سعى ابن تيمية منذ شهرته للدعوة إلى تحرير العقول من قيود التعصب المذهبي و العود بها إلى الفقه في دين الله معتمدا على ما نقله سلف الأمة , و ما خلفوه من تراث علمي . و كان الدافع لهذا الاتجاه هو ما كان يموج في عصره من التعصب الممقةت الكامن في بعض متبعي المذاهب , و الفقه عندهم هو ما قاله فلان من منسوبي المذهب و علل به فلان صارفين العقول عن الأخذ مما أخذ منه سلف هذه الأمة .
و حيث إن هذا له دور سلبي في الناحيتين العلمية و الاجتماعية , فالناحية العلمية أصيبت بركود فكري لما كان كل فقيه لا يقبل الأخذ من أي مصدر آخر إلا من المذهب الذي نشأ عليه آباؤه دون أن يعمل عقله و إمكاناته العلمية , و إنما هو التقليد و المحاكاة . أما الناحية الاجتماعية فالتناحر بين المذاهب و ضرب الحصار على كل فئة لا تلتزم بما تلتزمه تلك الفئة ووضع الشروط و القيود حتى أدى بهم الوضع إلى التفكير أحيانا . لما رأى ابن تيمية هذا ظادرك –رحمه الله- أهمية الموقف و دعا إلى العودة بعصره إلى المدرسة السلفية .
قال رحمه الله : ( فإن من الناس من إذا اعتقد استحباب فعل و رجحانه يحافظ عليه مالا يحافظ على الواجبات , حتى يخرج به الأمر إلى الهوى و التعصب و الحمية الجاهلية كما تجده فيمن يختار بعض هذه الأمور و غيرها فيراها شعارا لمذهبه...)[1]
و قال رحمه الله تعالى : ( و أسوأ أنواع التقليد و التعصب هو التزام مذهب معين و التسلم بكل ما يوجبه هذا المذهب و يخبر عنه )
و هذا ليس يقصد به ابن تيمية المساس ب الأئمة و ما قدموه من علم , بل هم خدموا الأمة الإسلامية بإخلاص و ليس أدل على ذلك من كتابه " رفع الملام عن الأئمة الأعلام " , فقد بين فيه موقفه من الأئمة و فضلهم على الأمة و اعتذر لما وقع منهم من خطأ .
و إنما يقصد ابن تيمية بذلك متبعي المذاهب الذين غالوا في التعصب و نسبوا للمذاهب مالم يقله أئمتها , أو ما لا يوافق أصولهم قال رحمه الله : ( و هذا لأن الأئمة قد انتسب إليهم في الفروع طوائف من أهل البدع و الأهواء و المخالفين لهم في الأصول مع براءة الأئمة من أولئك الأتباع و هذا مشهور )[2]
مما يتميز به منهج ابن تيمية –رحمه الله- ربط منهجه بالأصول و القواعد العامة و سبب كثافة العناية بهذا الجانب من ابن تيمة –مع أنه هو المنهج السليم للفقيه المجتهد- هو ما لاحظه من تفكك الأفكار و اختلاف المفهومات و الخطأ في كثير من المسائل الشرعية عند كثير ممن ينسب للعلم مع سلامة المقاصد , وهذا الاختلاف و الخطأ ناتج عن النظرة الجزيئية في الأدلة الشرعية , فعندما يتظر الفقيه في حديث معين يتناول مسألة فرعية دون استقراء للأصول و القواعد يأتي مفهومه ضيقا مما يؤدي إلى التعارض عند الفقيه بين النصوص و الأصول , و هذا ما حذر منه ابن تيمية –رحمه الله- و دعا إلى المنهجية المتكاملة , و قرر القواعد و أحيا الأصول في ثنايا المسائل , حتى أنه ألف في ذلك عدة مؤلفات منها القواعد الفقهية , و قاعدة العقد و رسالة القياس . قال رحمه الله : ( و انظر في عموم كلام اللع –عز و جل- و رسوله لفظا و معنى حتى تعطيه حقه و أحسن ما يستدل به على معناه آثار الصحابة الذين كانوا أعلم بمقاصده , فإن ضبط ذلك يوجب توافق أصول الشريعة و جريها على الأصول الثابتة )[3]
اهتم ابن تيمية بدور العقل في الشريعة الإسلامية , و إن العقل السليم بأفكاره و تصوراته إذا كان مبنيا على مقومات صحيحة كان ما يقرره صحيحا و هو الرابط بين تعاليم الإسلام و الموجد للحلول المناسبة لما أشكل من القضايا الإسلامية , و هذا ليس على سبيل الاستقلال ورد النصوص به , فهو يرفض هذه الفكرة التي نشأت عن بعض الفلاسفة و التي رد عليها في كتابه ( درء تعارض العقل و النقل ) قال رحمه الله : ( و دلالة القرآن على الأمور "نوعان" أحدهما : خبر الله الصادق فما أخبر الله و رسوله به , فهو حق كما أخبر الله به . و الثاني : دلالة القرآن بضرب الأمثال و بيان الأدلة العقلية الدالة على المطلوب , فهذه دلالة شرعية عقلية , فهي شرعية , لأن الشرع دل عليها و أرشد إليها , و عقلية لأنها تعلم صحتها بالعقل و لا يقال : إنها لم تعلم إلا بمجرد الخبر )[4]
و قال : ( ولولا الرسالة لم يهتد العقل إلى تفاصيل النافع و الضار في المعاش و المعاد )
و ابن تيمية يعتبر العقل وسيلة لفهم النصوص و استنباط العلل و الحكم الشرعية , و يعطيه في هذه الحالة الصفة الشرعية , يقول رحمه الله : ( و إذا أخبر الله بالشيء و دل عليه بالدلالات العقلية صار مدلولا عليه بخبره و مدلولا عليه بدليله العقلي الذي يعلم به , فيصير ثابتا بالسمع و العقل و كلاهما داخل في دلالة القرآن التي تسمى الدلالة الشرعية )[5]
ولا يوجد معقول صريح يخالفه نص صريح , و لذا ألف رسالته (القياس) للرد على اعتقاد أن بعض النصوص أتت مخالفة للقياس .
يقول فيها : (و بالجملة فما عرفت حديثا صحيحا إلا و يمكن أن يخرج على الأصول الثابتة , وقد تدبرت ما أمكنني من أدلة الشرع فما رأيت قياسا يخالف حديثا صحيحا كما أن المعقول الصريح لا يخالف المنقول الصحيح )
و ابن تيمية –رحمه الله- بأخذه بهذا المنهج يعطي العقل وظيفت في الستنباط و التعليل و المفهومات بشكل ملحوظ ووظيفتة هذه تعمل في إطار التعاليم الشرعية قال رحمه الله : (المقصود هنا أن النصوص شاملة لجميع الأحكام , و نحن نبين ذلك مما هو أشكل الأشياء للتنبيه به على ما سواه )[6]
ومن لوازم هذا الجانب ما أبرزه ابن تيمية في ثنايا مؤلفاته بسلامة الشريعة من التناقض و أنها متناسبة و إنما سبب التناقض هو قصر الفهم أو خطؤه .
يقول رحمه الله تعالى : ( و المقصود هنا التنبيه على إفساد من يدعي التناقض في معاني الشريعة أو ألفاظها و يزعم أن الشارع يفرق بين المتماثلين بل نبينا محمد صلى الله عليه و سلم بعث بالهدى و دين الحق بالحكو و العدل و الرحمة , فلا يفرق بين شيئين في الحكم إلا لافتراق صفاتهما المناسبة للفرق , و لا يسوي بين شيئين إلا لتمائلهما في الصفات المناسبة للتسوية )
درج ابن تيمية على الاهتمام بهذا الجانب في منهجه حتى أنه كثير الاستشهاد بقواه تعالى : (فإن مع العسر يسرا . إن مع العسر يسرا ) [7] و هذا التيسير في مفهوم ابن تيمية بحدود ما يدركه على ضوء الأدلة الشرعية فهو لا يتجه لهذا الجانب إذا وجد دليلا في المسألة يمنع , بل يحرص على الدليل و يوضحه و يبين أهدافه , و يلتزم جانب الشدة عندما يكون جانب التيسير يدعو إلى أمر يؤول إلى بدعة أو فساد و تجده يشن حربا علمية على تلك القضية و يبين الوجه الشرعي و مفاسد تلك القضية , و هذا الجانب الذي اهتم به كثيرا إلى جانب التيسير هو أصل سد الذرائع .
و الدافع لابن تيمية للاهتمام بهذا الجانب , هو ما أملاه الشارع في الدعوة إلى التيسير و التسهيل , حيث قال النبي صلى الله عليه و سلم : ( فإنما بعثتم ميسرين و لم تبعثوا معسرين ) [8] . و أيضا ما وجد عليه بعض المذاهب الفقهية من ترجبح جانب غلط المفسدة المقتضي للحظر و لا ينظر إلى الحاجة الموجبة للإذن و التشدد في مسائل ليس عليها دليل شرعي بالمنع , و إنما هي مفهومات لبعض العمومات أو استنباطات أو مظنة للمفسدة مثل بيع المعدوم و تأجير الشجر و التسامح في أحكام العقود و الشروط – و لذا يقول رحمه الله : ( فهذا أصل عظيم في هذه المسائل و نوعها لا ينبغي أن ينظر إلى غلط المفسدة المقتضية للحظر و لا ينظر مع ذلك إلى الحاجة الموجبة للإذن بل الموجبة للاستحباب أو الإيجاب )
بينما نجد هذه المسائل في رأي ابن تيمية من الأمور الجائزة حسب ما تقتضيه المصلحة بناء على ما استنبطه شرعا و على العمومات الشرعية الداعية إلى التيسير و الاستناد إلى أحكام الضرورة , و لذا يقول رحمه الله : ( من استقرأ الشريعة في مواردها و مصادرها وجدها مبنية على قوله تعالى (فمن اضطر غير باغ و لا عاد فلا إثم عليه )[9]