بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ . سُورَةُ الْإِخْلَاصِ سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد ابْنُ تيمية رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَمَّا وَرَدَ فِي سُورَةِ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } أَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ وَرَدَ فِي سُورَةِ ( الزَّلْزَلَةِ وَ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } وَ ( الْفَاتِحَةِ هَلْ مَا وَرَدَ فِي هَذِهِ الْمُعَادَلَةِ ثَابِتٌ فِي الْمَجْمُوعِ أَمْ فِي الْبَعْضِ ؟ وَمَنْ رَوَى ذَلِكَ ؟ وَمَا ثَبَتَ مِنْ ذَلِكَ ؟ وَمَا مَعْنَى هَذِهِ الْمُعَادَلَةِ وَكَلَامُ اللَّهِ وَاحِدٌ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ ؟ وَهَلْ هَذِهِ الْمُفَاضَلَةُ - بِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهَا - مُتَعَدِّيَةٌ إلَى الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ أَمْ لَا ؟ وَالصِّفَاتُ الْقَدِيمَةُ وَالْأَسْمَاءُ الْقَدِيمَةُ هَلْ يَجُوزُ الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَهَا مَعَ أَنَّهَا قَدِيمَةٌ ؟ وَمَنْ الْقَائِلُ بِذَلِكَ وَفِي أَيِّ كُتُبِهِ قَالَ ذَلِكَ وَوَجْهُ التَّرْجِيحِ فِي ذَلِكَ بِمَا يُمْكِنُ مِنْ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ وَنَقْلِيٍّ ؟
وَمِمَّنْ ذَكَرَ " تَفْضِيلَ بَعْضِ الْقُرْآنِ عَلَى بَعْضٍ فِي نَفْسِهِ " أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمَا كَالشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الإسفرائيني وَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَأَبِي إسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ وَغَيْرِهِمْ وَمِثْلِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَالْحَلْوَانِيِّ الْكَبِيرِ وَابْنِهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَابْنِ عَقِيلٍ قَالَ أَبُو الْوَفَاءِ ابْنُ عَقِيلٍ فِي " كِتَابِ الْوَاضِحِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ " فِي احْتِجَاجِهِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يُنْسَخُ بِالسَّنَةِ قَالَ : فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } وَلَيْسَتْ السُّنَّةُ مِثْلَ الْقُرْآنِ وَلَا خَيْرًا مِنْهُ فَبَطَلَ النَّسْخُ بِهَا لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الْمُحَالِ وَهُوَ كَوْنُ خَبَرِهِ بِخِلَافِ مُخْبِرِهِ وَذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ فَمَا أَدَّى إلَيْهِ فَهُوَ مُحَالٌ . قَالَ : فَإِنْ قِيلَ : أَصْلُ اسْتِدْلَالِكُمْ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَيْرِ الْفَضْلُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا لَكُمْ وَذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ فِي حَقِّنَا : إمَّا سُهُولَةٌ فِي التَّكْلِيفِ فَهُوَ خَيْرٌ عَاجِلٌ أَوْ أَكْثَرُ ثَوَابًا لِكَوْنِهِ أَثْقَلَ وَأَشَقَّ وَيَكُونُ نَفْعًا فِي الْآجِلِ وَالْعَاقِبَةِ وَكِلَاهُمَا قَدْ يَتَحَقَّقُ بِطَرِيقِ السُّنَّةِ . وَيَحْتَمِلُ : نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا لَا نَاسِخًا لَهَا بَلْ يَكُونُ تَكْلِيفًا مُبْتَدَأً هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَرِيقُهُ الْقُرْآنَ النَّاسِخَ وَلَا السُّنَّةُ النَّاسِخَةُ . قَالُوا : يُوَضِّحُ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ أَنَّ الْقُرْآنَ نَفْسَهُ لَيْسَ بَعْضُهُ خَيْرًا مِنْ بَعْضٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَصْرِفُوا اللَّفْظَ عَنْ ظَاهِرِهِ مِنْ خَيْرٍ يَعُودُ إلَى التَّكْلِيفِ لَا إلَى الطَّرِيقِ . وَقَالَ فِي الْجَوَابِ : قَوْلُهُمْ : الْخَيْرُ يَرْجِعُ إلَى مَا يَخُصُّنَا مِنْ سُهُولَةٍ أَوْ ثَوَابٍ لَا يَصِحُّ ; لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَقَالَ : " لَكُمْ " . فَلَمَّا حَذَفَ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْإِطْلَاقُ وَهُوَ كَوْنُ النَّاسِخِ خَيْرًا مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ وَذَاتِهِ وَمِنْ جِهَةِ الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي : بِآيَاتِ خَيْرٍ مِنْهَا فَإِنَّ ذَلِكَ يَعُودُ إلَى الْجِنْسِ كَمَا إذَا قَالَ الْقَائِلُ : مَا آخُذُ مِنْك دِينَارًا إلَّا أُعْطِيك خَيْرًا مِنْهُ لَا يُعْقَلُ بِالْإِطْلَاقِ إلَّا دِينَارًا خَيْرًا مِنْهُ فَيَتَخَيَّرُ مِنْ الْجِنْسِ أَوَّلًا ثُمَّ النَّفْعِ فَإِمَّا أَنْ يَرْجِعَ ذَلِكَ إلَى ثَوْبٍ أَوْ عَرَضٍ غَيْرِ الدِّينَارِ فَلَا وَفِي آخِرِ الْآيَةِ مَا يَشْهَدُ بِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْقُرْآنَ لِأَنَّهُ قَالَ : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وَوَصْفُهُ لِنَفَسِهِ بِالْقُدْرَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَأْتِي بِهِ هُوَ أَمْرٌ يَرْجِعُ إلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { أَوْ مِثْلِهَا } يَشْهَدُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ يَقْتَضِي إطْلَاقَهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَنَّثَهَا تَأْنِيثَ الْآيَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ : نَأْتِ بِآيَةِ خَيْرٍ مِنْهَا أَوْ بِآيَةِ مِثْلِهَا . " قُلْت " : وَأَيْضًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْخَيْرِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ أَخَفَّ عَمَلًا أَوْ أَشَقَّ وَأَكْثَرَ ثَوَابًا لِأَنَّ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ ثَابِتَانِ لِكُلِّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مُبْتَدَأً وَنَاسِخًا فَإِنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ أَيْسَرَ مِنْ غَيْرِهِ فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَشَقَّ فَيَكُونُ ثَوَابُهُ أَكْثَرَ فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ لَازِمَةً لِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ لَمْ يُحْسِنْ أَنْ يُقَالَ مَا نَنْسَخُ مِنْ حُكْمٍ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهُ أَوْ مِثْلِهِ فَإِنَّ الْمَنْسُوخَ أَيْضًا يَكُونُ خَيْرًا وَمَثَلًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَإِنَّهُمْ إنْ فَسَّرُوا الْخَيْرَ بِكَوْنِهِ أَسْهَلَ فَقَدْ يَكُونُ الْمَنْسُوخُ أَسْهَلَ فَيَكُونُ خَيْرًا وَإِنْ فَسَّرُوهُ بِكَوْنِهِ أَعْظَمَ أَجْرًا لِمَشَقَّتِهِ فَقَدْ يَكُونُ الْمَنْسُوخُ كَذَلِكَ وَاَللَّهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ بِخَيْرٍ مِمَّا يَنْسَخُهُ أَوْ مِثْلِهِ فَلَا يَأْتِي بِمَا هُوَ دُونَهُ . وَأَيْضًا فَعَلَى مَا قَالُوهُ لَا يَكُونُ شَيْءٌ خَيْرًا مِنْ شَيْءٍ بَلْ إنْ كَانَ خَيْرًا مِنْ جِهَةِ السُّهُولَةِ فَذَلِكَ خَيْرٌ مِنْ جِهَةِ كَثْرَةِ الْأَجْرِ . قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّ الْقُرْآنَ فِي نَفْسِهِ لَا يَتَخَايَرُ وَلَا يَتَفَاضَلُ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ الْخَيْرَ الَّذِي هُوَ الْأَفْضَلِيَّةُ فَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ تَوْحِيدَ اللَّهِ الَّذِي فِي " سُورَةِ الْإِخْلَاصِ " وَمَا ضَمِنَهَا مِنْ نَفْيِ التَّجَزُّؤِ وَالِانْقِسَامِ أَفْضَلُ مِنْ " تَبَّتْ " الْمُتَضَمِّنَةِ ذَمِّ أَبِي لَهَبٍ وَذَمِّ زَوْجَتِهِ إنْ شِئْت فِي كَوْنِ الْمَدْحِ أَفْضَلُ مِنْ الْقَدْحِ وَإِنْ شِئْت فِي الْإِعْجَازِ فَإِنَّ تِلَاوَةَ غَيْرِهَا مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي تَظْهَرُ مِنْهَا الْفَصَاحَةُ وَالْبَيَانُ أَفْضَلُ وَلَيْسَ مِنْ حَيْثُ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ وَاحِدًا لَا يَكُونُ التَّفَاضُلُ لِمَعْنَى يَعُودُ إلَى الْكَلَامِ ثَانِيًا كَمَا أَنَّ الْمُرْسَلَ وَاحِدٌ لِذِي النُّونِ وَإِبْرَاهِيمَ وَإِبْرَاهِيمُ أَفْضَلُ مِنْ ذِي النُّونِ . قَالَ : وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا } لَا يَكُونُ نَاسِخًا بَلْ مُبْتَدَأً فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْجَزَاءِ مَجْزُومًا وَهَذَا يُعْطِي الْبَدَلِيَّةَ وَالْمُقَابَلَةَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ : إنْ تُكْرِمْنِي أُكْرِمْك وَإِنْ أَطَعْتَنِي أَطَعْتُك يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ مُقَابَلَةً وَبَدَلًا لَا فِعْلًا مُبْتَدَأً . قُلْت : الْمَقْصِدُ هُنَا ذِكْرُ مَا نَصَرَهُ - مِنْ كَوْنِ الْقُرْآنِ فِي نَفْسِهِ بَعْضُهُ خَيْرًا مِنْ بَعْضٍ - لَيْسَ الْمَقْصُودُ الْكَلَامُ فِي مَسْأَلَةِ النَّسْخِ وَكَذَلِكَ غَيْرُ هَؤُلَاءِ صَرَّحُوا بِأَنَّ بَعْضَ الْقُرْآنِ قَدْ يَكُونُ خَيْرًا مِنْ بَعْضٍ وَمِمَّنْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِهِ " جَوَاهِرُ الْقُرْآنِ " قَالَ : لَعَلَّك تَقُولُ قَدْ تَوَجَّهَ قَصْدُك فِي هَذِهِ التَّنْبِيهَاتِ إلَى تَفْضِيلِ بَعْضِ آيَاتِ الْقُرْآنِ عَلَى بَعْضٍ وَالْكُلُّ كَلَامُ اللَّهِ فَكَيْفَ يُفَارِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا ؟ وَكَيْفَ يَكُونُ بَعْضُهَا أَشْرَفَ مِنْ بَعْضٍ ؟ فَاعْلَمْ أَنَّ نُورَ الْبَصِيرَةِ إنْ كَانَ لَا يُرْشِدُك إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَآيَةِ الْمُدَايَنَاتِ وَبَيْنَ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ وَسُورَةِ تَبَّتْ وَتَرْتَاعُ مِنْ اعْتِقَادِ الْفِرَقِ نَفْسُك الْخَوَّارَةُ الْمُسْتَغْرِقَةُ فِي التَّقْلِيدِ فَقَلِّدْ صَاحِبَ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ وَقَالَ : { قَلْبُ الْقُرْآنِ يس } وَقَدْ دَلَّتْ الْأَخْبَارُ عَلَى شَرَفِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ فَقَالَ : { فَاتِحَةُ الْكِتَابِ أَفْضَلُ سُوَرِ الْقُرْآنِ } وَقَالَ : { آيَةُ الْكُرْسِيِّ سَيِّدَةُ آيِ الْقُرْآنِ } وَقَالَ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ } وَالْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي فَضَائِلِ قَوَارِعِ الْقُرْآنِ وَتَخَصُّصِ بَعْضِ السُّوَرِ وَالْآيَاتِ بِالْفَضْلِ وَكَثْرَةِ الثَّوَابِ فِي تِلَاوَتِهَا لَا تُحْصَى فَاطْلُبْهُ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ إنْ أَرَدْت . وَنُنَبِّهُك الْآنَ عَلَى مَعْنَى هَذِهِ الْأَخْبَارِ الْأَرْبَعَةِ فِي تَفْضِيلِ هَذِهِ السُّوَرِ . قُلْت : وَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ مَا ذَكَرَهُ فِي تَفْضِيلِ ( { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } . وَمِمَّنْ ذَكَرَ كَلَامَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ وَحَكَى هَذَا الْقَوْلَ عَمَّنْ حَكَاهُ مِنْ السَّلَفِ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي " شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ فِي { قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي : أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ ؟ وَذَكَرَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ } فِيهِ حُجَّةٌ لِتَفْضِيلِ بَعْضِ الْقُرْآنِ عَلَى بَعْضٍ وَتَفْضِيلُ الْقُرْآنِ عَلَى سَائِرِ كُتُبِ اللَّهِ عِنْدَ مَنْ اخْتَارَهُ : مِنْهُمْ إسْحَاقُ بْنُ راهويه وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ والمتكلمين . قَالَ : وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى عِظَمِ أَجْرِ قَارِئِي ذَلِكَ وَجَزِيلِ ثَوَابِهِ عَلَى بَعْضِهِ أَكْثَرُ مِنْ سَائِرِهِ . قَالَ : وَهَذَا مِمَّا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهِ فَأَبَى ذَلِكَ الْأَشْعَرِيُّ وَابْنُ الباقلاني وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْأَفْضَلِ نَقْصُ الْمَفْضُولِ عَنْهُ وَكَلَامُ اللَّهِ لَا يَتَبَعَّضُ . قَالُوا : وَمَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : " أَفْضَلُ " وَ " أَعْظَمُ " لِبَعْضِ الْآيِ وَالسُّوَرِ فَمَعْنَاهُ عَظِيمٌ وَفَاضِلٌ . قَالَ : وَقِيلَ : كَانَتْ آيَةُ الْكُرْسِيِّ أَعْظُمَ لِأَنَّهَا جَمَعَتْ أُصُولَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مِنْ الْإِلَهِيَّةِ وَالْحَيَاةِ والوحدانية وَالْعِلْمِ وَالْمُلْكِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَهَذِهِ السَّبْعَةُ قَالُوا هِيَ أُصُولُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ . قُلْت : الْمَقْصُودُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ إنَّ هَذِهِ السَّبْعَةَ هِيَ أُصُولُ الْأَسْمَاءِ . فَهَذِهِ السَّبْعَةُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ هِيَ الْمَعْرُوفَةُ بِالْعَقْلِ وَمَا سِوَاهَا قَالُوا إنَّمَا يُعْلَمُ بِالسَّمْعِ وَهَذَا أَمْرٌ يَرْجِعُ إلَى طَرِيقِ عِلْمِنَا لَا إلَى أَمْرٍ حَقِيقِيٍّ ثَابِتٍ لَهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَكَيْفَ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ مَا سِوَاهَا قَدْ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ أَيْضًا كَالْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَمَذْهَبُ ابْنِ كُلَّابٍ وَأَكْثَرُ قُدَمَاءِ الصفاتية أَنَّ الْعُلُوَّ مِنْ الصِّفَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي الْعَبَّاسِ القلانسي وَالْحَارِثِ الْمُحَاسِبِيَّ وَمَذْهَبُ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَهُوَ آخِرُ قَوْلَيْ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ الزاغوني وَغَيْرِهِ وَمَذْهَبِ ابْنِ كَرَّامٍ وَأَصْحَابِهِ وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالتَّصَوُّفِ . وَكَذَلِكَ مَا فَسَّرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ مِنْ قَوْلِ الْمُفَضَّلِينَ إنَّ الْمُرَادَ كَثْرَةُ الثَّوَابِ فَهَذَا لَا يُنَازَعُ فِيهِ الْأَشْعَرِيُّ وَابْنُ الباقلاني فَإِنَّ الثَّوَابَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُنَازَعُ أَحَدٌ فِي أَنَّ بَعْضَهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي نَفْسِ كَلَامِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ كَلَامُهُ فَحِكَايَتُهُ النِّزَاعُ يُنَاقِضُ مَا فَسَّرَ بِهِ قَوْلَ الْمُثَبِّتَةِ . وَقَدْ بَيَّنَ مَأْخَذَ الْمُمْتَنِعِينَ عَنْ التَّفْضِيلِ : مِنْهُمْ مِنْ نَفْيِ التَّفَاضُلِ فِي الصِّفَاتِ مُطْلَقًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَدِيمَ لَا يَتَفَاضَلُ وَالْقُرْآنُ مِنْ الصِّفَاتِ . وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّ الْقُرْآنَ بِأَنَّهُ وَاحِدٌ عَلَى أَصْلِهِ فَلَا يُعْقَلُ فِيهِ مَعْنَيَانِ فَضْلًا أَنْ يُعْقَلَ فِيهِ فَاضِلٌ وَمَفْضُولٌ وَهَذَا أَصْلُ أَبِي الْحَسَنِ وَمَنْ وَافَقَهُ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرْنَا أَقْوَالَهُمْ فِي أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ يَكُونُ بَعْضُهُ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ لَيْسَ فِيهِمْ أَحَدٌ مِنْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ - كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ كالجهمية وَالْمُعْتَزِلَةِ - بَلْ كُلُّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَوْ تُتُبِّعَ ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ لَكَثَرُوا فَإِنَّ هَذَا قَوْلُ جَمَاهِيرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْبِدْعَةِ أَمَا السَّلَفُ - كَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ - فَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ فِي هَذَا الْأَصْلِ تَنَازُعٌ بَلْ الْآثَارُ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْهُمْ بِهِ . وَاشْتَهَرَ الْقَوْلُ بِإِنْكَارِ تَفَاضُلِهِ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ لَمَّا أَظْهَرَتْ الجهمية الْقَوْلَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ . وَاتَّفَقَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَجَمَاهِيرُ الْأُمَّةِ عَلَى إنْكَارِ ذَلِكَ وَرَدَّهُ عَلَيْهِمْ . وَظَنَّتْ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ - مِثْلَ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ كُلَّابٍ وَمَنْ وَافَقَهُ - أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ إلَّا إذَا قِيلَ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَا كَلَّمَ مُوسَى حِينَ أَتَاهُ وَلَا قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ بَعْدَ أَنْ خَلَقَهُ وَلَا يَغْضَبُ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ أَنْ يَكْفُرَ بِهِ وَلَا يَرْضَى عَنْهُ بَعْدَ أَنْ يُطِيعَهُ وَلَا يُحِبَّهُ بَعْدَ أَنْ يَتَقَرَّبَ إلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ وَلَا يَتَكَلَّمَ بِكَلَامِ بَعْدَ كَلَامٍ فَتَكُونُ كَلِمَاتُهُ لَا نِهَايَةَ لَهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ظَنُّوا انْتِفَاءَهُ عَنْ اللَّهِ . وَقَالُوا إنَّمَا يُمْكِنُ مُخَالَفَةُ هَؤُلَاءِ إذَا قِيلَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ وَغَيْرَهُ مِنْ الْكَلَامِ لَازِمٌ لِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ يَتَكَلَّمُ بِكُلِّ كَلَامٍ لَهُ كَقَوْلِهِ : يَا آدَمَ يَا نُوحُ . وَصَارُوا طَائِفَتَيْنِ : طَائِفَةٌ تَقُولُ إنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ وَطَائِفَةٌ تَقُولُ إنَّهُ حُرُوفٌ أَوْ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ مُقْتَرِنٌ بَعْضُهَا بِبَعْضِ أَزَلًا وَأَبَدًا وَإِنْ كَانَتْ مُتَرَتِّبَةً فِي ذَاتِهَا تَرَتُّبًا ذَاتِيًّا لَا تَرَتُّبًا وُجُودِيًّا كَمَا قَدْ بَيَّنَ مَقَالَاتِ النَّاسِ فِي كَلَامِ اللَّهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْأَوَّلُونَ عِنْدَهُمْ كَلَامُ اللَّهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَا بَعْضٌ لَهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ . وَالْآخَرُونَ يَقُولُونَ : هُوَ قَدِيمٌ لَازِمٌ لِذَاتِهِ وَالْقَدِيمُ لَا يَتَفَاضَلُ . وَرُبَّمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا } أَنَّهُ قَالَ : خَيْرًا لَكُمْ مِنْهَا أَوْ أَنْفَعَ لَكُمْ . فَيَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّ ذَلِكَ الْقَائِلَ مُوَافِقٌ لِهَؤُلَاءِ . وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ مَقْصُودُهُ بَيَانُ وَجْهِ كَوْنِهِ خَيْرًا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَنْفَعَ لِلْعِبَادِ فَإِنَّ مَا كَانَ أَكْثَرُ مِنْ الْكَلَامِ نَفْعًا لِلْعِبَادِ كَانَ فِي نَفْسِهِ أَفْضَلُ كَمَا بَيَّنَ فِي مَوْضِعِهِ . وَصَارَ مَنْ سَلَكَ مَسْلَكَ الكلابية مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ أَحْمَد وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ يَظُنُّونَ أَنَّ الْقَوْلَ بِتَفَاضُلِ كَلَامِ اللَّهِ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ إنَّمَا يُمْكِنُ عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ فَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ يَرَوْنَ فَضْلَ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ فَضْلَ مَخْلُوقٍ عَلَى مَخْلُوقِ وَتَفْضِيلُ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى بَعْضٍ لَا يُنْكِرُهُ أَحَدٌ . فَإِذَا ظَنَّ أُولَئِكَ أَنَّ الْقَوْلَ بِتَفْضِيلِ بَعْضِ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى بَعْضٍ مُسْتَلْزِمٌ لِكَوْنِ الْقُرْآنِ مَخْلُوقًا فَرُّوا مِنْ ذَلِكَ وَأَنْكَرُوا الْقَوْلَ بِهِ لِأَجْلِ مَا ظَنُّوهُ مِنْ التَّلَازُمِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ظَنُّوهُ بَلْ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَجُمْهُورُهَا يَقُولُونَ : إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَكَذَلِكَ سَائِرُ كَلَامِ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ . وَيَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ كَمَا نَطَقَ بِذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَآثَارُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ يُعْرَفُ فِي ذَلِكَ عَنْهُمْ . وَحَدَّثَنَا أَبِي عَنْ جَدِّنَا أَبِي الْبَرَكَاتِ وَصَاحِبِهِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ أَنَّهُمَا نَظَرَا فِيمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ الْأَقْوَالِ فِي قَوْلِهِ : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } وَأَظُنُّهُ كَانَ نَظَرَهُمْ فِي تَفْسِيرِ أَبِي عَبْدِ الله مُحَمَّدِ بْنِ تيمية فَلَمَّا رَأَيَا تِلْكَ الْأَقْوَالَ قَالَا : هَذَا إنَّمَا يَجِيءُ عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ . وَزَارَ مَرَّةً أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ هَذَا لِشَيْخِنَا أَبِي زَكَرِيَّا بْنِ الصَّيْرَفِيِّ وَكَانَ مَرِيضًا فَدَعَا أَبُو زَكَرِيَّا بِدُعَاءِ مَأْثُورٍ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد يَقُولُ فِيهِ " أَسْأَلُك - بِقُدْرَتِك الَّتِي قَدَرْت بِهَا أَنْ تَقُولَ لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ - أَنْ تَفْعَلَ بِنَا كَذَا وَكَذَا " فَلَمَّا خَرَجَ النَّاسُ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ لَهُ : مَا هَذَا الدُّعَاءُ الَّذِي دَعَوْت بِهِ ؟ هَذَا إنَّمَا يَجِيءُ عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَلَا يُقَالُ عِنْدَهُمْ قَدَرَ أَنْ يَتَكَلَّمَ أَوْ يَقُولَ فَإِنَّ كَلَامَهُ قَدِيمٌ لَازِمٌ لِذَاتِهِ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . وَكَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدْ تَلَقَّى هَذَا عَنْ الْبُحُوثِ الَّتِي يَذْكُرُهَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الزاغوني وَأَمْثَالُهُ وَقَبْلَهُ أَبُو الْوَفَاءِ ابْنُ عَقِيلٍ وَأَمْثَالُهُ وَقَبْلَهُمَا الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَنَحْوُهُ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ - كَأَبِي الْوَلِيدِ الباجي وَأَبِي الْمَعَالِي الجويني - وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ يُوَافِقُونَ ابْنَ كُلَّابٍ عَلَى قَوْلِهِ : إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَعَلَى قَوْلِهِ : إنَّ الْقُرْآنَ لَازِمٌ لِذَاتِ اللَّهِ بَلْ يَظُنُّونَ أَنَّ هَذَا قَوْلُ السَّلَفِ - قَوْلُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ السَّلَفِ - الَّذِينَ يَقُولُونَ : الْقُرْآنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ حَتَّى إنَّ مَنْ سَلَكَ مَسْلَكَ السالمية مِنْ هَؤُلَاءِ - كَالْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ وَابْنِ الزاغوني - يُصَرِّحُونَ بِأَنَّ مَذْهَبَ أَحْمَد أَنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ وَأَنَّهُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ لَمْ يَقُولُوا هَذَا قَطُّ وَلَا نَاظَرُوا عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُمْ وَغَيْرَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ لَمْ يَعْرِفُوا أَقْوَالَهُمْ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ . وَلَكِنْ الَّذِينَ ظَنُّوا أَنَّ قَوْلَ ابْنِ كُلَّابٍ وَأَتْبَاعِهِ هُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ وَمِنْ أَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ هُمْ الَّذِينَ صَارُوا يَقُولُونَ : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ بَعْضُهُ أَفْضَلُ إنَّمَا يَجِيءُ عَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْبِدَعِ الجهمية وَالْمُعْتَزِلَةِ كَمَا صَارَ يَقُولُ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ أَقْوَالِ بَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ السَّلَفَ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِهَذَا بَلْ أَنْكَرُوا عَلَى ابْنِ كُلَّابٍ هَذَا الْأَصْلَ وَأَمَرَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ بِهَجْرِ الكلابية عَلَى هَذَا الْأَصْلِ حَتَّى هُجِرَ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيَّ لِأَنَّهُ كَانَ صَاحِبَ ابْنِ كُلَّابٍ وَكَانَ قَدْ وَافَقَهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ ثُمَّ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَكَانَ أَحْمَد يُحَذِّرُ عَنْ الكلابية . وَكَانَ قَدْ وَقَعَ بَيْن أَبِي بَكْرِ بْنِ خزيمة الْمُلَقَّبِ بِإِمَامِ الْأَئِمَّةِ وَبَيْنَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ مُشَاجَرَةٌ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ بِقَوْلِ ابْنِ كُلَّابٍ وَقَدْ ذَكَرَ قِصَّتَهُمْ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ فِي ( تَارِيخِ نَيْسَابُورَ وَبَسْطُ الْكَلَامَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا عَلَى الْمَآخِذِ الَّتِي تَعْرِفُ بِهَا حَقَائِقَ الْأَقْوَالِ .