أكد ابن تيمية –رحمه الله- على اهتمامه بهده الأصول بناء على المنهج الذي التزم به و سار عليه أئمة الهدى قبله. فلا قوام لعلم و إيمان مالم يرتبطا بهذه الأصول. قال رحمه الله : (فمن بنى الكلام في علم الأصول و الفروع على الكتاب و السنة و الآثار المأثورة عن السابقين فقد أصاب طريق النبوة و كذلك من بنى الإرادة و العبادة و العمل و السماع المتعلق بأصول الأعمال و فروعها من الأحوال القلبية و الأعمال البدنية على الإيمان و السنة و الهدي الذي كان عليه محمد صلى الله عليه و سلم و أصحابه , فقد أصاب طريق النبوة و هذه طريق أئمة الهدى )[1]
و لقد احتل جانب العقيدة في مباحثه الفقهية حيزا كبيرا , فكثيرا ما يضمن مباحثه الفقهية مسائل في العقيدة أو لها تعلق فيها كالاستقامة على نهج السلف أو إرشاد و توجبه , أو الدعوة إلى الإخلاص في النية و العمل و الاحتساب في الأعمال , و أداء العبادات على وفق تعاليم الشارع , أو النصح و الترغيب بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الجهاد في سبيل الله , و الحث على الإنفاق في سبيل الله إلى غير ذلك من المقاصد و الأعمال التي هي ذات علاقة أصلية بالعقيدة و السلوك .
و سوف أبسط الكلام عن هذا في المنهج التفصيلي لابن تيمية إن شاء الله.
اتصف منهج ابن تيمية –رحمه الله- بالاهتمام بأقوال و مفهومات السلف و على الأخص القرون الثلاثة الأول , حيث ركز جل تفكيره و مصادر تثقيفه على علماء تلك القرون المفضلة , و هذا الاتجاه لابن تيمية منطلق من قول النبي صلى الله عليه و سلم (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)[2]
و قال رحمه الله : (فإنه كلما كان عهد الإنسان بالسلف أقرب كان أعلم بالمعقول و المنقول )[3]
و من هذا المنهج انطلق ابن تيمية يحدد فهم النصوص التي يعتقد أنها مخالفة للأصول و يبين المقلصد و المعاني المطلوبة من تلك النصوص و يسير بها وفق مفهومات سليمة تحقق المصالح المرجوة من توجيهات الشارع لحفظ الإنسن و سيره وفق تعاليم ربانية تعمل على تحقيق ما يوفره له الخير و الفلاح في دينه و دنياه. قال رحمه الله تعالى : (وانظر في عموم كلام الله –عز و جل- ورسوله لفظا و معنى حتى تعطيه حقه و أحسن ما استدل به على معناه آثار الصحابة الذين كانوا أعلم بمقاصده , فإن ضبط ذلك يوجب توافق أصول الشريعة و جريها على الأصول الثابتة )[4]
و هذه الطريقة التي سار عليها ابن تيمية –رحمه الله- تحتاج إلى تفصيل و ضرب أمثلة توضيحية تبين مدى عنايته بتتبع آثار السلف و إحيائها و بيان سلامتها وفق أصول الشريعة و قواعدها , و سوف أفصل الكلام عن هذه الطريق في المنهج التفصيلي إن شاء الله , و أوضح أهداف ابن تيمية في هذه المفهومات و ما يترتب عليها , و كيف دعا إليها ابن تيمية ليفرضها على المفهومات التي كانت سائدة في عصره رحمه الله .
أولى ابن تيمية –رحمه الله- هذا الجانب اهتماما كبيرا , حيث تتبع و أبرز مقاصد الشارع من النصوص الشرعية , و بين الأسباب التي رتبت عليها الأحكام و هو يقرر في غالب بحوثه الأهداف المرجوة لمقاصد الشارع عندما ينهى عن شيء أو يأمر به . قال –رحمه الله- : (و معلوم أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح و تكميلها و تعطيل المفاسد و تقليلها , و أمرنا بتقديم خير الخيرين بتفويت أدناهما و بدفع شر الشرين باحتمال أدناهما )[5]
و هذه الخاصية على أنها جديرة بالاهتمام لمعرفة الحقائق الشرعية بجلب المصالح و درء المفاسد فإنها في الوقت نفسه تعطي الباحث تذوقا علميا و توجد الاطمئنان و الارتياح عند الباحث لمعرفة ما ترمي إليه تلك المقاصد , و هذا بخلاف ما جرت به بعض المؤلفات الفقهية من إتيانها بأسلوب مغاير تماما لهذا الأسلوب , حيث تأتي بالفقه على شكل مادة جافة أشبه ما تكون بالأساليب العسكرية خالية من المرونة و التعليل المناسب للمقاصد الهادفة لتوجيه الشارع.
و مما تجدر إليه الإشارة أنه بقدر ما اهتم ابن تيمية –رحمه الله- بتحقيق المصالح و إبراز الفرص المؤدية إليها اهتم أيضا بدرء المفاسد المتمثل بأصل سد الذرائع الذي أولا ابن تيمية –رحمه الله- اهتماما معدوم النظير , و قد أبرز ذكر هذا الأصل في كتابه المشهور ( بيان الدليل على إيطال التحليل ) و سيأتي تفصيل هذا إن شاء الله في المنهج التفصيلي من الباب الثاني .