تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تيمية رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ وَاقِفٍ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى أَوْلَادِهِ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ وَنَسْلِهِ وَعَقِبِهِ دَائِمًا مَا تَنَاسَلُوا : عَلَى أَنَّهُ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ وَلَا وَلَدِ وَلَدٍ وَلَا نَسْلٍ وَلَا عَقِبٍ : كَانَ مَا كَانَ جَارِيًا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَنْ فِي دَرَجَتِهِ وَذَوِي طَبَقَتِهِ . فَإِذَا تُوُفِّيَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ عَنْ وَلَدٍ أَوْ وَلَدِ وَلَدٍ أَوْ نَسْلٍ أَوْ عَقِبٍ لِمَنْ يَكُونُ نَصِيبُهُ ؟ هَلْ يَكُونُ لِوَلَدِهِ ؟ أَوْ لِمَنْ فِي دَرَجَتِهِ مِنْ الْإِخْوَةِ وَبَنِيَّ الْعَمِّ وَنَحْوِهِمْ ؟ .
123456789101112131415
فَإِنْ قِيلَ : هُنَا مُرَجِّحٌ ثَانٍ وَهُوَ أَنَّ جَعْلَهُ مُخْتَصٌّ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ يُفِيدُ مَا لَمْ يَدُلَّ اللَّفْظُ عَلَيْهِ وَهُوَ مَنْعُ اشْتِرَاكِ النَّسْلِ فِي نَصِيبِ مَنْ مَاتَ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ ; فَإِنَّهُ لَوْلَا هَذَا الشَّرْطُ لَاشْتَرَكُوا فِي جَمِيعِ حَقِّهِمْ الْمُتَلَقَّى عَمَّنْ فَوْقَهُمْ وَعَمَّنْ مَاتَ عَنْ وَلَدٍ أَوْ غَيْرِ وَلَدٍ ; بِخِلَافِ مَا إذَا عَادَ إلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ ; فَإِنَّهُ يَكُونُ مُؤَكَّدًا فَقَطْ ; فَإِنَّا كُنَّا نَجْعَلُ نَصِيبَ الْمَيِّتِ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ لِطَبَقَتِهِ . قِيلَ عَنْهُ وُجُوهٌ : أَحَدُهَا : أَنَّا قَدَّمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْفَائِدَةَ بَاطِلَةٌ ; فَإِنَّ الْعَاقِلَ لَا يَقُولُ : هَؤُلَاءِ أَعْلَاهُمْ وَأَسْفَلُهُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي الْوَقْفِ فَمَنْ مَاتَ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ اخْتَصَّ بِنَصِيبِهِ إخْوَتُهُ ; دُونَ آبَائِهِ وَأَعْمَامِهِ . وَمَنْ مَاتَ عَنْ وَلَدٍ لَمْ يَخْتَصَّ بِنَصِيبِهِ أَحَدٌ لَا وَلَدُهُ وَلَا غَيْرُهُ ; فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ وَلَا يَفْعَلُهُ مَنْ يَسْتَحْضِرُهُ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ [ مَنْ يَقُولُ : ] أَعْطُوا الْبَعِيدَ مِنِّي وَمِنْ الْمَيِّتِ وَاحْرِمُوا الْقَرِيبَ مِنِّي وَمِنْ الْمَيِّتِ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : يَقْصِدُ مِثْلَ هَذَا فِي الْعَادَاتِ . فَمَا عَلِمْنَا أَحَدًا قَصَدَ هَذَا . الثَّانِي : أَنَّا قَدْ مَنَعْنَا كَوْنَ هَذَا مُقْتَضَاهُ التَّشْرِيكُ فَتَبْطُلُ الْفَائِدَةُ . الثَّالِثُ : أَنَّ فِي عَوْدِهِ إلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ فَوَائِدَ . أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَدُلُّ بِنُطْقِهِ عَلَى نَقْلِ نَصِيبِ الْمَيِّتِ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ إلَى ذَوِي طَبَقَتِهِ وَتَنْبِيهِهِ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنْ النُّطْقِ عَلَى نَقْلِ نَصِيبِ الْمُتَوَفَّى عَنْ وَلَدٍ إلَى وَلَدِهِ كَمَا تَقَدَّمَ ذَكَرَهُ . الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّ قَوْلَهُ : عَلَى أَوْلَادِهِ ثُمَّ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ - إلَى قَوْلِهِ دَائِمًا مَا تَنَاسَلُوا وَأَبَدًا مَا تَعَاقَبُوا . يَقْتَضِي اسْتِحْقَاقَ ذُرِّيَّتِهِ لِلْوَقْفِ فَإِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ وَلَيْسَ لَهُ إلَّا ذَوِي طَبَقَتِهِ وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِ : أَفَادَ الشَّرْطُ إخْرَاجَ الطَّبَقَةِ ; فَيَبْقَى الْأَوْلَادُ دَاخِلِينَ فِي اللَّفْظِ الْأَوَّلِ مَعَ الثَّانِي . فَمَجْمُوعُ قَوْلِهِ : عَلَى أَوْلَادِي ثُمَّ أَوْلَادِ أَوْلَادِي . مَعَ قَوْلِهِ : عَلَى أَنَّ نَصِيبَ الْمَيِّتِ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ يَنْتَقِلُ إلَى إخْوَتِهِ . دَلَّنَا عَلَى أَنَّ نَصِيبَ الْمَيِّتِ عَنْ وَلَدٍ يَنْتَقِلُ إلَى وَلَدِهِ ; لِأَنَّهُمْ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ : أَوْلَادُ أَوْلَادِي وَدَخَلَتْ الطَّبَقَةُ فِي الْعُمُومِ فَلَمَّا خَرَجَتْ الطَّبَقَةُ بِالشَّرْطِ بَقِيَ وَلَدُ الْوَلَدِ . وَهَكَذَا كُلُّ لَفْظٍ عَامٍّ لِنَوْعَيْنِ أُخْرِجَ أَحَدُهُمَا فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ الْآخَرُ . وَهَذِهِ دَلَالَةٌ ثَانِيَةٌ عَلَى انْتِقَالِ نَصِيبِ الْمَيِّتِ عَنْ وَلَدٍ إلَى وَلَدِهِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ الْعَامِّ الَّذِي لَمْ يَبْقَ فِيهِ إلَّا هُمْ وَهِيَ غَيْرُ دَلَالَةِ التَّنْبِيهِ . وَإِنْ شِئْت عَبَّرْت عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ تَقُولَ : نَصِيبُ الْمَيِّتِ إمَّا لِلْأَوْلَادِ أَوْ لِأَوْلَادِ الْأَوْلَادِ كَمَا دَلَّ عَلَى انْحِصَارِ الْوَقْفِ فِيهِمَا قَوْلُهُ : عَلَى أَوْلَادِي ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ . فَكَمَا مَنَعَ الْأَوْلَادَ أَنْ يَنْتَقِلَ إلَيْهِمْ نَصِيبُ الْمَيِّتِ عَنْ وَلَدٍ : تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ لِلنَّوْعِ الْآخَرِ . يَبْقَى أَنْ يُقَالَ : فَقَدْ يَكُونُ هُنَاكَ مَنْ لَيْسَ مِنْ الطَّبَقَةِ ; وَلَا مِنْ الْوَلَدِ . قُلْنَا : إذَا ظَهَرَتْ الْفَائِدَةُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ حَصَلَ الْمَقْصُودُ وَهِيَ صُورَةُ مَسْأَلَتِنَا فَإِنَّا لَمْ نَتَكَلَّمْ إلَّا فِي نَصِيبِ الْمَيِّتِ : هَلْ يُصْرَفُ إلَى إخْوَتِهِ أَوْ وَلَدِهِ ؟ أَمَّا لَوْ كَانَ لِلْمَيِّتِ عَمٌّ - مَثَلًا - فَنَقُولُ : - حِرْمَانُ طَبَقَةِ الْمَيِّتِ تَنْبِيهٌ عَلَى حِرْمَانِ مَنْ هُمْ أَبْعَدُ عَنْهُ ; فَإِنَّ طَبَقَتَهُ لَمْ يَحْرِمْهُمْ لِبُعْدِهِمْ مِنْ الْوَقْفِ ; فَإِنَّ الْوَلَدَ أَبْعَدُ مِنْهُمْ . وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي إعْطَاءَ الْوَلَدِ فِي أَكْثَرِ الصُّوَرِ فَعُلِمَ أَنَّهُ حَرَمَهُمْ لِبُعْدِهِمْ عَنْ الْمَيِّتِ . وَهَذَا الْمَعْنَى فِي أَعْمَامِ الْمَيِّتِ أَقْوَى فَيَكُونُونَ بِالْمَنْعِ مَعَ الْوَلَدِ أَحْرَى . الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ : أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ تَرْتِيبَ الْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ ; لَا تَرْتِيبَ الْمَجْمُوعِ عَلَى الْمَجْمُوعِ كَمَا لَوْ قَالَ : عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ كَانَ نَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا حَمَلَ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ عَلَى مَفْهُومَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَإِنَّ فَائِدَتَهُ فِي الْأَوَّلِ بَيَانُ تَرْتِيبِ الْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ وَفِي الثَّانِي بَيَانُ اخْتِصَاصِ الطَّبَقَةِ بِنَصِيبِ الْمُتَوَفَّى . فَمَنْ مَنَعَ مِنْ أَنْ يُرَادَ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ حَقِيقَتَانِ . أَوْ مَجَازَانِ أَوْ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ : يُمْنَعُ مِنْهُ . وَمَنْ جَوَّزَهُ . قُلْنَا : عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ : إذَا ثَبَتَ أَمْرٌ بِلَفْظِ الْوَاقِفِ نَصًّا لَمْ يَجُزْ تَغْيِيرُهُ بِمُحْتَمَلِ مُتَرَدِّدٍ . قِيلَ هَذَا السُّؤَالُ ضَعِيفٌ جِدًّا لِوُجُوهِ : أَحَدُهَا : أَنَّ مَوْرِدَهُ جَعَلَهُ مُقَرِّرًا لِوَجْهِ ثَانٍ فِي بَيَانِ عَوْدِ الضَّمِيرِ إلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ ; غَيْرُ مَا ذَكَرَ أَوَّلًا مِنْ عَوْدِ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ . ثُمَّ إنَّهُ فِي آخِرِ الْأَمْرِ - عَلَى قَوْلِ الْمُجَوِّزِينَ لِأَنْ يُرَادَ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ مَعْنَيَاهُ - اعْتَمَدَ عَلَى ذَلِكَ الْجَوَابِ فَمَا صَارَ وَجْهًا آخَرَ . الثَّانِي : أَنَّا نَقُولُ : هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ أَفَادَ فِي الطَّبَقَةِ الْأَخِيرَةِ عَدَدَ نَصِيبِ الْمُتَوَفَّى عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ إلَى ذَوِي طَبَقَتِهِ . وَالْمُتَوَفَّى عَنْ وَلَدٍ يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ الطَّبَقَةِ . وَهَذَا مَمْنُوعٌ مِنْ وَجْهَيْنِ تَقَدَّمَا . الثَّالِثُ : لَوْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ فَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ إنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ وَذَلِكَ مَعْدُودٌ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُتَوَاطِئَةِ . وَذَلِكَ أَنَّ فَائِدَةَ اللَّفْظِ بِمَنْطُوقِهِ نَقْلُ نَصِيبِ الْمُتَوَفَّى عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ إلَى طَبَقَتِهِ . وَهَذِهِ فَائِدَةٌ مُتَجَدِّدَةٌ فِي جَمِيعِ الْجُمَلِ . ثُمَّ إنَّ تَقَيُّدَ الِانْتِقَالِ إلَى الطَّبَقَةِ بِوُجُودِ الْوَلَدِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ عَنَى تَرْتِيبَ الْأَفْرَادِ . وَهَذِهِ دَلَالَةٌ لُزُومِيَّةٌ . وَاللَّفْظُ إذَا دَلَّ بِالْمُطَابَقَةِ عَلَى مَعْنًى وَبِالِالْتِزَامِ عَلَى مَعْنًى آخَرَ لَمْ يَكُنْ هَذَا مِنْ الْقِسْمِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ كَعَامَّةِ الْأَلْفَاظِ فَإِنَّ كَوْنَهُ دَلِيلًا عَلَى تَرْتِيبِ الْأَفْرَادِ إنَّمَا جَاءَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ شُرِطَ فِي اسْتِحْقَاقِ الطَّبَقَةِ نَصِيبَ الْمُتَوَفَّى عَدَمُ وَلَدِهِ . ثُمَّ عَلِمَ بِالْعَقْلِ أَنَّهُ لَوْ قَصَدَ تَرْتِيبَ الْمَجْمُوعِ لَمْ يَشْرُطْهُ بِهَذَا الشَّرْطِ ; فَإِنَّ تَرْتِيبَ الْمَجْمُوعِ وَاشْتِرَاطَ هَذَا الشَّرْطِ مُتَنَافِيَانِ وَكَوْنَ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ يَتَنَافَيَانِ قَضِيَّةً عَقْلِيَّةً فُهِمَتْ بَعْدَ تَصَوُّرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ ; لِأَنَّ أَحَدَ اللَّفْظَيْنِ دَلَّ عَلَيْهِمَا بِالْوَضْعِ . وَهَذَا كَمَا فَهِمُوا مِنْ قَوْلِهِ { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } مَعَ قَوْله تَعَالَى { يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } أَنَّ أَقَلَّ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ . وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ . الرَّابِعُ : لَوْ فُرِضَ أَنَّ هَذَا مِنْ " بَابِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ فِي مَعْنَيَيْهِ " فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَنْعَ ذَلِكَ هُوَ الْحَقُّ ; بَلْ لَيْسَ ذَلِكَ مَذْهَبُ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمُعْتَبَرِينَ ; وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلُ طَائِفَة مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ . وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَعَامَّةِ الْفُقَهَاءِ وَعَامَّةِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَأَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ جَوَازُ ذَلِكَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُهُ عَلَى مَا يَعْتَقِدُ هُوَ صِحَّتَهُ وَيُنَاظِرُ عَلَيْهِ . الْخَامِسُ : أَنَّ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ أَنَّ النَّصَّ لَا يُدْفَعُ بِمُحْتَمَلِ . تَقَدَّمَ جَوَابُهُ وَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَا نَصَّ هُنَا ; بَلْ يُدْفَعُ الْمُحْتَمَلُ بِالنَّصِّ . وَذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا الْبَحْثَ هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ : أَنَّهُ قَصَدَ بِهَذَا الشَّرْطِ نَفْيَ انْقِطَاعِ الْوَقْفِ وَنَفْيَ اشْتِرَاكِ جَمِيعِ أَهْلِ الْوَقْفِ فِي نَصِيبِ الْمُتَوَفَّى عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ وَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ عَنَى بِقَوْلِهِ عَنْ : وَلَدِهِ . تَرْتِيبَ الْأَفْرَادِ . فَإِنْ قِيلَ : عَوْدُهُ إلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ يُوجِبُ انْقِطَاعَ الْوَقْفِ فِي الْوَسَطِ فَحَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى مَا يَنْفِي الِانْقِطَاعَ أَوْلَى ; لِأَنَّ مَنْ مَاتَ عَنْ وَلَدٍ لَا يَصْرِفُ نَصِيبَهُ إلَى الطَّبَقَةِ عَمَلًا بِمُوجَبِ الشَّرْطِ وَلَا إلَى الْوَلَدِ عَمَلًا بِمُوجَبِ التَّرْتِيبِ الْمُطْلَقِ . فَإِنْ قُلْتُمْ : إذَا جَعَلْنَاهُ مَبْنِيًّا لِتَرْتِيبِ الْأَفْرَادِ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلِانْقِطَاعِ فَنُجِيبُ عَنْهُ بِالْبَحْثِ الْمُتَقَدِّمِ وَهُوَ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الطَّبَقَةِ مُسْتَحَقٌّ لِظَاهِرِ اللَّفْظِ فَلَا يُتْرَكُ بِمُتَرَدِّدِ مُحْتَمَلٍ . قِيلَ : أَوَّلًا هَذَا الْوَجْهُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِهَذَا الْبَحْثِ وَهُوَ إنَّمَا ذَكَرَ لِيَكُونَ مُؤَيِّدًا لَهُ وَالْمُؤَيِّدُ لِلشَّيْءِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ وَلَا يَكُونُ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِ . فَإِذَا كَانَ الْوَجْهُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِذَلِكَ الْبَحْثِ كَانَتْ صِحَّتُهُ مَوْقُوفَةً عَلَى صِحَّتِهِ وَالْفَرْعُ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ أَصْلِهِ وَلَا يُكْسِبُهُ قُوَّةً ; بَلْ يَكُونُ تَقْوِيَةُ ذَلِكَ الْوَجْهِ بِهِ تَقْوِيَةَ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ . وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الْمُصَادَرَةِ . وَإِذَا كَانَ هَذَا مَبْنِيًّا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ وَقَدْ أَجَبْنَا عَنْهُ فِيمَا مَضَى : فَقَدْ حَصَلَ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا . ثُمَّ نَقُولُ : الِانْتِفَاعُ يَنْتَفِي مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْوَقْفَ مَحْصُورٌ فِي الْأَوْلَادِ ثُمَّ أَوْلَادِهِمْ . فَإِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ عَنْ وَلَدٍ فَنَصِيبُهُ إمَّا لِإِخْوَتِهِ أَوْ لِبَنِيهِمْ أَوْ لِبَنِيهِ أَوْ لِعُمُومَتِهِ ; لِأَنَّ الشَّرْطَ يَقْتَضِي انْحِصَارَ الْوَقْفِ فِي الْأَوْلَادِ ثُمَّ أَوْلَادِ الْأَوْلَادِ . وَهُمْ إمَّا ذُو طَبَقَتِهِ أَوْ مَنْ هُوَ أَعْلَى مِنْهُ : عُمُومَتُهُ وَنَحْوُهُمْ ; فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مَعَ وُجُودِ أَبِيهِ وَمَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ : وَلَدُهُ وَوَلَدُ إخْوَتِهِ وَطَبَقَتُهُمْ . فَأَمَّا طَبَقَتُهُ فَانْتَفَوْا بِالْقَيْدِ الْمَذْكُورِ فِي اسْتِحْقَاقِهِمْ . وَأَمَّا بَنُوهُمْ فَانْتَفَوْا لِثَلَاثَةِ أَسْبَابٍ أَحَدُهَا : بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ ; فَإِنَّ أَبَاهُمْ أَقْرَبُ إلَى الْمَيِّتِ وَإِلَى الْوَاقِفِ . فَإِذَا لَمْ يُنْقَلْ إلَى الْأَقْرَبِ فَإِلَى الْأَبْعَدِ أَوْلَى . وَالثَّانِي : أَنَّهُ سَوَاءٌ عَنَى بِالتَّرْتِيبِ تَرْتِيبَ الْمَجْمُوعِ أَوْ تَرْتِيبَ الْأَفْرَادِ لَا يَسْتَحِقُّونَ فِي هَذِهِ الْحَالِ ; فَإِنَّ الطَّبَقَةَ الْعُلْيَا لَمْ تَنْقَرِضْ وَآبَاؤُهُمْ لَمْ يَمُوتُوا . الثَّالِثُ أَنَّهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ وَلَمْ يَنْتَقِلْ إلَيْهِمْ مَا هُمْ أَصْلٌ فِيهِ فَلَا يَنْتَقِلُ إلَيْهِمْ مَا هُمْ فُرُوعٌ فِيهِ . وَأَمَّا الْعُمُومَةُ فَإِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْمَيِّتُ شَيْئًا مَعَ وُجُودِ عُمُومَتِهِ إلَّا عَلَى قَوْلِنَا فَفَرْضُ هَذِهِ الصُّورَةِ عَلَى رَأْيِ الْمُنَازِعِ مُحَالٌ . وَإِذَا كَانَ وُجُودُ الْعُمُومَةِ مُسْتَلْزِمًا لِصِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ : فَمُحَالٌ أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ مَا يُفْسِدُهُ ; فَإِنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ لَا يَسْتَلْزِمُ صِحَّةَ الشَّيْءِ وَفَسَادَهُ ; لَكِنْ يُقَالُ : قَدْ كَانَ الْمَيِّتُ أَوَّلًا لَمْ يُخَلِّفْ إلَّا إخْوَةً وَوَلَدًا ثُمَّ مَاتَ وَلَدُهُ عَنْ وَلَدٍ وَأَعْمَامِهِ . فَنَقُولُ : حِرْمَانُ الْإِخْوَةِ مَعَ الْوَلَدِ تَنْبِيهٌ عَلَى حِرْمَانِ الْعُمُومَةِ . وَهَذَا حَقِيقَةُ الْجَوَابِ : أَنَّ نَفْيَ إخْوَتِهِ تَنْبِيهٌ عَلَى نَفْيِ عُمُومَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ . الْوَجْهُ الثَّانِي : - النَّافِي لِلِانْقِطَاعِ - أَنَّ إعْطَاءَ الْإِخْوَةِ نَصِيبَ الْمَيِّتِ دُونَ سَائِرِ أَهْلِ الْوَقْفِ تَنْبِيهٌ عَلَى إعْطَاءِ الْوَلَدِ كَمَا تَقَدَّمَ . الثَّالِثُ : أَنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ الْمُتَقَدِّمَ : تَرْتِيبُ الْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ . وَقَدْ قَدَّمْنَا تَقْرِيرَ هَذَا . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يُوَفِّقُنَا لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .