تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ . سُورَةُ الْإِخْلَاصِ سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد ابْنُ تيمية رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَمَّا وَرَدَ فِي سُورَةِ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } أَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ وَرَدَ فِي سُورَةِ ( الزَّلْزَلَةِ وَ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } وَ ( الْفَاتِحَةِ هَلْ مَا وَرَدَ فِي هَذِهِ الْمُعَادَلَةِ ثَابِتٌ فِي الْمَجْمُوعِ أَمْ فِي الْبَعْضِ ؟ وَمَنْ رَوَى ذَلِكَ ؟ وَمَا ثَبَتَ مِنْ ذَلِكَ ؟ وَمَا مَعْنَى هَذِهِ الْمُعَادَلَةِ وَكَلَامُ اللَّهِ وَاحِدٌ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ ؟ وَهَلْ هَذِهِ الْمُفَاضَلَةُ - بِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهَا - مُتَعَدِّيَةٌ إلَى الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ أَمْ لَا ؟ وَالصِّفَاتُ الْقَدِيمَةُ وَالْأَسْمَاءُ الْقَدِيمَةُ هَلْ يَجُوزُ الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَهَا مَعَ أَنَّهَا قَدِيمَةٌ ؟ وَمَنْ الْقَائِلُ بِذَلِكَ وَفِي أَيِّ كُتُبِهِ قَالَ ذَلِكَ وَوَجْهُ التَّرْجِيحِ فِي ذَلِكَ بِمَا يُمْكِنُ مِنْ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ وَنَقْلِيٍّ ؟
12345678910111213141516171819202122
وَلَا رَيْبَ أَنَّ التَّمَاثُلَ أَوْ التَّفَاضُلَ لَا يُعْقَلُ إلَّا مَعَ التَّعَدُّدِ وَتَعَدُّدُ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتُهُ وَكَلِمَاتُهُ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِفِطْرَةِ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ عَلَيْهَا عِبَادَهُ فَلِهَذَا كَانَ النَّاسُ يَتَخَاطَبُونَ بِمُوجِبِ الْفِطْرَةِ وَالشِّرْعَةِ وَإِنْ كَانَتْ لِبَعْضِهِمْ أَقْوَالٌ أُخَرُ تُنَافِي الْفِطْرَةَ وَالشِّرْعَةَ وَتَسْتَلْزِمُ بُطْلَانَ مَا يَقُولُهُ بِمُقْتَضَى الْفِطْرَةِ وَالشِّرْعَةِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ قَدْ دَلَّا عَلَى تَعَدُّدِ كَلِمَاتِ اللَّهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ } وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ قَوْلَ السَّلَفِ وَأَنَّهُمْ كَانُوا يُثْبِتُونَ لِلَّهِ كَلِمَاتٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا ; وَبَيَّنَّا النِّزَاعَ فِي تَعَدُّدِ الْعُلُومِ وَالْإِرَادَاتِ وَأَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ يَقُولُ مَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ النَّاسِ مِنْ تَعَدُّدِ ذَلِكَ وَأَنَّ الَّذِينَ قَالُوا يُرِيدُ جَمِيعَ الْمُرَادَاتِ بِإِرَادَةِ وَاحِدَةٍ إنَّمَا أَخَذُوهُ عَنْ ابْنِ كُلَّابٍ وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ قَالُوا : هَذَا مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ حَتَّى إنَّ مِنْ فُضَلَاءِ النُّظَّارِ مَنْ يُنْكِرُ أَنْ يَذْهَبَ إلَى هَذَا عَاقِلٌ مِنْ النَّاسِ لِأَنَّهُ رَآهُ ظَاهِرَ الْفَسَادِ فِي الْعَقْلِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ النُّظَّارِ . وَكَذَلِكَ مَنْ جَعَلَ نَفْسَ إرَادَتِهِ هِيَ رَحْمَتَهُ وَهِيَ غَضَبَهُ يَكُونُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَعُوذُ بِرِضَاك مِنْ سَخَطِك } مَعْنَاهُ يَكُونُ مُسْتَعِيذًا عِنْدَهُ بِنَفْسِ الْإِرَادَةِ مِنْ نَفْسِ الْإِرَادَةِ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ لِلْإِرَادَةِ صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ يُسْتَعَاذُ بِهَا مِنْ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الْوَجْهِ مِنْهَا بِاعْتِبَارِ الْوَجْهِ الْآخَرِ . بَلْ الْإِرَادَةُ عِنْدَهُ لَهَا مُجَرَّدُ تَعَلُّقٍ بِالْمَخْلُوقَاتِ وَالتَّعَلُّقُ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ . وَهَذَا بِخِلَافِ الِاسْتِعَاذَةِ بِهِ مِنْهُ لِأَنَّ لَهُ سُبْحَانَهُ صِفَاتٌ مُتَنَوِّعَةٌ فَيُسْتَعَاذُ بِهِ بِاعْتِبَارِ وَمِنْهُ بِاعْتِبَارِ . وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ ذَاتٌ لَا صِفَةَ لَهَا أَوْ مَوْجُودٌ مُطْلَقٌ لَا يَتَّصِفُ بِصِفَةِ ثُبُوتِيَّةٍ فَهَذَا يَمْتَنِعُ تَحَقُّقُهُ فِي الْخَارِجِ وَإِنَّمَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُ هَذَا فِي الذِّهْنِ كَمَا تُقَدَّرُ الممتنعات فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ رَبًّا خَالِقًا لِلْمَخْلُوقَاتِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . وَهَؤُلَاءِ أَلْجَأَهُمْ إلَى هَذِهِ الْأُمُورِ مُضَايَقَاتُ الجهمية وَالْمُعْتَزِلَةِ لَهُمْ فِي مَسَائِلِ الصِّفَاتِ فَإِنَّهُمْ صَارُوا يَقُولُونَ لَهُمْ : كَلَامُ اللَّهِ هُوَ اللَّهُ أَوْ غَيْرُ اللَّهِ ؟ إنْ قُلْتُمْ هُوَ غَيْرُهُ فَمَا كَانَ غَيْرُ اللَّهِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ وَإِنْ قُلْتُمْ هُوَ هُوَ فَهُوَ مُكَابَرَةٌ . وَهَذَا أَوَّلُ مَا احْتَجُّوا بِهِ عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَد فِي الْمِحْنَةِ فَإِنَّ الْمُعْتَصِمَ لَمَّا قَالَ لَهُمْ : نَاظِرُوهُ قَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إسْحَاقَ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ - أَوْ قَالَ فِي كَلَامِ اللَّهِ - يَعْنِي أَهُوَ اللَّهُ أَوْ غَيْرُهُ ؟ فَقَالَ لَهُ أَحْمَد : مَا تَقُولُ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَهُوَ اللَّهُ أَوْ غَيْرُهُ ؟ فَعَارَضَهُ أَحْمَد بِالْعِلْمِ فَسَكَتَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ . وَهَذَا مِنْ حُسْنِ مَعْرِفَةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بِالْمُنَاظَرَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ . فَإِنَّ الْمُبْتَدِعَ الَّذِي بَنَى مَذْهَبَهُ عَلَى أَصْلٍ فَاسِدٍ مَتَى ذَكَرْت لَهُ الْحَقَّ الَّذِي عِنْدَك ابْتِدَاءً أَخَذَ يُعَارِضُك فِيهِ ; لِمَا قَامَ فِي نَفْسِهِ مِنْ الشُّبْهَةِ فَيَنْبَغِي إذَا كَانَ الْمَنَاظِرُ مُدَّعِيًا أَنَّ الْحَقَّ مَعَهُ أَنْ يَبْدَأَ بِهَدْمِ مَا عِنْدَهُ فَإِذَا انْكَسَرَ وَطَلَبَ الْحَقَّ فَأَعْطِهِ إيَّاهُ وَإِلَّا فَمَا دَامَ مُعْتَقِدًا نَقِيضَ الْحَقِّ لَمْ يَدْخُلْ الْحَقُّ إلَى قَلْبِهِ كَاللَّوْحِ الَّذِي كُتِبَ فِيهِ كَلَامٌ بَاطِلٌ اُمْحُهُ أَوَّلًا ثُمَّ اُكْتُبْ فِيهِ الْحَقَّ . وَهَؤُلَاءِ كَانَ قَصْدُهُمْ الِاحْتِجَاجَ لِبِدْعَتِهِمْ فَذَكَرَ لَهُمْ الْإِمَامُ أَحْمَد رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ الْمُعَارَضَةِ وَالنَّقْضِ مَا يُبْطِلُهَا . وَقَدْ تَكَلَّمَ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي رَدِّهِ عَلَى الجهمية فِي جَوَابِ هَذَا وَبَيَّنَ أَنَّ لَفْظَ " الْغَيْرِ " لَمْ يَنْطِقْ بِهِ الشَّرْعُ لَا نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا وَحِينَئِذٍ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا لَفْظُ " الْغَيْرِ " فِي كَلَامِ الشَّارِعِ وَلَا غَيْرَ دَاخِلٍ فَلَا يَقُومُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى أَنَّهُ مَخْلُوقٌ . وَأَيْضًا فَهُوَ لَفْظٌ مُجْمَلٌ : يُرَادُ بِالْغَيْرِ مَا هُوَ مُنْفَصِلٌ عَنْ الشَّيْءِ وَيُرَادُ بِالْغَيْرِ مَا لَيْسَ هُوَ الشَّيْءُ فَلِهَذَا لَا يُطْلَقُ الْقَوْلُ بِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ وَعِلْمَ اللَّهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ هُوَ هُوَ لِأَنَّ هَذَا بَاطِلٌ . وَلَا يُطْلَقُ أَنَّهُ غَيْرُهُ لِئَلَّا يُفْهَمَ أَنَّهُ بَائِنٌ عَنْهُ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد عَلَيْهِ الْحُذَّاقُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ فَهَؤُلَاءِ لَا يُطْلِقُونَ أَنَّهُ هُوَ وَلَا يُطْلِقُونَ أَنَّهُ غَيْرُهُ وَلَا يَقُولُونَ لَيْسَ هُوَ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ . فَإِنَّ هَذَا أَيْضًا إثْبَاتُ قِسْمٍ ثَالِثٍ وَهُوَ خَطَأٌ فَفَرْقٌ بَيْنَ تَرْكِ إطْلَاقِ اللَّفْظَيْنِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْإِجْمَالِ وَبَيْنَ نَفْيِ مُسَمَّى اللَّفْظَيْنِ مُطْلَقًا وَإِثْبَاتِ مَعْنًى ثَالِثٍ خَارِجٍ عَنْ مُسَمَّى اللَّفْظَيْنِ . فَجَاءَ بَعْدَ هَؤُلَاءِ " أَبُو الْحَسَنِ وَكَانَ أَحْذَقَ مِمَّنْ بَعْدَهُ فَقَالَ : نَنْفِي مُفْرَدًا لَا مَجْمُوعًا فَنَقُولُ مُفْرَدًا : لَيْسَتْ الصِّفَةُ هِيَ الْمَوْصُوفُ وَنَقُولُ مُفْرَدًا : لَيْسَتْ غَيْرُهُ وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا فَيُقَالُ : لَا هِيَ هُوَ وَلَا هِيَ غَيْرُهُ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ النَّفْيِ فِيهِ مِنْ الْإِيهَامِ مَا لَيْسَ فِي التَّفْرِيقِ . وَجَاءَ بَعْدَهُ أَقْوَامٌ فَقَالُوا : بَلْ نَنْفِي مَجْمُوعًا فَنَقُولُ : لَا هِيَ هُوَ وَلَا هِيَ غَيْرُهُ . ثُمَّ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ إذَا بَحَثُوا يَقُولُونَ هَذَا الْمَعْنَى أَمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ فَيَتَنَاقَضُونَ . وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ " الْغَيْرِ " مُجْمَلٌ : يُرَادُ بِالْغَيْرِ : الْمُبَايِنُ الْمُنْفَصِلُ وَيُرَادُ بِالْغَيْرِ : مَا لَيْسَ هُوَ عَيْنُ الشَّيْءِ . وَقَدْ يُعَبِّرُ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الغيرين مَا جَازَ وُجُودُ أَحَدِهِمَا وَعَدَمُهُ أَوْ مَا جَازَ مُفَارَقَةُ أَحَدِهِمَا الْآخَرَ بِزَمَانِ أَوْ مَكَانٍ أَوْ وُجُودٍ وَيُعَبِّرُ عَنْ الثَّانِي بِأَنَّهُ مَا جَازَ الْعِلْمُ بِأَحَدِهِمَا مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالْآخَرِ . وَبَيْنَ هَذَا وَهَذَا فَرْقٌ ظَاهِرٌ فَصِفَاتُ الرَّبِّ اللَّازِمَةُ لَهُ لَا تُفَارِقُهُ أَلْبَتَّةَ فَلَا تَكُونُ غِيَرًا بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ وَيَجُوزُ أَنْ تَعْلَمَ بَعْضَ الصِّفَاتِ دُونَ بَعْضٍ وَتَعْلَمَ الذَّاتَ دُونَ الصِّفَةِ فَتَكُونُ غِيَرًا بِاعْتِبَارِ الثَّانِي وَلِهَذَا أَطْلَقَ كَثِيرٌ مِنْ مُثَبِّتَةِ الصِّفَاتِ عَلَيْهَا أَغْيَارًا لِلذَّاتِ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : نَقُولُ إنَّهَا غَيْرُ الذَّاتِ وَلَا نَقُولُ إنَّهَا غَيْرُ اللَّهِ فَإِنَّ لَفْظَ الذَّاتِ لَا يَتَضَمَّنُ الصِّفَاتِ بِخِلَافِ اسْمِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الصِّفَاتِ ; وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ - عَلَى قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ - أَنْ لَا يُقَالَ فِي الصِّفَاتِ : إنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى مُسَمَّى اسْمِ اللَّهِ ; بَلْ مَنْ قَالَ ذَلِكَ فَقَدْ غَلِطَ عَلَيْهِمْ . وَإِذَا قِيلَ : هَلْ هِيَ زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ أَمْ لَا ؟ كَانَ الْجَوَابُ : إنَّ الذَّاتَ الْمَوْجُودَةَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلصِّفَاتِ فَلَا يُمْكِنُ وُجُودُ الذَّاتِ مُجَرَّدَةً عَنْ الصِّفَاتِ ; بَلْ وَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ مِنْ الذَّوَاتِ مُجَرَّدًا عَنْ جَمِيعِ الصِّفَاتِ بَلْ لَفْظُ " الذَّاتِ " تَأْنِيثُ " ذُو " وَلَفْظُ " ذُو " مُسْتَلْزِمٌ لِلْإِضَافَةِ . وَهَذَا اللَّفْظُ مُوَلَّدٌ وَأَصْلُهُ أَنْ يُقَالَ : ذَاتُ عِلْمٍ ذَاتُ قُدْرَةٍ ذَاتُ سَمْعٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } وَيُقَالُ : فُلَانَةٌ ذَاتُ مَالٍ ذَاتُ جَمَالٍ . ثُمَّ لَمَّا عَلِمُوا أَنَّ نَفْسَ الرَّبِّ ذَاتُ عِلْمٍ وَقُدْرَةٍ وَسَمْعٍ وَبَصَرٍ - رَدًّا عَلَى مَنْ نَفَى صِفَاتِهَا - عَرَفُوا لَفْظَ الذَّاتِ وَصَارَ التَّعْرِيفُ يَقُومُ مَقَامَ الْإِضَافَةِ فَحَيْثُ قِيلَ لَفْظُ الذَّاتِ فَهُوَ ذَاتُ كَذَا فَالذَّاتُ لَا تَكُونُ إلَّا ذَاتَ عِلْمٍ وَقُدْرَةٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ لَفْظًا وَمَعْنًى . وَإِنَّمَا يُرِيدُ محققوا أَهْلِ السُّنَّةِ بِقَوْلِهِمْ " الصِّفَاتُ زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ " أَنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى مَا أَثْبَتَهُ نفاة الصِّفَاتِ مِنْ الذَّاتِ فَإِنَّهُمْ أَثْبَتُوا ذَاتًا مُجَرَّدَةً لَا صِفَاتٍ لَهَا فَأَثْبَتَ أَهْلُ السُّنَّةِ الصِّفَاتِ زَائِدَةً عَلَى مَا أَثْبَتَهُ هَؤُلَاءِ فَهِيَ زِيَادَةٌ فِي الْعِلْمِ وَالِاعْتِقَادِ وَالْخَبَرِ لَا زِيَادَةَ عَلَى نَفْسِ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ . بَلْ نَفْسُهُ الْمُقَدَّسَةُ مُتَّصِفَةٌ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُفَارِقَهَا فَلَا تُوجَدُ الصِّفَاتُ بِدُونِ الذَّاتِ وَلَا الذَّاتُ بِدُونِ الصِّفَاتِ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْأَشْعَرِيَّ وَغَيْرَهُ مِنْ الصفاتية - الَّذِينَ سَلَكُوا مَسْلَكَ ابْنِ كُلَّابٍ - إذَا قَالَ أَحَدُهُمْ فِي الصِّفَاتِ إنَّهَا مُتَمَاثِلَةٌ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ إذْ الْمِثْلَانِ مَا سَدَّ أَحَدُهُمَا مُسَدَّ الْآخَرِ وَقَامَ مَقَامَهُ وَالْعِلْمُ لَيْسَ مَثَلًا لِلْقُدْرَةِ وَلَا الْقُدْرَةُ مَثَلًا لِلْإِرَادَةِ وَأَمَّا الْكَلَامُ فَإِنَّهُ عِنْدَهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَالْوَاحِدُ يَمْتَنِعُ فِيهِ تَفَاضُلٌ أَوْ تَمَاثُلٌ . وَفِي الْجُمْلَةِ فَاَلَّذِينَ يَمْنَعُونَ أَنْ يَكُونَ كَلَامُ اللَّهِ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ لَهُمْ مَأْخَذَانِ : " أَحَدُهُمَا " أَنَّ صِفَاتِ الرَّبِّ لَا يَكُونُ بَعْضُهَا أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ وَقَدْ يُعَبِّرُونَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْقَدِيمَ لَا يَتَفَاضَلُ . " وَالثَّانِي " أَنَّهُ وَاحِدٌ وَالْوَاحِدُ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ تَفَاضُلٌ وَلَا تَمَاثُلٌ . وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : إنَّهُ وَاحِدٌ بِالْعَيْنِ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّهُ وَاحِدٌ بِالْعَيْنِ مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ مَعَ ذَلِكَ حُرُوفًا أَوْ حُرُوفًا وَأَصْوَاتًا قَدِيمَةَ الْأَعْيَانِ وَيَقُولُ : هُوَ مَعَ ذَلِكَ شَيْءٌ وَاحِدٌ كَمَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ أَخَذُوا عَنْ الكلابية أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إلَّا إرَادَةٌ وَاحِدَةٌ وَعِلْمٌ وَاحِدٌ وَقُدْرَةٌ وَاحِدَةٌ وَكَلَامٌ وَاحِدٌ وَأَنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ . وَأَخَذُوا عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ مُجَرَّدُ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ وَالْتَزَمُوا أَنَّ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ قَدِيمَةُ الْأَعْيَانِ مَعَ أَنَّهَا مُتَرَتِّبَةٌ فِي نَفْسِهَا تَرَتُّبًا ذَاتِيًّا فِي الْوُجُودِ أَزَلِيَّةً لَمْ يَزَلْ بَعْضُهَا مُقَارِنًا لِبَعْضِ وَفَرَّقُوا بَيْنَ ذَاتِ الشَّيْءِ وَبَيْنَ وُجُودِهِ فِي الْخَارِجِ مُوَافَقَةً لِمَنْ يَقُولُ ذَلِكَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِهِ وَأَنَّهُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ لَا يَقُولُونَ إنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ بَلْ يَجْعَلُونَهُ مُتَعَدِّدًا مَعَ قِدَمِ الْقُرْآنِ وَقِدَمِ أَعْيَانِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ . وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِمَنْ يَقُولُ إنَّهُ وَاحِدٌ بِالْعَيْنِ : أَنَّ الْقَدِيمَ هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَبَعَّضُ كَمَا قَدْ بَيَّنَ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ . وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمَنْسُوبُ إلَى ابْنِ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ . وَهَذَا الْقَوْلُ أَوَّلُ مَنْ عُرِفَ أَنَّهُ قَالَهُ فِي الْإِسْلَامِ ابْنُ كُلَّابٍ لَمْ يَسْبِقْهُ إلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ وَلَا غَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ كَثْرَةِ مَا تَكَلَّمَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعَ أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمَ وَأَهَمِّ أُمُورِ الدِّينِ الَّذِي تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ وَذِكْرِهِ وَمَعَ تَوَاتُرِ نَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ . وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مِمَّا يَدُلُّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَآثَارُ السَّلَفِ عَلَى خِلَافِهِ . وكل مِنْهَا مِمَّا اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ الَّذِينَ يَتَصَوَّرُونَهُ عَلَى أَنَّ فَسَادَهُ مَعْلُومٌ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَيَجُوزُ اتِّفَاقُ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُقَلَاءِ عَلَى قَوْلٍ يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ إذَا كَانَ عَنْ تَوَاطُؤٍ كَمَا يَجُوزُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ تَوَاطُؤًا وَأَمَّا بِدُونِ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ . فَالْمَذْهَبُ الَّذِي تَقَلَّدَهُ بَعْضُ النَّاسِ عَنْ بَعْضٍ - كَقَوْلِ النَّصَارَى وَالرَّافِضَةِ والجهمية وَالدَّهْرِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ - يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ قَالُوهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَأَمَّا أَنْ يَقُولُوهُ مِنْ غَيْرِ تَوَاطُؤٍ فَهَذَا لَا يَقَعُ وَأَكْثَرُ الْمُتَقَلِّدِينَ لِلْأَقْوَالِ الْفَاسِدَةِ لَا يَتَصَوَّرُونَهَا تَصَوُّرًا تَامًّا حَتَّى يَكُونَ تَصَوُّرُهَا التَّامُّ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ بِفَسَادِهَا . ثُمَّ إذَا اُشْتُهِرَ الْقَوْلُ عِنْدَ طَائِفَةٍ لَمْ يَعْلَمُوا غَيْرَهُ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ ظَنُّوا أَنَّهُ قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ .