بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ . سُورَةُ الْإِخْلَاصِ سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد ابْنُ تيمية رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَمَّا وَرَدَ فِي سُورَةِ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } أَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ وَرَدَ فِي سُورَةِ ( الزَّلْزَلَةِ وَ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } وَ ( الْفَاتِحَةِ هَلْ مَا وَرَدَ فِي هَذِهِ الْمُعَادَلَةِ ثَابِتٌ فِي الْمَجْمُوعِ أَمْ فِي الْبَعْضِ ؟ وَمَنْ رَوَى ذَلِكَ ؟ وَمَا ثَبَتَ مِنْ ذَلِكَ ؟ وَمَا مَعْنَى هَذِهِ الْمُعَادَلَةِ وَكَلَامُ اللَّهِ وَاحِدٌ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ ؟ وَهَلْ هَذِهِ الْمُفَاضَلَةُ - بِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهَا - مُتَعَدِّيَةٌ إلَى الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ أَمْ لَا ؟ وَالصِّفَاتُ الْقَدِيمَةُ وَالْأَسْمَاءُ الْقَدِيمَةُ هَلْ يَجُوزُ الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَهَا مَعَ أَنَّهَا قَدِيمَةٌ ؟ وَمَنْ الْقَائِلُ بِذَلِكَ وَفِي أَيِّ كُتُبِهِ قَالَ ذَلِكَ وَوَجْهُ التَّرْجِيحِ فِي ذَلِكَ بِمَا يُمْكِنُ مِنْ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ وَنَقْلِيٍّ ؟
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } الْمُرَادُ الْكَلَامُ الَّذِي هُوَ أَحْسَنُ الْقَصَصِ وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا قَصَّهُ اللَّهُ لَمْ يَخُصَّ بِهِ سُورَةَ يُوسُفَ ; وَلِهَذَا قَالَ : { بِمَا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ } وَلَمْ يَقُلْ بِمَا أَوْحَيْنَا إلَيْك هَذِهِ السُّورَةَ وَالْآثَارُ الْمَأْثُورَةُ فِي ذَلِكَ عَنْ السَّلَفِ تَدُلُّ كُلُّهَا عَلَى ذَلِكَ وَعَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ الْكُتُبِ وَهُوَ الْمُرَادُ . وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا حَاصِلٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَسَوَاءٌ كَانَ أَحْسَنُ الْقَصَصِ مَصْدَرًا أَوْ مَفْعُولًا أَوْ جَامِعًا لِلْأَمْرَيْنِ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ وَمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْقَصَصِ أَحْسَنُ مِنْ غَيْرِهِ فَإِنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ فَأَيُّهُمَا كَانَ أَحْسَنَ كَانَ الْآخَرُ أَحْسَنَ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى { أَحْسَنَ الْقَصَصِ } كَقَوْلِهِ : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } وَالْآثَارُ السَّلَفِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ . وَالسَّلَفُ كَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ وَأَحْسَنُ الْقَصَصِ كَمَا أَنَّهُ الْمُهَيْمِنُ عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ كُتُبِ السَّمَاءِ فَكَيْفَ يُقَالُ : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ كُلَّهُ لَا فَضْلَ لِبَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ الْمَسْعُودِيِّ { عَنْ الْقَاسِمِ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَلُّوا مِلَّةً فَقَالُوا : حَدِّثْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } ثُمَّ مَلُّوا مِلَّةً فَقَالُوا : حَدِّثْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَنَزَلَتْ : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } ثُمَّ مَلُّوا مِلَّةً فَقَالُوا : حَدِّثْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ } } . وَقَدْ رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ فِي " فَضَائِلِ الْقُرْآنِ " عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ فَقَالَ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ الْمَسْعُودِيِّ عَنْ { عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْن عتبة قَالَ : مَلَّ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِلَّةً فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ حَدِّثْنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } قَالَ : ثُمَّ نَعَتَهُ فَقَالَ : { كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ } إلَى آخِرِ الْآيَةِ قَالَ : ثُمَّ مَلُّوا مِلَّةً أُخْرَى فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ حَدِّثْنَا شَيْئًا فَوْقَ الْحَدِيثِ وَدُونَ الْقُرْآنِ يَعْنُونَ الْقَصَصَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ } - إلَى قَوْلِهِ - { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ } قَالَ : فَإِنْ أَرَادُوا الْحَدِيثَ دَلَّهُمْ عَلَى أَحْسَنِ الْحَدِيثِ وَإِنْ أَرَادُوا الْقَصَصَ دَلَّهُمْ عَلَى أَحْسَنِ الْقَصَصِ . } وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادِ حَسَنٍ مَرْفُوعًا عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ { عَنْ سَعْدٍ قَالَ : نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنُ فَتَلَاهُ عَلَيْهِمْ زَمَانًا . فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ قَصَصْت عَلَيْنَا . فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { الر } { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ } { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } فَتَلَاهُ عَلَيْهِمْ زَمَانًا . } وَلَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ أَحْسَنَ الْكَلَامِ نُهُوا عَنْ اتِّبَاعِ مَا سِوَاهُ قَالَ تَعَالَى : { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ } . وَرَوَى النسائي وَغَيْرُهُ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَأَى بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ [ شَيْئًا مِنْ التَّوْرَاةِ فَقَالَ ] : لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا ثُمَّ اتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ . } وَفِي رِوَايَةٍ { مَا وَسِعَهُ إلَّا اتِّبَاعِي . } وَفِي لَفْظٍ : { فَتَغَيَّرَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا عَرَضَ عَلَيْهِ عُمَرُ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْأَنْصَارِ : يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أَلَا تَرَى إلَى وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ عُمَرُ : رَضِينَا بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ نَبِيًّا . } وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ يُنْهَوْنَ عَنْ اتِّبَاعِ كُتُبٍ غَيْرِ الْقُرْآنِ . وَعُمَرُ انْتَفَعَ بِهَذَا حَتَّى أَنَّهُ لَمَّا فُتِحَتْ الإسْكَنْدَريَّة وُجِدَ فِيهَا كُتُبٌ كَثِيرَةٌ مِنْ كُتُبِ الرُّومِ فَكَتَبُوا فِيهَا إلَى عُمَرَ فَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُحْرَقَ وَقَالَ : حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ . وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إسْحَاقَ عَنْ خَلِيفَةَ بْنِ قَيْسٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ عرفطة قَالَ : كُنْت عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إذْ أُتِيَ بِرَجُلِ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ مَسْكَنُهُ بِالسُّوسِ . فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : أَنْتَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ العبدي ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : وَأَنْتَ النَّازِلُ بِالسُّوسِ ؟ قَالَ : نَعَمْ . فَضَرَبَهُ بِقَنَاةِ مَعَهُ فَقَالَ لَهُ : مَا ذَنْبِي ؟ قَالَ فَقَرَأَ عَلَيْهِ { الر } { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ } { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ } فَقَرَأَهَا عَلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَضَرَبَهُ ثَلَاثَ ضَرَبَاتٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ عُمَرُ : أَنْتَ الَّذِي انتسخت كِتَابَ دَانْيَالَ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : اذْهَبْ فَامْحُهُ بِالْحَمِيمِ وَالصُّوفِ الْأَبْيَضِ وَلَا تَقْرَأْهُ وَلَا تُقْرِئْهُ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ . فَقَرَأَ عَلَيْهِ عُمَرُ هَذِهِ الْآيَةَ لِيُبَيِّنَ لَهُ أَنَّ الْقُرْآنَ أَحْسَنُ الْقَصَصِ فَلَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى غَيْرِهِ . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَصَصَ عَامٌّ لَا يَخْتَصُّ بِسُورَةِ يُوسُفَ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ أَفْضَلُ مِنْ كِتَابِ دَانْيَالَ وَنَحْوِهِ مِنْ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ . وَكَذَلِكَ مِثْلُ هَذِهِ الْقِصَّةِ مَأْثُورَةٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ لَمَّا أُتِيَ بِمَا كُتِبَ مِنْ الْكُتُبِ مَحَاهُ وَذَكَرَ فَضِيلَةَ الْقُرْآنِ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا . وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قتادة { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } قَالَ : مِنْ الْكُتُبِ الْمَاضِيَةِ وَأُمُورِ اللَّهِ السَّالِفَةِ فِي الْأُمَمِ { بِمَا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ } . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحْسَنَ الْقَصَصِ يَعُمُّ هَذَا كُلَّهُ ; بَلْ لَفْظُ " الْقَصَصِ " يَتَنَاوَلُ مَا قَصَّهُ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ غَيْرَ أَخْبَارِ الْأُمَمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا } وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : { يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } . وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِالْإِسْنَادِ الْمَعْرُوفِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : مُؤْتَمَنًا عَلَيْهِ . قَالَ : وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ أَنَّهُ الْأَمِينُ . وَرُوِيَ مِنْ تَفْسِيرِ الْوَالِبِيَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : الْمُهَيْمِنُ الْأَمِينُ قَالَ : عَلَى كُلِّ كِتَابٍ قَبْلَهُ وَكَذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ : مُصَدِّقًا بِهَذِهِ الْكُتُبِ وَأَمِينًا عَلَيْهَا . وَمِنْ تَفْسِيرِ الْوَالِبِيَّ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ قَالَ : شَهِيدًا وَكَذَلِكَ قَالَ السدي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ فِي قَوْلِهِ : " وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ " عَلَى كُلِّ كِتَابٍ قَبْلَهُ . قَالَ : وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ وَعَطِيَّةَ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وقتادة والسدي وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ نَحْوِ ذَلِكَ . وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ قَدْ ذَكَرَ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّهُ طُلِبَ مِنْهُ إخْرَاجُ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ مُخْتَصَرًا بِأَصَحِّ الْأَسَانِيدِ وَأَنَّهُ تَحَرَّى إخْرَاجَهُ بِأَصَحِّ الْأَخْبَارِ إسْنَادًا وَأَشْبَعَهَا مَتْنًا وَذَكَرَ إسْنَادَهُ عَنْ كُلِّ مَنْ نَقَلَ عَنْهُ شَيْئًا . فَالسَّلَفُ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْمُهَيْمِنُ الْمُؤْتَمِنُ الشَّاهِدُ عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكُتُبِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُهَيْمِنَ عَلَى الشَّيْءِ أَعْلَى مِنْهُ مَرْتَبَةً . وَمِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ " الْمُهَيْمِنُ " وَيُسَمَّى الْحَاكِمَ عَلَى النَّاسِ الْقَائِمَ بِأُمُورِهِمْ " الْمُهَيْمِنُ " . قَالَ الْمُبَرِّدُ وَالْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُمَا : الْمُهَيْمِنُ فِي اللُّغَةِ الْمُؤْتَمِنُ . وَقَالَ الْخَلِيلُ : الرَّقِيبُ الْحَافِظُ وَقَالَ الْخَطَّابِيَّ : الْمُهَيْمِنُ الشَّهِيدُ . قَالَ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ : الْهَيْمَنَةُ الْقِيَامُ عَلَى الشَّيْءِ وَالرِّعَايَةُ لَهُ وَأَنْشَدَ : أَلَا إنَّ خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ نَبِيِّهِمْ مُهَيْمِنُهُ التاليه فِي الْعُرْفِ وَالنُّكْرِ يُرِيدُ الْقَائِمُ عَلَى النَّاسِ بِالرِّعَايَةِ لَهُمْ . وَفِي مُهَيْمِنٍ قَوْلَانِ : قِيلَ أَصْلُهُ مؤيمن وَالْهَاءُ مُبَدَّلَةٌ مِنْ الْهَمْزَةِ وَقِيلَ بَلْ الْهَاءُ أَصْلِيَّةٌ . وَهَكَذَا الْقُرْآنُ فَإِنَّهُ قَرَّرَ مَا فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ الْخَبَرِ عَنْ اللَّهِ وَعَنْ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَزَادَ ذَلِكَ بَيَانًا وَتَفْصِيلًا . وَبَيَّنَ الْأَدِلَّةَ وَالْبَرَاهِينَ عَلَى ذَلِكَ وَقَرَّرَ نُبُوَّةَ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ وَرِسَالَةَ الْمُرْسَلِينَ وَقَرَّرَ الشَّرَائِعَ الْكُلِّيَّةَ الَّتِي بُعِثَتْ بِهَا الرُّسُلُ كُلُّهُمْ . وَجَادَلَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ بِأَنْوَاعِ الْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ وَبَيَّنَ عُقُوبَاتِ اللَّهِ لَهُمْ وَنَصْرَهُ لِأَهْلِ الْكُتُبِ الْمُتَّبِعِينَ لَهَا وَبَيَّنَ مَا حُرِّفَ مِنْهَا وَبُدِّلَ وَمَا فَعَلَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَبَيَّنَ أَيْضًا مَا كَتَمُوهُ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِبَيَانِهِ وَكُلُّ مَا جَاءَتْ بِهِ النُّبُوَّاتُ بِأَحْسَنِ الشَّرَائِعِ وَالْمَنَاهِجِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ فَصَارَتْ لَهُ الْهَيْمَنَةُ عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكُتُبِ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَهُوَ شَاهِدٌ بِصِدْقِهَا وَشَاهِدٌ بِكَذِبِ مَا حُرِّفَ مِنْهَا وَهُوَ حَاكِمٌ بِإِقْرَارِ مَا أَقَرَّهُ اللَّهُ وَنَسْخِ مَا نَسَخَهُ فَهُوَ شَاهِدٌ فِي الْخَبَرِيَّاتِ حَاكِمٌ فِي الْأَمْرِيَّاتِ . وَكَذَلِكَ مَعْنَى " الشَّهَادَةِ " وَ " الْحُكْمِ " يَتَضَمَّنُ إثْبَاتَ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ مِنْ صِدْقٍ وَمُحْكَمٍ وَإِبْطَالِ مَا أَبْطَلَهُ مِنْ كَذِبٍ وَمَنْسُوخٍ وَلَيْسَ الْإِنْجِيلُ مَعَ التَّوْرَاةِ وَلَا الزَّبُورِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ بَلْ هِيَ مُتَّبَعَةٌ لِشَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ إلَّا يَسِيرًا نَسَخَهُ اللَّهُ بِالْإِنْجِيلِ ; بِخِلَافِ الْقُرْآنِ . ثُمَّ إنَّهُ مُعْجِزٌ فِي نَفْسِهِ لَا يَقْدِرُ الْخَلَائِقُ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ فَفِيهِ دَعْوَةُ الرَّسُولِ وَهُوَ آيَةُ الرَّسُولِ وَبُرْهَانُهُ عَلَى صِدْقِهِ وَنُبُوَّتِهِ وَفِيهِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَهُوَ نَفْسُهُ بُرْهَانٌ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ . وَفِيهِ أَيْضًا مِنْ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ وَبَيَانِ الْآيَاتِ عَلَى تَفْضِيلِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مَا لَوْ جُمِعَ إلَيْهِ عُلُومُ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ لَمْ يَكُنْ مَا عِنْدَهُمْ إلَّا بَعْضُ مَا فِي الْقُرْآنِ . وَمَنْ تَأَمَّلَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الْأَوَّلُونَ والآخرون فِي أُصُولِ الدِّينِ وَالْعُلُومِ الْإِلَهِيَّةِ وَأُمُورِ الْمَعَادِ وَالنُّبُوَّاتِ وَالْأَخْلَاقِ وَالسِّيَاسَاتِ وَالْعِبَادَاتِ وَسَائِرِ مَا فِيهِ كَمَالُ النُّفُوسِ وَصَلَاحُهَا وَسَعَادَتُهَا وَنَجَاتُهَا لَمْ يَجِدْ عِنْدَ الْأَوَّلِينَ والآخرين مِنْ أَهْلِ النُّبُوَّاتِ وَمِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ كالمتفلسفة وَغَيْرِهِمْ إلَّا بَعْضَ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ . وَلِهَذَا لَمْ تَحْتَجْ الْأُمَّةُ مَعَ رَسُولِهَا وَكِتَابِهَا إلَى نَبِيٍّ آخَرَ وَكِتَابٍ آخَرَ ; فَضْلًا عَنْ أَنْ تَحْتَاجَ إلَى شَيْءٍ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ غَيْرُهُ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ عِلْمِ الْمُحَدِّثِينَ وَالْمُلْهَمِينَ أَوْ مِنْ عِلْمِ أَرْبَابِ النَّظَرِ وَالْقِيَاسِ الَّذِينَ لَا يَعْتَصِمُونَ مَعَ ذَلِكَ بِكِتَابِ مُنَزَّلٍ مِنْ السَّمَاءِ . وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { إنَّهُ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدِّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ } . فَعَلَّقَ ذَلِكَ تَعْلِيقًا فِي أُمَّتِهِ مَعَ جَزْمِهِ بِهِ فِيمَنْ تَقَدَّمَ لِأَنَّ الْأُمَمَ قَبْلَنَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ إلَى الْمُحَدِّثِينَ كَمَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ إلَى نَبِيٍّ بَعْدَ نَبِيٍّ وَأَمَّا أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَغْنَاهُمْ اللَّهُ بِرَسُولِهِمْ وَكِتَابِهِمْ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ حَتَّى أَنَّ الْمُحَدِّثَ مِنْهُمْ كَعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْهُ مَا وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَإِذَا حَدَّثَ شَيْئًا فِي قَلْبِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْبَلَهُ حَتَّى يَعْرِضَهُ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَكَذَلِكَ لَا يَقْبَلُهُ إلَّا إنْ وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ عَلَى مَا سِوَاهُ . وَالْمَقْصُودُ أَنْ نُبَيِّنَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا هُوَ مِنْ الْعِلْمِ الْمُسْتَقِرِّ فِي نُفُوسِ الْأُمَّةِ السَّابِقِينَ وَالتَّابِعِينَ وَلَمْ يُعْرَفْ قَطُّ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ رَدَّ مِثْلَ هَذَا وَلَا قَالَ : لَا يَكُونُ كَلَامُ اللَّهِ بَعْضُهُ أَشْرَفُ مِنْ بَعْضٍ فَإِنَّهُ كُلُّهُ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ إنَّمَا حَدَثَ هَذَا الْإِنْكَارُ لَمَّا ظَهَرَتْ بِدَعُ الجهمية الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ وَجَعَلُوهُ عِضِينَ .