تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ . سُورَةُ الْإِخْلَاصِ سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد ابْنُ تيمية رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَمَّا وَرَدَ فِي سُورَةِ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } أَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ وَرَدَ فِي سُورَةِ ( الزَّلْزَلَةِ وَ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } وَ ( الْفَاتِحَةِ هَلْ مَا وَرَدَ فِي هَذِهِ الْمُعَادَلَةِ ثَابِتٌ فِي الْمَجْمُوعِ أَمْ فِي الْبَعْضِ ؟ وَمَنْ رَوَى ذَلِكَ ؟ وَمَا ثَبَتَ مِنْ ذَلِكَ ؟ وَمَا مَعْنَى هَذِهِ الْمُعَادَلَةِ وَكَلَامُ اللَّهِ وَاحِدٌ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ ؟ وَهَلْ هَذِهِ الْمُفَاضَلَةُ - بِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهَا - مُتَعَدِّيَةٌ إلَى الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ أَمْ لَا ؟ وَالصِّفَاتُ الْقَدِيمَةُ وَالْأَسْمَاءُ الْقَدِيمَةُ هَلْ يَجُوزُ الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَهَا مَعَ أَنَّهَا قَدِيمَةٌ ؟ وَمَنْ الْقَائِلُ بِذَلِكَ وَفِي أَيِّ كُتُبِهِ قَالَ ذَلِكَ وَوَجْهُ التَّرْجِيحِ فِي ذَلِكَ بِمَا يُمْكِنُ مِنْ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ وَنَقْلِيٍّ ؟
12345678910111213141516171819202122
وَسُورَةُ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } أَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ . وَقَدْ ذُكِرَ فِي أَسْبَابِ نُزُولِهَا سُؤَالُ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ وَسُؤَالُ الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودُ بِالْمَدِينَةِ وَلَا مُنَافَاةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهَا بِمَكَّةَ أَوَّلًا ثُمَّ لَمَّا سُئِلَ نَحْوَ ذَلِكَ أَنْزَلَهَا مَرَّةً أُخْرَى . وَهَذَا مِمَّا ذَكَرَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَقَالُوا : إنَّ الْآيَةَ أَوْ السُّورَةَ قَدْ تَنْزِلُ مَرَّتَيْنِ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ . فَمَا يُذْكَرُ مِنْ أَسْبَابِ النُّزُولِ الْمُتَعَدِّدَةِ قَدْ يَكُونُ جَمِيعُهُ حَقًّا . وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّهُ إذَا حَدَثَ سَبَبٌ يُنَاسِبُهَا نَزَلَ جِبْرِيلُ فَقَرَأَهَا عَلَيْهِ لِيُعَلِّمَهُ أَنَّهَا تَتَضَمَّنُ جَوَابَ ذَلِكَ السَّبَبِ وَإِنْ كَانَ الرَّسُولُ يَحْفَظُهَا قَبْلَ ذَلِكَ . وَالْوَاحِدُ مِنَّا قَدْ يَسْأَلُ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَيَذْكُرُ لَهُ الْآيَةَ أَوْ الْحَدِيثَ لِيُبَيِّنَ لَهُ دَلَالَةَ النَّصِّ عَلَى تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ حَافِظٌ لِذَلِكَ لَكِنْ يُتْلَى عَلَيْهِ ذَلِكَ النَّصُّ لِيَتَبَيَّنَ وَجْهُ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْبَدَلَ لَمَّا أَخَّرَ نُزُولَهُ بِخِلَافِ مَا كَانَ عِنْدَهُمْ لَمْ يُنْسَخْ فَإِنَّ هَذَا لَا بَدَلَ لَهُ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ سَيُنْسَخُ فَإِنَّهُ مَا دَامَ مُحْكَمًا لَمْ يَكُنْ بَدَلُهُ خَيْرًا مِنْهُ . وَكَذَلِكَ الْبَدَلُ عَنْ الْمَنْسُوخِ يَكُونُ خَيْرًا مِنْهُ . وَأَكْثَرُ السَّلَفِ أَطْلَقُوا لَفْظَ " خَيْرٍ مِنْهَا " كَمَا فِي الْقُرْآنِ وَلَمْ يَسْتَشْكِلْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ . وَفِي تَفْسِيرِ الْوَالِبِيَّ : خَيْرٌ لَكُمْ فِي الْمَنْفَعَةِ وَأَرْفُقُ بِكُمْ . وَعَنْ قتادة { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } آيَةٌ فِيهَا تَخْفِيفٌ فِيهَا رُخْصَةٌ فِيهَا أَمْرٌ فِيهَا نَهْيٌ . وَهَذَانِ لَمْ يَسْتَشْكِلَا كَوْنَهَا خَيْرًا مِنْ الْأُولَى بَلْ بَيَّنَا وَجْهَ الْفَضِيلَةِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْكَلَامَ الْأَمْرِيَّ يَتَفَاضَلُ بِحَسَبِ الْمَطْلُوبِ فَإِذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ أَنْفَعَ لِلْمَأْمُورِ كَانَ طَلَبُهُ أَفْضَلَ كَمَا أَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ الَّتِي سَبَقَتْ غَضَبَهُ هِيَ أَفْضَلُ مِنْ غَضَبِهِ . فَمَا قَالَاهُ تَقْرِيرٌ لِلْخَيْرِيَّةِ لَا نَفْيَ لَهَا . فَإِنْ قِيلَ : فَآيَةُ الْكُرْسِيِّ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا أَعْظَمُ آيَةً فِي كِتَابِ اللَّهِ وَإِنَّمَا نَزَلَتْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ - وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ - فَقَدْ أَخَّرَ نُزُولَهَا وَلَمْ يَنْزِلْ قَبْلَهَا مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا وَلَا مِثْلُهَا . قِيلَ : عَنْ هَذَا أَجْوِبَةٌ : أَحَدُهَا : أَنَّ اللَّهَ قَالَ : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } وَلَمْ يَقُلْ بِآيَةِ خَيْرٍ مِنْهَا بَلْ يَأْتِي بِقُرْآنِ خَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا . وَآيَةُ الْكُرْسِيِّ وَإِنْ كَانَتْ أَفْضَلَ الْآيَاتِ فَقَدْ يَكُونُ مَجْمُوعُ آيَاتٍ أَفْضَلَ مِنْهَا . وَالْبَقَرَةُ وَإِنْ كَانَتْ مَدَنِيَّةً بِالِاتِّفَاقِ وَقَدْ قِيلَ إنَّهَا أَوَّلُ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ فَلَا رَيْب أَنَّ هَذَا فِي بَعْضِ مَا نَزَلَ وَإِلَّا فَتَحْرِيمُ الرِّبَا إنَّمَا نَزَلَ مُتَأَخِّرًا . وَقَوْلُهُ : { وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إلَى اللَّهِ } مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ . وَقَوْلُهُ : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } نَزَلَتْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَقَدْ كَانَتْ سُورَةُ الْحَشْرِ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي بَنِي النَّضِيرِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ وَقِصَّةُ بَنِي النَّضِيرِ كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً عَلَى الْحُدَيْبِيَةِ بَلْ عَلَى الْخَنْدَقِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ وَإِنَّمَا تَأَخَّرَ عَنْ الْخَنْدَقِ أَمْرُ بَنِي قُرَيْظَةَ فَهُمْ الَّذِينَ حَاصَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقِبَ الْخَنْدَقِ وَأَمَّا بَنُو النَّضِيرِ فَكَانَ أَجْلَاهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَكَذَلِكَ سُورَةُ الْحَدِيدِ مَدَنِيَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَقَدْ قِيلَ إنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ فِيهَا ذِكْرُ الْمُنَافِقِينَ وَذِكْرُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهَذَا إنَّمَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ لَكِنْ يُمْكِنُ أَنَّهَا نَزَلَتْ قَبْلَ كَثِيرٍ مِنْ الْبَقَرَةِ . فَفِي الْجُمْلَةِ نُزُولُ أَوَّلِ الْحَدِيدِ وَآخِرِ الْحَشْرِ قَبْلَ آيَةِ الْكُرْسِيِّ مُمْكِنٌ وَالْأَنْعَامِ وَيس وَغَيْرُهَا نَزَلَ قَبْلَ آيَةِ الْكُرْسِيِّ بِالِاتِّفَاقِ . الْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّهُ تَعَالَى إنَّمَا وَعَدَ أَنَّهُ إذَا نَسَخَ آيَةً أَوْ نَسَأَهَا أَتَى بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا لَمَّا أَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ قَوْلُهُ { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ تَضَمَّنَتْ وَعْدَهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ بِذَلِكَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمِيعَادُ . فَمَا نَسَخَهُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ أَوْ أَنْسَأَ نُزُولَهُ مِمَّا يُرِيدُ إنْزَالَهُ يَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهُ أَوْ مِثْلِهِ . وَأَمَّا مَا نَسَخَهُ قَبْلَ هَذِهِ أَوْ أَنْسَأَهُ فَلَمْ يَكُنْ قَدْ وَعَدَ حِينَئِذٍ أَنَّهُ يَأْتِي بِخَيْرٍ مِنْهُ أَوْ مِثْلِهِ . وَبِهَذَا أَيْضًا يَنْدَفِعُ الْجَوَابُ عَنْ الْفَاتِحَةِ فَإِنَّهُ لَا رَيْبَ أَنَّهُ تَأَخَّرَ نُزُولُهَا عَنْ سُورَةِ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } وَهِيَ أَفْضَلُ مِنْهَا . فَعُلِمَ أَنَّهُ قَدْ يَتَأَخَّرُ إنْزَالُ الْفَاضِلِ وَأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا تَأَخَّرَ نُزُولُهُ نَزَلَ قَبْلَهُ مِثْلُهُ أَوْ خَيْرٌ مِنْهُ . لَكِنْ إذَا كَانَ الْمَوْعُودُ بِهِ بَعْدَ الْوَعْدِ لَمْ يَرُدَّ هَذَا السُّؤَالَ . يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ { مَا نَنْسَخْ } فَإِنَّ هَذَا الْفِعْلَ الْمُضَارِعَ الْمَجْزُومَ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْمُسْتَقْبَلَ وَجَوَازِمَ الْفِعْلِ " إنَّ " وَأَخَوَاتِهَا وَنَوَاصِبَهُ تَخَلُّصُهُ لِلِاسْتِقْبَالِ . وَقَدْ يُجَابُ بِجَوَابِ ثَالِثٍ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ : مَا نَزَلَ فِي وَقْتِهِ كَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ خَيْرًا لَهُمْ فِي وَقْتٍ آخَرَ وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ فَضْلُ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ عَلَى وَجْهَيْنِ : لَازِمٌ كَفَضْلِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَفَاتِحَةِ الْكِتَابِ و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَفَضْلٌ عَارِضٌ بِحَيْثُ تَكُونُ هَذِهِ أَفْضَلَ فِي وَقْتٍ وَهَذِهِ أَفْضَلَ فِي وَقْتٍ آخَرَ كَمَا قَدْ يُقَالُ فِي آيَةِ التَّخْيِيرِ لِلْمُقِيمِ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ مَعَ الْفِدْيَةِ وَمَعَ آيَةِ إيجَابِ الصَّوْمِ عَزْمًا . وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْأَفْعَالَ الْمَأْمُورَ بِهَا كُلٌّ مِنْهَا فِي وَقْتِهِ أَفْضَلُ فَالصَّلَاةُ إلَى الْقُدْسِ قَبْلَ النَّسْخِ كَانَتْ أَفْضَلَ وَبَعْدَ النَّسْخِ الصَّلَاةُ إلَى الْكَعْبَةِ أَفْضَلُ . وَعَلَى مَا ذُكِرَ فَيَتَوَجَّهُ الِاحْتِجَاجُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْسَخُ الْقُرْآنَ إلَّا قُرْآنٌ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد بَلْ هِيَ الْمَنْصُوصَةُ عَنْهُ صَرِيحًا أَنْ لَا يَنْسَخَ الْقُرْآنَ إلَّا قُرْآنٌ يَجِيءُ بَعْدَهُ وَعَلَيْهَا عَامَّةُ أَصْحَابِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْمَنْسُوخِ مِنْ بَدَلٍ مُمَاثِلٍ أَوْ خَيْرٍ وَوَعْدٍ بِأَنَّ مَا أَنْسَاهُ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ كَذَلِكَ وَأَنَّ مَا أَخَّرَهُ فَلَمْ يَأْتِ وَقْتُ نُزُولِهِ فَهُوَ كَذَلِكَ وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَزَالُ عِنْدَ الْمُؤْمِنِ الْقُرْآنُ الَّذِي رُفِعَ أَوْ آخَرُ مِثْلُهُ أَوْ خَيْرٌ مِنْهُ وَلَوْ نُسِخَ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ لَمْ يَأْتِ قُرْآنٌ مِثْلُهُ أَوْ خَيْرٌ مِنْهُ فَهُوَ خِلَافُ مَا وَعَدَ اللَّهُ . وَإِنْ قِيلَ بَلْ يَأْتِي بَعْدَ نَسْخِهِ بِالسُّنَّةِ كَانَ بَيْنَ نَسْخِهِ وَبَيْنَ الْإِتْيَانِ بِالْبَدَلِ مُدَّةٌ خَالِيَةٌ عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ خِلَافُ مَقْصُودِ الْآيَةِ فَإِنَّ مَقْصُودَهَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْمَرْفُوعِ أَوْ مِثْلِهِ أَوْ خَيْرٍ مِنْهُ . وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ { نَأْتِ } لَمْ يَرِدْ بِهِ بَعْدَ مُدَّةٍ فَإِنَّ الَّذِي نَسَأَهُ وَهُوَ يُرِيدُ إنْزَالَهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ يُنْزِلُهُ بَعْدَ مُدَّةٍ فَلَمَّا أَخْبَرَ أَنَّ مَا أَخَّرَهُ يَأْتِي بِمِثْلِهِ أَوْ خَيْرٍ مِنْهُ قَبْلَ نُزُولِهِ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُؤَخِّرُ الْأَمْرَ بِلَا بَدَلٍ فَلَوْ جَازَ أَنْ يَبْقَى مُدَّةً بِلَا بَدَلٍ لَكَانَ مَا لَمْ يُنْزِلْ أَحَقَّ بِأَنْ لَا يَكُونَ لَهُ بَدَلٌ مِنْ الْمَنْسُوخِ فَلَمَّا كَانَ ذَاكَ قَدْ حَصَلَ لَهُ بَدَلٌ قَبْلَ وَقْتِ نُزُولِهِ لِتَكْمِيلِ الْإِنْعَامِ فَلَأَنْ يَكُونُ الْبَدَلُ لَمَّا نُسِخَ مِنْ حِينِ نُسِخَ بَعْدُ أَوْلَى وَأَحْرَى وَلِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَلَوْ كَانَ مَا يُنْزِلُهُ بَدَلًا عَنْ الْمَنْسُوخِ يُؤَخِّرُهُ لَمْ يُعْرَفْ أَنَّهُ بَدَلٌ وَلَمْ يَتَمَيَّزْ الْبَدَلُ مِنْ غَيْرِهِ وَلَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } فَائِدَةٌ إلَّا كَالْفَائِدَةِ الْمَعْلُومَةِ لَوْ لَمْ يُنْسَخْ شَيْءٌ . غَايَةُ مَا يُقَالُ : أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُنْسَخْ شَيْءٌ لَجَازَ أَنْ لَا يَنْزِلَ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْءٌ وَإِذَا نُسِخَ شَيْءٌ فَلَا بُدَّ مِنْ بَدَلِهِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ . وَهَذَا مِمَّا يَعْتَقِدُونَهُ فَإِنَّهُمْ قَدْ اعْتَادُوا نُزُولَ الْقُرْآنِ عِنْدَ الْحَوَادِثِ وَالْمَسَائِلِ وَالْحَاجَةِ فَمَا كَانُوا يَظُنُّونَهُ - إذَا نُسِخَتْ آيَةٌ - أَنْ لَا يُنْزَلْ بَعْدَهَا شَيْءٌ فَإِنَّهَا لَوْ لَمْ تُنْسَخْ لَمْ يَظُنُّوا ذَلِكَ فَكَيْفَ يَظُنُّونَ إذَا نُسِخَتْ ؟ الثَّانِي : أَنَّهُ إذَا كَانَ قَدْ ضَمِنَ لَهُمْ الْإِتْيَانَ بِالْبَدَلِ عَنْ الْمَنْسُوخِ عُلِمَ أَنَّ مَقْصُودَهُ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُهُمْ شَيْءٌ مِمَّا أَنْزَلَهُ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ مِثْلِ الْمَرْفُوعِ أَوْ خَيْرٍ مِنْهُ وَلَوْ بَقُوا مُدَّةً بِلَا بَدَلٍ لَنَقَصُوا . وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا وَعْدٌ مُعَلَّقٌ بِشَرْطِ وَالْوَعْدُ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطِ يَلْزَمُ عَقِبَهُ فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْمُعَاوَضَةِ وَذَلِكَ مِمَّا يَلْزَمُ فِيهِ أَدَاءُ الْعِوَضِ عَلَى الْفَوْرِ إذَا قَبَضَ الْمُعَوَّضَ كَمَا إذَا قَالَ : مَا أَلْقَيْت مِنْ مَتَاعِك فِي الْبَحْرِ فَعَلَيَّ بَدَلُهُ وَلَيْسَ هَذَا وَعْدًا مُطْلَقًا كَقَوْلِهِ { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } . وَلِهَذَا يُفَرَّقُ بَيْنَ قَوْلِهِ : وَاَللَّهِ لَأُعْطِيَنَّكَ مِائَةً وَبَيْنَ قَوْلِهِ : وَاَللَّهِ لَا آخُذُ مِنْك شَيْئًا إلَّا أَعْطَيْتُك بَدَلَهُ فَإِنَّ هَذَا وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ الَّذِينَ أَخَذَ عَنْهُمْ عِلْمَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ إنَّمَا يَذْكُرُونَ نَسْخَ الْقُرْآنِ بِقُرْآنِ لَا يَذْكُرُونَ نَسْخَهُ بِلَا قُرْآنٍ بَلْ بِسُنَّةٍ وَهَذِهِ كُتُبُ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ الْمَأْخُوذَةِ عَنْهُمْ إنَّمَا تَتَضَمَّنُ هَذَا . وَكَذَلِكَ قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلْقَاصِّ : هَلْ تَعْرِفُ النَّاسِخَ مِنْ الْمَنْسُوخِ فِي الْقُرْآنِ ؟ فَلَوْ كَانَ نَاسِخُ الْقُرْآنِ غَيْرَ الْقُرْآنِ لَوَجَبَ أَنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ أَيْضًا . وَأَيْضًا الَّذِينَ جَوَّزُوا نَسْخَ الْقُرْآنِ بِلَا قُرْآنٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالرَّأْيِ إنَّمَا عُمْدَتُهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ مَا يُحِيلُ ذَلِكَ وَعَدَمُ الْمَانِعِ الَّذِي يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ لَا يَقْتَضِي الْجَوَازُ الشَّرْعِيُّ فَإِنَّ الشَّرْعَ قَدْ يُعْلَمُ بِخَبَرِهِ مَا لَا عُلِمَ لِلْعَقْلِ بِهِ وَقَدْ يُعْلَمُ مِنْ حِكْمَةِ الشَّارِعِ الَّتِي عُلِمَتْ بِالشَّرْعِ مَا لَا يُعْلَمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ . وَلِهَذَا كَانَ الَّذِينَ جَوَّزُوا ذَلِكَ عَقْلًا مُخْتَلِفِينَ فِي وُقُوعِهِ شَرْعًا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا الْخَبَرُ الَّذِي فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى امْتِنَاعِهَا شَرْعًا . وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّاسِخَ مُهَيْمِنٌ عَلَى الْمَنْسُوخِ قَاضٍ عَلَيْهِ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ أَوْ خَيْرًا مِنْهُ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ الْقُرْآنُ وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ مُهَيْمِنًا عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ بِتَصْدِيقِ مَا فِيهِ مِنْ حَقٍّ وَإِقْرَارِ مَا أَقَرَّهُ وَنَسْخِ مَا نَسَخَهُ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ . فَلَوْ كَانَتْ السُّنَّةُ نَاسِخَةً لِلْكِتَابِ لَزِمَ أَنْ تَكُونَ مِثْلَهُ أَوْ أَفْضَلَ مِنْهُ . وَأَيْضًا فَلَا يُعْرَفُ فِي شَيْءٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ نَسَخَهُ إلَّا قُرْآنٌ . وَالْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ كَمَا اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ السَّلَفُ قَالَ تَعَالَى : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } . وَالْفَرَائِضُ الْمُقَدَّرَةُ مِنْ حُدُودِهِ وَلِهَذَا ذَكَرَ ذَلِكَ عَقِبَ ذِكْرِ الْفَرَائِضِ فَمَنْ أَعْطَى صَاحِبَ الْفَرَائِضِ أَكْثَرَ مِنْ فَرْضِهِ فَقَدْ تَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ بِأَنْ نَقَصَ هَذَا حَقَّهُ وَزَاد هَذَا عَلَى حَقِّهِ فَدَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ وَهُوَ النَّاسِخُ .