منهج الشيخ

منهجه في معالجة قضايا التاريخ :
خامساً: نقده لسند أو متن بعض الأخبار التاريخية:

يتعرض شيخ الإسلام -رحمه الله- لكثير من الأحداث التاريخية ولكنه لا يمر عليها ناقلاً تاركاً العهدة على المصادر التي نقل منها بل نقله ممحص للأخبار مستخرج الصحيح وارد لما سوى ذلك. وهو يتعرض لأحداث تاريخية متفرقة وفي أماكن شتى من العالم الإسلامي وفي فترات متفرقة. ومن أمثلة ذلك:

رد على من كان يخلط بين الاسكندر المقدوني وذي القرنين, فقال [1]: وهذا المقدوني ذهب إلى بلاد فارس ولم يصل إلى بلاد الصين فضلا عن السد.

وناقش من لا يفرق بين فرعون, وأفلاطون, وشعيب -عليه السلام, وشعيب الذي تزوج موسى -عليه السلام- ابنته [2]: وكثير (من الملاحدة والمتفلسفة) يعظم فرعون ويسمونه أفلاطون القبطي، ويدعون أن صاحب مدين الذي تزوج موسى ابنته -الذي يقول بعض الناس إنه شعيب- يقول هؤلاء إنه أفلاطون أستاذ أرسطو. ويقولون إن أرسطو هو الخضر -إلى أمثال هذا الكلام الذي فيه من الجهل والضلال ما لا يعلمه إلا ذو الجلال.

وأورد خبرا يذكره بعض المصنفين عن عيسى بن مريم -عليهما السلام- فقال [3]: ويروونه عن المسيح أنه قال لمعلمه: (تعليم الحروف المقطعة مثل أ،ب، ت، ث. أو أبجد هوز) في الكتاب وهذا كله من الأحاديث الواهية بل المكذوبة ولا يجوز باتفاق أهل العلم بالنقل أن يحتج بشيء من هذه وإن كان قد ذكرها طائفة من المصنفين في هذا الباب كالشريف المزيدي والشيخ أبي الفرج وابنه عبد الوهاب وغيرهم وقد يذكر ذلك طائفة من المفسرين والمؤرخين فهذا كله عند أهل العلم بهذا الباب باطل لا يعتمد عليه في شيء من الدين.

أما ما يذكر بعض المصنفين في (السيرة) من أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين علي وأبي بكر ونحو ذلك [4]: فهذا باطل باتفاق أهل المعرفة بحديثه فإنه لم يؤاخ بين مهاجر ومهاجر, وأنصاري وأنصاري, وإنما آخى بين المهاجرين والأنصار. وهناك حديث عند الترمذي[5] في أن النبي آخى بينه وبين علي بن أبي طالب ولكن الحديث ضعيف.

ورد خبراً يرد عند الصوفية: والحديث الذي ذكره محمد بن طاهر المقدسي في (مسألة السماع) و(في صفة التصوف) وروه من طريقة الشيخ أبو حفص عمر السهروردي صاحب عوارف المعارف: (أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أنشده أعرابي:

قد لسعت حية الهوى كبدي   ---  فلا طبيب لها ولا راقي
إلا الحبيب الذي شغفت به  ---  فعنده رقيتي وترياقي

وأنه تواجد حتى سقطت البردة عن منكبيه فقال له معاوية: ما أحسن لهوكم! فقال له: مهلاً يا معاوية! ليس بكريم من لم يتواجد عند ذكر الحبيب) فهو حديث مكذوب موضوع باتفاق أهل العلم بهذا الشأن [6].

وقال أيضاَّ مبينَّا كم عدد المرات التي وصل فيها صلى الله عليه وسلم إلى مكة [7]: لم يسافر من المدينة إلى مكة ودخلها إلا في ثلاث مرات: عمرة القضية, ثم غزوة الفتح, ثم حجة الوداع, وهذا مما لا يتنازع فيه أهل العلم بالحديث والسيرة وأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسافر في رمضان إلى مكة إلا في غزة الفتح.

أورد بعض كذب الشيعة على علي -رضي الله عنه- ونقده فقال: وما ذكر من كيفية قتل عمرو بن عبد ود العامري فهو كذب وكذلك ضرب عمرو بن عبد ود الشجرة بفخذه وقلعها كذب ولم يكن هناك شجر وإنما النخيل كان بعيدا من المعسكر.

ومن المبالغات التي لا يقبلها عاقل قولهم [8] عن علي: إنه كان عصا موسى وسفينة نوح وخاتم سليمان فهذا لا يقوله عاقل يتصور ما يقول وهو بكلام المجانين أشبه منه بكلام العقلاء وهذا لا يقصد أحد مدح عليّا به إلا لفرط في الجهل فإن عليا هو ومن دونه من الصحابة أشرف قدرا عند الله من هذه الجمادات، وإن كانت العصا آية لموسى فليس كل ما كان معجزة لنبي أفضل من المؤمنين, بل المؤمنين أفضل من الطير الذي كان المسيح يصوره من الطين فينفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله، وأفضل من الجراد والقمل والضفادع والدم الذي كان آية لموسى، وأفضل من العصا، والحية، وأفضل من ناقة صالح فمن ظن أنه بهذا الكذب والجهل يمدح عليَّا كان جهله من المدح والثناء من جنس جهله بأن هذه الجمادات لم تكن آدمية قط.

وعندما أورد خبر زعمه بعض الكذابين من أن الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة كان يغني ويضرب بالعود فقال: ومن ذكر عن مالك أنه ضرب بعود فقد افترى عليه.

أما نقد السند فله أمثلة كثيرة منها:

فعندما تحدث عن أهل الأخبار تحدث عن معرفة بأحوالهم وأخبارهم حيث قال [9]: فإن كثيراً مما يسندونه عن كذاب أو مجهول, وأما ما يرسلونه فظلمات بعضها فوق بعض, وهؤلاء لعمري ممن ينقل عن غيره مسنداً أو مرسلاً. وأما أهل الأهواء ونحوهم فيعتمدون على نقل لا يعرف له قائل أصلاً لا ثقة ولا معتمد وأهون شيء عندهم الكذب المختلق، وأعلم من فيهم لا يرجع فيما ينقله إلى عمدة بل إلى سماعات عن الجاهلين والكذابين وروايات عن أهل الإفك المبين.

قوله عما فعله عبيد الله بن زياد والي يزيد على الكوفة ولكن بعض الناس روى بإسناد منقطع (إن هذا النكت كان بحضرة يزيد بن معاوية).

وكذلك قوله عن قصة مقتل الحسين بن علي -رضي الله عنهما- بعد ذكره ما وقع [10]: وقد رويت زيادات بعضها صحيح وبعضها ضعيف وبعضها كذب موضوع.

عند حديثه عن الأربعة الذي اجتمعوا عند الكعبة وتمنوا.

وقد وردت القصة بسياقات مختلفة فميز بينها حيث قال [11]: فمنها حديث الأربعة الذين اجتمعوا عند الكعبة وسألوا, وهم عبد الله، ومصعب ابنا الزبير، وعبد الله بن عمر، وعبد الملك بن مروان، وذكره ابن أبي الدنيا في كتاب "مجابى الدعاء" ورواه من طريق إسماعيل بن أبان الغنوي، عن سفيان الثوري، عن طارق بن عبد العزيز، عن الشعبي أنه قال: لقد رأيت عجباً! كنا بفناء الكعبة أنا وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير ومصعب بن الزبير وعبد الملك بن مروان, فقال القوم بعد أن فرغوا من حديثهم: ليقم كل رجل منكم فليأخذ بالركن اليماني؛ وليسأل الله حاجته فإنه يعطي من سعة. ثم قالوا: قمْ يا عبد الله بن الزبير فإنك أول مولود في الإسلام بعد الهجرة، فقام فأخذ بالركن اليماني ثم قال: اللهم إنك عظيم ترجى لكل عظيم؛ أسألك بحرمة وجهك وحرمة عرشك وحرمة نبيك أن لا تميتني من الدنيا حتى توليني الحجاز، ويسلم علي بالخلافة, ثم جاء فجلس. ثم قام مصعب فأخذ بالركن اليماني ثم قال: اللهم إنك رب كل شيء، وإليك يصير كل شيء، أسألك بقدرتك على كل شيء، ألا تميتني من الدنيا حتى توليني العراق، وتزوجني بسكينة بنت الحسين. ثم قام عبد الملك بن مروان فأخذ بالركن اليماني ثم قال: اللهم رب السموات السبع، ورب الأرض ذات النبت بعد القفر، أسألك بما سألك به عبادك المطيعون لأمرك، وأسألك بحقك على خلقك وبحق الطائفين حول عرشك... إلى آخره.

قلت: وإسماعيل بن أبان الذي روى هذا عن سفيان الثوري: كذاب.قال أحمد بن حنبل: كتبت عنه ثم حدث بأحاديث موضوعة فتركناه. وقال يحيى بن معين: وضع حديثًا على السابع من ولد العباس يلبي الخضرة يعني المأمون.

ثم ذكر الخبر من طريق آخر فقال [12]: وقد خولف (يعني ابن أبي الدنيا) فيها فرواها أبو نعيم عن الطبراني: حدثنا أحمد بن زيد بن الجريش، حدثنا أبو حاتم السجستاني، حدثنا الأصمعي قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه قال: اجتمع في الحجر مصعب، وعروة، وعبد الله أبناء الزبير وعبد الله بن عمر فقالوا: تمنوا فقال عبد الله بن الزبير: أما أنا فأتمنى الخلافة، وقال عروة: أما أنا فأتمنى أن يؤخذ عني العلم، وقال مصعب: أما أنا فأتمنى إمرة العراق، والجمع بين عائشة بنت طلحة، وسكينة بنت الحسين. وقال عبد الله بن عمر: أما أنا فأتمنى المغفرة قال: فنال كلهم ما تمنوا ولعل ابن عمر قد غفر له. قلت: وهذا إسناد خير من ذاك الإسناد باتفاق أهل العلم وليس فيه سؤال بالمخلوقات.


  1. الفتاوى (17/331).
  2. ذكر ابن كثير في قصص الأنبياء أقوال العلماء في شعيب مدين 2/359.
  3. الفتاوى (12/59).
  4. الفتاوى (35/93).
  5. رواه الترمذي في أبواب المناقب. باب مناقب علي بن أبي طالب رضي الله عنه ح3720، وضعفه العلامة الألباني.
  6. ذكره مرعي بن يوسف الكرمي في الفوائد الموضوعة في الأحاديث الموضوعة ص127، وقال الطوفي: موضوع باتفاق أهل العلم. وأحال الدكتور الصباغ في الهامش 3 إلى الذهبي في الميزان 3/164 الذي اتهم عمار بن إسحاق بوضع هذه الخرافة.
  7. الفتاوى (24/150).
  8. الفتاوى (18/362).
  9. الفتاوى (27/479).
  10. الفتاوى (27/469).
  11. الفتاوى (1/261).
  12. الفتاوى (1/263).
123456789