وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تيمية رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ وَاقِفٍ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى أَوْلَادِهِ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ وَنَسْلِهِ وَعَقِبِهِ دَائِمًا مَا تَنَاسَلُوا : عَلَى أَنَّهُ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ وَلَا وَلَدِ وَلَدٍ وَلَا نَسْلٍ وَلَا عَقِبٍ : كَانَ مَا كَانَ جَارِيًا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَنْ فِي دَرَجَتِهِ وَذَوِي طَبَقَتِهِ . فَإِذَا تُوُفِّيَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ عَنْ وَلَدٍ أَوْ وَلَدِ وَلَدٍ أَوْ نَسْلٍ أَوْ عَقِبٍ لِمَنْ يَكُونُ نَصِيبُهُ ؟ هَلْ يَكُونُ لِوَلَدِهِ ؟ أَوْ لِمَنْ فِي دَرَجَتِهِ مِنْ الْإِخْوَةِ وَبَنِيَّ الْعَمِّ وَنَحْوِهِمْ ؟ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ قَوْلَهُ : عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ كَانَ نَصِيبُهُ لِذَوِي طَبَقَتِهِ . دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ لَمْ يَكُنْ نَصِيبُهُ لِذَوِي طَبَقَتِهِ . وَهَذِهِ دَلَالَةُ الْمَفْهُومِ ; وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ تَقْرِيرِهَا ; لَكِنْ نَذْكُرُ هُنَا نُكَتًا تُحْصِلُ الْمَقْصُودَ . أَحَدُهَا : أَنَّ الْقَوْلَ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا : مِنْ الْمَالِكِيَّةِ و الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ ; بَلْ هُوَ نَصُّ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ وَإِنَّمَا خَالَفَ طَوَائِفَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ مَعَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ . فَيَجِبُ أَنْ يُضَافَ إلَى مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ مَا يُوَافِقُ أُصُولَهُمْ . فَمَنْ نَسَبَ خِلَافَ هَذَا الْقَوْلِ إلَى مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ كَانَ مُخْطِئًا . وَإِنْ كَانَ بِمَا يَتَكَلَّمُ بِهِ مُجْتَهِدًا فَيَجِبُ أَنْ يَحْتَوِيَ عَلَى أَدَوَاتِ الِاجْتِهَادِ . وَمِمَّا يَقْضِي مِنْهُ الْعَجَبُ ظَنُّ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّ دَلَالَةَ الْمَفْهُومِ حُجَّةٌ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ دُونَ كَلَامِ النَّاسِ ; بِمَنْزِلَةِ الْقِيَاسِ . وَهَذَا خِلَافُ إجْمَاعِ النَّاسِ ; فَإِنَّ النَّاسَ إمَّا قَائِلٌ بِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ جُمْلَةِ دَلَالَاتِ الْأَلْفَاظِ . أَوْ قَائِلٌ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جُمْلَتِهَا . أَمَّا هَذَا التَّفْصِيلُ فَمُحْدَثٌ . ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ حُجَّةٌ إنَّمَا قَالُوا هُوَ حُجَّةٌ فِي الْكَلَامِ مُطْلَقًا ; وَاسْتَدَلُّوا عَلَى كَوْنِهِ حُجَّةً بِكَلَامِ النَّاسِ . وَبِمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ ; وَبِأَدِلَّةِ عَقْلِيَّةٍ تُبَيِّنُ لِكُلِّ ذِي نَظَرٍ أَنَّ دَلَالَةَ الْمَفْهُومِ مِنْ جِنْسِ دَلَالَةِ الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ وَهُوَ دَلَالَةٌ مِنْ دَلَالَاتِ اللَّفْظِ . وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي كَلَامِ الْعُلَمَاءِ وَالْقِيَاسُ لَيْسَ مِنْ دَلَالَاتِ الْأَلْفَاظِ الْمَعْلُومَةِ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ وَإِنَّمَا يَصِيرُ دَلِيلًا بِنَصِّ الشَّارِعِ ; بِخِلَافِ الْمَفْهُومِ ; فَإِنَّهُ دَلِيلٌ فِي اللُّغَةِ ; وَالشَّارِعُ بَيَّنَ الْأَحْكَامَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ . الثَّانِي : أَنَّ هَذَا الْمَفْهُومَ مِنْ بَابِ مَفْهُومِ الصِّفَةِ الْخَاصَّةِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَ الِاسْمِ الْعَامِّ وَهَذَا قَدْ وَافَقَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِمَّنْ خَالَفَ فِي الصِّفَةِ الْمُبْتَدَأَةِ حَتَّى إنَّ هَذَا الْمَفْهُومَ يَكُونُ حُجَّةً فِي الِاسْمِ غَيْرِ الْمُشْتَقِّ ; كَمَا احْتَجَّ بِهِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا } " { وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا طَهُورًا } . وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا قَالَ : النَّاسُ رَجُلَانِ مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ فَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَيَجِبُ عَلَيْك أَنْ تُحْسِنَ إلَيْهِ . عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ قَصَدَ تَخْصِيصَ الْمُسْلِمِ بِهَذَا الْحُكْمِ ; بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ ابْتِدَاءً : يَجِبُ عَلَيْك أَنْ تُحْسِنَ إلَى الْمُسْلِمِ . فَإِنَّهُ قَدْ يُظَنُّ أَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَهُ عَلَى الْعَادَةِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَى بَيَانِ حُكْمِهِ غَالِبًا ; كَمَا فِي قَوْلِهِ : " { كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ } و كَذَلِكَ " { فِي الْإِبِلِ السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ } أَقْوَى مِنْ قَوْلِهِ " { فِي السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ } لِأَنَّهُ إذَا قَالَ " { فِي الْإِبِلِ السَّائِمَةِ } فَلَوْ كَانَ حُكْمُهَا مَعَ السَّوْمِ وَعَدَمِهِ سَوَاءً لَكَانَ قَدْ طَوَّلَ اللَّفْظَ وَنَقَّصَ الْمَعْنَى أَمَّا إذَا قَالَ : " { فِي السَّائِمَةِ } فَقَدْ يُظَنُّ أَنَّهُ خَصَّهَا بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهَا أَغْلَبَ الْأَمْوَالِ أَوْ لِكَوْنِ الْحَاجَةِ إلَى بَيَانِهَا أَمَسَّ وَهَذَا بَيِّنٌ كَذَلِكَ هُنَا إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ انْتِقَالَ نَصِيبِ الْمَيِّتِ إلَى طَبَقَتِهِ مَعَ الْوَلَدِ وَعَدَمِهِ . فَلَوْ قَالَ : فَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ كَانَ نَصِيبُهُ لِذَوِي طَبَقَتِهِ . كَانَ قَدْ عَمَّمَ الْحُكْمَ الَّذِي أَرَادَهُ ; وَاخْتَصَرَ اللَّفْظَ . فَإِذَا قَالَ : فَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ وَلَا نَسْلٍ وَلَا عَقِبٍ كَانَ مَا كَانَ جَارِيًا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ لِمَنْ فِي دَرَجَتِهِ وَذَوِي طَبَقَتِهِ . كَانَ قَدْ طَوَّلَ الْكَلَامَ وَنَقَّصَ الْمَعْنَى ; بِخِلَافِ مَا إذَا حُمِلَ فِي ذَلِكَ عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِالْحُكْمِ ; فَإِنَّهُ يَبْقَى الْكَلَامُ صَحِيحًا مُعْتَبَرًا وَالْوَاجِبُ اعْتِبَارُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مَا أَمْكَنَ . وَلَا يَجُوز إلْغَاؤُهُ بِحَالِ مَعَ إمْكَانِ اعْتِبَارِهِ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ نفاة الْمَفْهُومِ لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ لِلتَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ سَبَبٌ غَيْرُ التَّخْصِيصِ بِالْحُكْمِ : إمَّا عَدَمُ الشُّعُورِ بِالْمَسْكُوتِ أَوْ عَدَمُ قَصْدِ بَيَانِ حُكْمِهِ أَوْ كَوْنِ الْمَسْكُوتِ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنْهُ أَوْ كَوْنِهِ مُسَاوِيًا لَهُ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ أَوْ كَوْنِهِ سُئِلَ عَنْ الْمَنْطُوقِ أَوْ كَوْنِهِ قَدْ جَرَى بِسَبَبِ أَوْجَبَ بَيَانَ الْمَنْطُوقِ أَوْ كَوْنِ الْحَاجَةِ دَاعِيَةً إلَى بَيَانِ الْمَنْطُوقِ أَوْ كَوْنِ الْغَالِبِ عَلَى أَفْرَادِ ذَلِكَ النَّوْعِ هُوَ الْمَنْطُوقُ فَإِذَا عُلِمَ أَوْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنْ لَا مُوجِبَ لِلتَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ وَنَحْوِهَا عُلِمَ أَنَّهُ إنَّمَا خَصَّهُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالْحُكْمِ . وَلِهَذَا كَانَ نفاة الْمَفْهُومِ يَحْتَجُّونَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ بِمَفْهُومَاتِ ; لِأَنَّهُمْ لَا يَمْنَعُونَ أَنْ يَظْهَرَ قَصْدُ التَّخْصِيصِ فِي بَعْضِ الْمَفْهُومَاتِ . وَهَذَا مِنْ هَذَا الْبَابِ ; فَإِنَّ قَوْلَهُ : مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ . قَدْ يُشْعِرُ بِالْقِسْمَيْنِ وَلَهُ مَقْصُودٌ فِي بَيَانِ الشَّرْطِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ ; فَإِنَّهُ إذَا جَعَلَ نَصِيبَ الْمَيِّتِ يَنْتَقِلُ إلَى إخْوَتِهِ عِنْدَ عَدَمِ وَلَدِهِ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَنْقُلَهُ إلَيْهِمْ مَعَ وُجُودِ وَلَدِهِ وَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إلَى بَيَانِ النَّوْعَيْنِ ; بَلْ لَوْ كَانَ النَّوْعَانِ عِنْدَهُ سَوَاءً - وَقَدْ خَصَّ بِالذِّكْرِ حَالَ عَدَمِ الْوَالِدِ - لَكَانَ مُلْبِسًا مُعْمِيًا ; لِأَنَّهُ يُوهِمُ خِلَافَ مَا قُصِدَ بِخِلَافِ مَا إذَا حُمِلَ عَلَى التَّخْصِيصِ . الرَّابِعُ : أَنَّ الْوَصْفَ إذَا كَانَ مُنَاسِبًا اقْتَضَى الْعَلِيَّةَ . وَكَوْنُ الْمَيِّتِ لَمْ يُخَلِّفْ وَلَدًا مُنَاسِبٌ لِنَقْلِ حَقِّهِ إلَى أَهْلِ طَبَقَتِهِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ النَّقْلِ إلَى ذَوِي الطَّبَقَةِ الْمَوْتُ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ فَيَزُولُ هَذَا بِزَوَالِ عِلَّتِهِ وَهُوَ وُجُودُ الْوَلَدِ . الْخَامِسُ : أَنَّ كُلَّ مَنْ سَمِعَ هَذَا الْخِطَابَ فُهِمَ مِنْهُ التَّخْصِيصُ وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنَّ هَذَا حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ . إمَّا أَصْلِيَّةٌ لُغَوِيَّةٌ أَوْ طَارِيَةٌ مَنْقُولَةٌ . وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يَجِبُ حَمْلُ كَلَامِ الْمُتَصَرِّفِينَ عَلَيْهَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ . وَاعْلَمْ أَنَّ إثْبَاتَ هَذَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْخَاصَّةِ لَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ كَوْنِ الْمَفْهُومِ دَلِيلًا ; لِأَنَّ الْمُخَالِفَ فِي الْمَفْهُومِ إنَّمَا يَدَّعِي سَلْبَ الْعُمُومِ عَنْ الْمَفْهُومَاتِ لَا عُمُومَ السَّلْبِ فِيهَا ; فَقَدْ يَكُونُ بَعْضُ الْمَفْهُومَاتِ دَلِيلًا لِظُهُورِ الْمَقْصُودِ فِيهَا . وَهَذَا الْمَفْهُومُ كَذَلِكَ ; بِدَلِيلِ فَهْمِ النَّاسِ مِنْهُ ذَلِكَ وَمَنْ نَازَعَ فِي فَهْمِ ذَلِكَ فَإِمَّا فَاسِدُ الْعَقْلِ أَوْ مُعَانِدٌ . وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَقْتَضِي عَدَمَ الِانْتِقَالِ إلَى ذَوِي الطَّبَقَةِ مَعَ وُجُودِ الْأَوْلَادِ فَإِمَّا أَنْ لَا يُصْرَفَ إلَيْهِمْ وَلَا إلَى الْأَوْلَادِ ; وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِهِ : عَلَى أَوْلَادِهِمْ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ أَبَدًا مَا تَنَاسَلُوا . أَوْ يُصْرَفُ إلَى الْأَوْلَادِ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ .