُعَطِّلَةِ فَهُمْ خُصُومُهُ فَكَانَ هَمُّهُ مُنْصَرِفًا إلَى رَدِّ مَقَالَاتِهِمْ ; دُونَ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ ; فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَالْمَكَانِ مَنْ هُوَ دَاعٍ إلَى زِيَادَةٍ فِي الْإِثْبَاتِ ; كَمَا ظَهَرَ مَنْ كَانَ يَدْعُو إلَى زِيَادَةٍ فِي النَّفْيِ . وَالْإِنْكَارُ يَقَعُ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ وَالْبُخَارِيُّ لَمَّا اُبْتُلِيَ " بِاللَّفْظِيَّةِ الْمُثْبِتَةِ " ظَهَرَ إنْكَارُهُ عَلَيْهِمْ كَمَا فِي تَرَاجِمِ آخِرِ " كِتَابِ الصَّحِيحِ " وَكَمَا فِي " كِتَابِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ " مَعَ أَنَّهُ كَذَّبَ مَنْ نَقَلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ وَأَظُنُّهُ حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْبَارُّ . فَصْلٌ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد عَلَى نَفْسِ هَذِهِ " الْمَسْأَلَةِ " فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَرَوَى أَبُو الْقَاسِمِ اللالكائي فِي " أُصُولِ السُّنَّةِ " قَالَ : أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عُثْمَانَ قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ ; حَدَّثَنَا أَحْمَد بْنُ الْحَسَنِ التِّرْمِذِيُّ قَالَ : قُلْت لَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ : إنَّ النَّاسَ قَدْ وَقَعُوا فِي الْقُرْآنِ فَكَيْفَ أَقُولُ ؟ فَقَالَ أَلَيْسَ أَنْتَ مَخْلُوقًا ؟ قُلْت : نَعَمْ قَالَ : فَكَلَامُك مِنْك مَخْلُوقٌ ؟ قُلْت : نَعَمْ قَالَ : أَفَلَيِسَ الْقُرْآنُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ ؟ قُلْت : نَعَمْ قَالَ : وَكَلَامُ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ ؟ قُلْت : نَعَمْ قَالَ : فَيَكُونُ مِنْ اللَّهِ شَيْءٌ مَخْلُوقٌ . بَيَّنَ أَحْمَد لِلسَّائِلِ : أَنَّ الْكَلَامَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ وَقَائِمٌ بِهِ ; لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ غَيْرَ مُتَّصِلٍ بِالْمُتَكَلِّمِ وَلَا قَائِمٍ بِهِ ; بِدَلِيلِ أَنَّ كَلَامَك أَيُّهَا الْمَخْلُوقُ مِنْك ; لَا مِنْ غَيْرِك فَإِذَا كُنْت أَنْتَ مَخْلُوقًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَلَامُك أَيْضًا مَخْلُوقًا وَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى غَيْرَ مَخْلُوقٍ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مَا هُوَ مِنْهُ وَبِهِ مَخْلُوقًا . وَقَصْدُهُ بِذَلِكَ الرَّدُّ عَلَى " الجهمية " الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَيْسَ مِنْ اللَّهِ وَلَا مُتَّصِلٌ بِهِ . فَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَيْسَ هُوَ مَعْنَى كَوْنِ الْمُتَكَلِّمِ مُتَكَلِّمًا وَلَا هُوَ حَقِيقَةُ ذَلِكَ وَلَا هُوَ مُرَادُ الرُّسُلِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْإِخْبَارِ عَنْ أَنَّ اللَّهَ قَالَ وَيَقُولُ وَتَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ وَنَادَى وَنَاجَى وَدَعَا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا أَخْبَرَتْ بِهِ عَنْ اللَّهِ رُسُلُهُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ بِهِ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ ; وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي } وَقَالَ : { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } . وَلَيْسَ الْقُرْآنُ عَيْنًا مِنْ الْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهَا حَتَّى يُقَالَ : هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } وَإِنَّمَا هُوَ صِفَةٌ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْغَضَبِ وَالْإِرَادَةِ وَالنَّظَرِ وَالسَّمْعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ; وَذَلِكَ لَا يَقُومُ إلَّا بِمَوْصُوفِ وَكُلُّ مَعْنًى لَهُ اسْمٌ وَهُوَ قَائِمٌ بِمَحَلِّ وَجَبَ أَنْ يُشْتَقَّ لِمَحَلِّهِ مِنْهُ اسْمٌ وَأَنْ لَا يُشْتَقَّ لِغَيْرِ مَحَلِّهِ مِنْهُ اسْمٌ . فَكَمَا أَنَّ الْحَيَاةَ وَالْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ إذَا قَامَ بِمَوْصُوفِ وَجَبَ أَنْ يُشْتَقَّ لَهُ مِنْهُ اسْمُ الْحَيِّ وَالْعَالَمِ وَالْقَادِرِ ; وَلَا يُشْتَقُّ الْحَيُّ وَالْعَالَمُ وَالْقَادِرُ لِغَيْرِ مَنْ قَامَ بِهِ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ فَكَذَلِكَ الْقَوْلُ وَالْكَلَامُ وَالْحُبُّ وَالْبُغْضُ وَالرِّضَا وَالرَّحْمَةُ وَالْغَضَبُ وَالْإِرَادَةُ وَالْمَشِيئَةُ إذَا قَامَ بِمَحَلِّ وَجَبَ أَنْ يُشْتَقَّ لِذَلِكَ الْمَوْصُوفِ مِنْهُ الِاسْمُ وَالْفِعْلُ فَيُقَالُ : هُوَ الصَّادِقُ وَالشَّهِيدُ وَالْحَكِيمُ وَالْوَدُودُ وَالرَّحِيمُ وَالْآمِرُ وَلَا يُشْتَقُّ لِغَيْرِهِ مِنْهُ اسْمٌ . فَلَوْ لَمْ يَكُنْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْقَائِلَ بِنَفْسِهِ : { أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا } بَلْ أَحْدَثَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْآمِرَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ وَلَا الْمُخْبِرَ بِهَذَا الْخَبَرِ وَلَكَانَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ هُوَ الْآمِرَ بِهَذَا الْأَمْرِ الْمُخْبِرَ بِهَذَا الْخَبَرِ وَذَلِكَ الْمَحَلُّ : إمَّا الْهَوَاءُ وَإِمَّا غَيْرُهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ الْمَحَلُّ الْمَخْلُوقُ هُوَ الْقَائِلُ لِمُوسَى : { إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي } وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ يَقُولُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا : مَنْ قَالَ : إنَّهُ مَخْلُوقٌ فَقَدْ كَفَرَ . وَيَسْتَعْظِمُونَ الْقَوْلَ بِخَلْقِ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهَا يَعْظُمُ عَلَيْهِمْ أَنْ تَقُومَ دَعْوَى الْإِلَهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى . وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ " أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْمَعْرِفَةِ " - وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ : مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالصُّوفِيَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَطَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ : مِنْ الكرامية وَغَيْرِهِمْ - أَنَّ كَوْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَالِقًا وَرَازِقًا وَمُحْيِيًا وَمُمِيتًا وَبَاعِثًا وَوَارِثًا وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ فِعْلِهِ وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ ; لَيْسَ مَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْخَلْقَ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ فَالْخَلْقُ فِعْلُ اللَّهِ الْقَائِمُ بِهِ وَالْمَخْلُوقُ هُوَ الْمَخْلُوقَاتُ الْمُنْفَصِلَةُ عَنْهُ . وَذَهَبَ طَوَائِفُ مِنْ " أَهْلِ الْكَلَامِ " مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ : مِنْ الْفُقَهَاءِ الْحَنْبَلِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ مِنْ أَفْعَالِهِ وَإِنَّمَا الْخَلْقُ هُوَ الْمَخْلُوقُ أَوْ مُجَرَّدُ نِسْبَةٍ وَإِضَافَةٍ وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ عَقِيلٍ وَأَوَّلُ قَوْلَيْ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَهَؤُلَاءِ عِنْدَهُمْ حَالُ الذَّاتِ الَّتِي تَخْلُقُ وَتَرْزُقُ أَوْ لَا تَخْلُقُ وَلَا تَرْزُقُ سَوَاءً . وَبِهَذَا نَقَضَتْ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى مَنْ نَاظَرَهَا مَنَّ الصفاتية الْأَشْعَرِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ ; لَمَّا اسْتَدَلَّتْ الصفاتية بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ " الْقَاعِدَةِ الشَّرِيفَةِ " فَقَالُوا : يَنْتَقِضُ عَلَيْكُمْ بِالْخَالِقِ وَالرَّازِقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ ; فَإِنَّ الْخَلْقَ وَالرِّزْقَ قَائِمٌ بِغَيْرِهِ وَقَدْ اُشْتُقَّ لَهُ مِنْهُ اسْمُ الْخَالِقِ وَالرَّازِقِ ; وَلَمْ يَقُمْ بِهِ صِفَةُ فِعْلٍ أَصْلًا فَكَذَلِكَ الصَّادِقُ وَالْحَكِيمُ وَالْمُتَكَلِّمُ وَالرَّحِيمُ وَالْوَدُودُ وَهَذَا النَّقْضُ لَا يَلْزَمُ جَمَاهِيرَ الْأُمَّةِ وَعَامَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ; فَإِنَّ الْبَابَ عِنْدَهُمْ وَاحِدٌ وَلَيْسَ هَذَا قَوْلًا بِقِدَمِ مَخْلُوقَاتِهِ أَوْ مَفْعُولَاتِهِ سَوَاءً قِيلَ : أَنَّ نَفْسَ فِعْلِهِ الْقَائِمِ بِهِ قَدِيمٌ فَقَطْ كَمَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ وَالصُّوفِيَّةِ - أَوْ يَقُولُونَ لَهُ عِنْدَ إحْدَاثِ الْمَخْلُوقَاتِ أَحْوَالٌ وَنِسَبٌ كَمَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ : الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ الطَّوَائِفِ كُلِّهَا . وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ كَالْقَوْلِ فِي مَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَسَائِر الصفاتية أَنَّهَا قَدِيمَةٌ فَلَيْسَتْ مُرَادَاتُهُ قَدِيمَةً وَكَذَلِكَ صِفَةُ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَالْعَقْلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَالَ الْخَالِقِ وَالرَّازِقِ الْفَاطِرِ الْمُحْيِي الْمُمِيتِ الْهَادِي النَّصِيرِ لَيْسَ حَالُهُ فِي نَفْسِهِ كَحَالِهِ لَوْ لَمْ يُبْدِعْ هَذِهِ الْأُمُورَ ; وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ } . فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْخَالِقِ وَغَيْرِ الْخَالِقِ كَالْفَرْقِ بَيْنَ الْقَادِرِ وَغَيْرِ الْقَادِرِ . وَالْمُخَالِفُ يَقُولُ إنَّمَا هُوَ مَوْصُوفٌ بِالْقُدْوَةِ الَّتِي تَتَنَاوَلُ مَا يَخْلُقُهُ وَمَا لَا يَخْلُقُهُ سَوَاءً فِي نَفْسِهِ كَانَ خَالِقًا أَوْ لَمْ يَكُنْ خَالِقًا لَيْسَ لَهُ مِنْ كَوْنِهِ خَالِقًا " صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ " لَا صِفَةُ كَمَالٍ وَلَا صِفَةُ وُجُودٍ مُطْلَقٍ كَمَا لَهُ بِكَوْنِهِ قَادِرًا . وَنُصُوصُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ تُوجِبُ أَنْ تَكُونَ أَسْمَاءُ أَفْعَالِهِ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى الَّتِي تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ بِهَا مَحْمُودًا مُثْنَى عَلَيْهِ مُمَجَّدًا ; وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهَا مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَلَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا ذِكْرُ هَذِهِ " الْمَسْأَلَةِ " وَإِنَّمَا هِيَ طَرْدُ حُجَّةِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ الثِّقَاتِ وَسَائِر الصفاتية ; وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ فِي " كِتَابِ الْمِحْنَةِ " : لَمْ يَزَلْ اللَّهُ عَالِمًا مُتَكَلِّمًا غَفُورًا . فَبَيَّنَ اتِّصَافَهُ بِالْعِلْمِ - وَهُوَ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ مَحْضَةٌ - وَ " بِالْمَغْفِرَةِ " وَهِيَ مِنْ " الصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةِ " وَالْكَلَامُ الَّذِي يُشْبِهُ هَذَا وَهَذَا وَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَّصِفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَالْأَسْمَاءِ وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد فِيمَا خَرَّجَهُ فِي " الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ والجهمية " لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَ جَهْمٍ : إنَّهُ يَتَكَلَّمُ ; وَلَكِنَّ كَلَامَهُ مَخْلُوقٌ . قَالَ أَحْمَد قُلْنَا لَهُ : وَكَذَلِكَ بَنُو آدَمَ كَلَامُهُمْ مَخْلُوقٌ فَفِي مَذْهَبِكُمْ كَانَ اللَّهُ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ لَا يَتَكَلَّمُ حَتَّى خَلَقَ الْكَلَامَ وَكَذَلِكَ بَنُو آدَمَ لَا يَتَكَلَّمُونَ حَتَّى خَلَقَ لَهُمْ كَلَامًا فَقَدْ جَمَعْتُمْ بَيْنَ كُفْرٍ وَتَشْبِيهٍ وَكَذَلِكَ ذَكَرُوا فِي " الْمِحْنَةِ " فِيمَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي الْمُنَاظَرَةِ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ : { وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي } قَالَ : فَإِنْ يَكُنْ الْقَوْلُ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ . فَصْلٌ وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ أَحْمَد إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ خَوْفًا مِنْ النَّاسِ فَبُطْلَانُ هَذَا يَعْلَمُهُ كُلُّ عَاقِلٍ بَلَغَهُ شَيْءٌ مِنْ أَخْبَارِ أَحْمَد وَقَائِلُ هَذَا إلَى الْعُقُوبَةِ الْبَلِيغَةِ الَّتِي يَفْتَرِي بِهَا عَلَى الْأَئِمَّةِ أَحْوَجُ مِنْهُ إلَى جَوَابِهِ ; فَإِنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد صَارَ مَثَلًا سَائِرًا يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي الْمِحْنَةِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ حَتَّى صَارَ اسْمُ الْإِمَامِ مَقْرُونًا بِاسْمِهِ فِي لِسَانِ كُلٍّ أَحَدٍ فَيُقَالُ : قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد . هَذَا مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَد . لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } فَإِنَّهُ أُعْطِيَ مِنْ الصَّبْرِ وَالْيَقِينِ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْإِمَامَةَ فِي الدِّينِ . وَقَدْ تَدَاوَلَهُ " ثَلَاثَةُ خُلَفَاءَ " مُسَلَّطُونَ مِنْ شَرْقِ الْأَرْضِ إلَى غَرْبِهَا وَمَعَهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْقُضَاةِ وَالْوُزَرَاءِ وَالسُّعَاةِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْوُلَاةِ مَنْ لَا يُحْصِيهِمْ إلَّا اللَّهُ . فَبَعْضُهُمْ بِالْحَبْسِ وَبَعْضُهُمْ بِالتَّهْدِيدِ الشَّدِيدِ بِالْقَتْلِ وَبِغَيْرِهِ وَبِالتَّرْغِيبِ فِي الرِّيَاسَةِ وَالْمَالِ مَا شَاءَ اللَّهُ وَبِالضَّرْبِ وَبَعْضُهُمْ بِالتَّشْرِيدِ وَالنَّفْيِ وَقَدْ خَذَلَهُ فِي ذَلِكَ عَامَّةُ أَهْلِ الْأَرْضِ - حَتَّى أَصْحَابُهُ الْعُلَمَاءُ وَالصَّالِحُونَ وَالْأَبْرَارُ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يُعْطِهِمْ كَلِمَةً وَاحِدَةً مِمَّا طَلَبُوهُ مِنْهُ وَمَا رَجَعَ عَمَّا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَلَا كَتَمَ الْعِلْمَ وَلَا اسْتَعْمَلَ التَّقِيَّةَ ; بَلْ قَدْ أَظْهَرَ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآثَارِهِ وَدَفَعَ مِنْ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِذَلِكَ مَا لَمْ يَتَأَتَّ مِثْلُهُ لِعَالِمِ : مِنْ نُظَرَائِهِ وَإِخْوَانِهِ الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين ; وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ شُيُوخِ الشَّامِ : لَمْ يُظْهِرْ أَحَدٌ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أَظْهَرَهُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ فَكَيْفَ يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ كَانَ يَخَافُ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ الَّتِي لَا قَدْرَ لَهَا ؟ وَ " أَيْضًا " فَمِنْ أُصُولِهِ أَنَّهُ لَا يَقُولُ فِي الدِّينِ قَوْلًا مُبْتَدَعًا وَقَدْ جَعَلُوا يُطَالِبُونَهُ بِمَا ابْتَدَعُوهُ فَيَقُولُ لَهُمْ : كَيْفَ أَقُولُ مَا لَمْ يُقَلْ فَكَيْفَ يَكْتُمُ كَلِمَة مَا قَالَهَا أَحَدٌ قَبْلَهُ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ . وَ " أَيْضًا " فَإِنَّ أَحْمَد بْنَ الْحَسَنِ التِّرْمِذِيَّ مِنْ خَوَاصِّ أَصْحَابِهِ وَأَعْيَانِهِمْ فَمَا الْمُوجِبُ لِأَنْ يَسْتَعْمِلَ التَّقِيَّةَ مَعَهُ . وَ " أَيْضًا " فَلَمْ يَكُنْ بِهِ حَاجَةٌ إلَى أَنْ يَقُولَ : كَلَامُ الْآدَمِيِّ مَخْلُوقٌ وَإِنَّمَا هُوَ ذَكَرَ ذَلِكَ مُسْتَدِلًّا بِهِ ضَارِبًا بِهِ الْمَثَلَ فَكَيْفَ يَبْتَدِئُ بِكَلَامِ هُوَ عِنْدَهُ بَاطِلٌ لَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ أَحَدٌ وَ " أَيْضًا " فَقَدْ كَانَ يَسَعُهُ أَنْ يَسْكُتَ عَنْ هَذَا ; فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إذَا خَافَ مِنْ إظْهَارِ قَوْلٍ كَتَمَهُ . أَمَّا إظْهَارُهُ لِقَوْلِ لَمْ يُطْلَبْ مِنْهُ وَهُوَ بَاطِلٌ عِنْدَهُ فَهَذَا لَا يَفْعَلُهُ أَقَلُّ النَّاسِ عَقْلًا وَعِلْمًا وَدِينًا . فَمَنْ يَسُبُّ " الْإِمَامَ أَحْمَد الَّذِي مَوْقِفُهُ مِنْ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ فَوْقَ مَا يَصِفُهُ الْوَاصِفُ ; وَيَعْرِفُهُ الْعَارِفُ فَقَدْ اسْتَوْجَبَ مِنْ غَلِيظِ الْعُقُوبَةِ مَا يَكُونُ نَكَالًا لِكُلِّ مُفْتَرٍ كَاذِبٍ رَاجِمٍ بِالظَّنِّ قَاذِفٍ قَائِلٍ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَأَئِمَّتِهِمْ مَا لَا يَقُولُهُ الْعَدُوُّ الْمُنَافِقُ .
وَ " أَيْضًا " فَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِيمَا صَنَّفَهُ مِنْ " الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ والجهمية " وَهُوَ فِي الْحَبْسِ وَكَتَبَهُ بِخَطِّهِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِمَّا أَظْهَرَهُ لِأَعْدَائِهِ : الَّذِينَ يَحْتَاجُ غَيْرُهُ إلَى أَنْ يَسْتَعْمِلَ مَعَهُمْ التَّقِيَّةَ . وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْبَحُ مِنْ قَوْلِ الرَّوَافِضِ فِيمَا ثَبَتَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَهُ وَفَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ التَّقِيَّةِ ; فَإِنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد صَنَّفَ الرَّدَّ عَلَيْهِمْ وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ زَنَادِقَةٌ فَأَيُّ تَقِيَّةٍ تَكُونُ لَهُمْ مَعَ هَذَا وَهُوَ يُجَاهِدُهُمْ بِبَيَانِهِ وَبَنَانِهِ وَقَلَمِهِ وَلِسَانِهِ ؟