تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ . سُورَةُ الْإِخْلَاصِ سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد ابْنُ تيمية رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَمَّا وَرَدَ فِي سُورَةِ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } أَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ وَرَدَ فِي سُورَةِ ( الزَّلْزَلَةِ وَ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } وَ ( الْفَاتِحَةِ هَلْ مَا وَرَدَ فِي هَذِهِ الْمُعَادَلَةِ ثَابِتٌ فِي الْمَجْمُوعِ أَمْ فِي الْبَعْضِ ؟ وَمَنْ رَوَى ذَلِكَ ؟ وَمَا ثَبَتَ مِنْ ذَلِكَ ؟ وَمَا مَعْنَى هَذِهِ الْمُعَادَلَةِ وَكَلَامُ اللَّهِ وَاحِدٌ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ ؟ وَهَلْ هَذِهِ الْمُفَاضَلَةُ - بِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهَا - مُتَعَدِّيَةٌ إلَى الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ أَمْ لَا ؟ وَالصِّفَاتُ الْقَدِيمَةُ وَالْأَسْمَاءُ الْقَدِيمَةُ هَلْ يَجُوزُ الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَهَا مَعَ أَنَّهَا قَدِيمَةٌ ؟ وَمَنْ الْقَائِلُ بِذَلِكَ وَفِي أَيِّ كُتُبِهِ قَالَ ذَلِكَ وَوَجْهُ التَّرْجِيحِ فِي ذَلِكَ بِمَا يُمْكِنُ مِنْ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ وَنَقْلِيٍّ ؟
12345678910111213141516171819202122
وَأَمَّا تَفْضِيلُ بَعْضِ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى بَعْضٍ ; بَلْ تَفْضِيلُ بَعْضِ صِفَاتِهِ عَلَى بَعْضِ : فَدَلَالَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْآثَارِ السَّلَفِيَّةِ كَثِيرَةٌ عَلَى ذَلِكَ فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْحَقَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَنَّهَا لَا تَتَفَاضَلُ لَمْ يَكُنْ نَفْيُ تَفَاضُلِهَا مَعْلُومًا إلَّا بِالْعَقْلِ لَا بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ وَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهَا تَتَفَاضَلُ فَالدَّالُّ عَلَى ذَلِكَ هُوَ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ مَعَ الْعَقْلِيَّةِ فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ الْحَقَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ هُوَ التَّفْضِيلُ لَكَانَ كُفْرُ جَاحِدِ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ كُفْرِ مَنْ يُثْبِتُ التَّفْضِيلَ إذَا لَمْ يَكُنْ حَقًّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِأَنَّ ذَلِكَ جَحَدَ مُوجِبَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ ; بَلْ لَمَّا رَآهُ بِعَقْلِهِ وَأَخْطَأَ فِيهِ ; إذْ نَحْنُ نَتَكَلَّمُ فِي هَذَا التَّقْدِيرِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ خَالَفَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ بِمُجَرَّدِ عَقْلِهِ فَهُوَ أَوْلَى بِالْكُفْرِ مِمَّنْ لَمْ يُخَالِفْ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ وَإِنَّمَا خَالَفَ مَا عُلِمَ بِالْعَقْلِ إنْ كَانَ ذَلِكَ حَقًّا . وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُ بَعْضِ نفاة الصِّفَاتِ لَمَّا تَأَمَّلَ حَالَ أَصْحَابِهِ وَحَالَ مُثْبِتِيهَا قَالَ : لَا رَيْبَ أَنَّ حَالَ هَؤُلَاءِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ حَالِنَا فَإِنَّ هَؤُلَاءِ إنْ كَانُوا مُصِيبِينَ فَقَدْ نَالُوا الدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالرِّضْوَانَ الْأَكْبَرَ وَإِنْ كَانُوا مُخْطِئِينَ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : نَحْنُ يَا رَبِّ صَدَّقْنَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ كِتَابُك وَسُنَّةُ رَسُولِك إذْ لَمْ تُبَيِّنْ لَنَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ نَفْيَ الصِّفَاتِ كَمَا دَلَّ كَلَامُك عَلَى إثْبَاتِهَا فَنَحْنُ أَثْبَتْنَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُك وَكَلَامُ رَسُولِك فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ فِي خِلَافِ ذَلِكَ فَلَمْ يُبَيِّنْ الرَّسُولُ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ خِلَافَ ذَلِكَ مِمَّا يُعْلَمُ بِبَدَاهَةِ الْعُقُولِ بَلْ إنَّ قُدِّرَ أَنَّهُ حَقٌّ فَلَا يَعْلَمُهُ إلَّا الْأَفْرَادُ فَكَيْفَ وَعَامَّةُ الْمُنْتَهِينَ فِي خِلَافِ ذَلِكَ إلَى الْغَايَةِ يُقِرُّونَ بِالْحَيْرَةِ وَالِارْتِيَابِ . قَالَ النَّافِي : وَإِنْ كُنَّا نَحْنُ مُصِيبِينَ فَإِنَّهُ يُقَالُ لَنَا : أَنْتُمْ قُلْتُمْ شَيْئًا لَمْ آمُرْكُمْ بِقَوْلِهِ وَطَلَبْتُمْ عِلْمًا لَمْ آمُرْكُمْ بِطَلَبِهِ . فَالثَّوَابُ إنَّمَا يَكُونُ لِأَهْلِ الطَّاعَةِ وَأَنْتُمْ لَمْ تَمْتَثِلُوا أَمْرِي . قَالَ : وَإِنْ كُنَّا مُخْطِئِينَ فَقَدْ خَسِرْنَا خُسْرَانًا مُبِينًا . وَهَذَا حَالُ مَنْ أَثَبَتَ الْمُفَاضَلَةَ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَمَنْ نَفَاهَا فَإِنَّ الْمُثْبِتَ مُعْتَصِمٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ وَمَعَهُ مِنْ الْمَعْقُولَاتِ الصَّرِيحَةِ الَّتِي تُبَيِّنُ صِحَّةَ قَوْلِهِ وَفَسَادَ قَوْلِ مُنَازِعِهِ مَا لَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهَا طَعْنٌ صَحِيحٌ . وَأَمَّا النَّافِي فَلَيْسَ مَعَهُ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَلَا حَدِيثٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا قَوْلُ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَإِنَّمَا مَعَهُ مُجَرَّدُ رَأْيٍ يَزْعُمُ أَنَّ عَقْلَهُ دَلَّ عَلَيْهِ وَمُنَازِعُهُ يُبَيِّنُ أَنَّ الْعَقْلَ إنَّمَا دَلَّ عَلَى نَقِيضِهِ وَأَنَّ خَطَأَهُ مَعْلُومٌ بِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِصَحِيحِ الْمَنْقُولِ . وَاحْتِجَاجُ الْمُحْتَجِّ عَلَى نَفْيِ التَّفَاضُلِ بِقَوْلِهِ : { جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ } فِي غَايَةِ الْفَسَادِ ; فَإِنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى هَذَا بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ سَوَاءٌ أُرِيدَ بِهَا مَنْ آمَنَ بِبَعْضِهِ وَكَفَرَ بِبَعْضِهِ أَوْ أُرِيدَ بِهَا مَنْ عَضَهَهُ فَقَالَ : هُوَ سِحْرٌ وَشِعْرٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ ; بَلْ مَنْ نَفَى فَضْلَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } عَلَى { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } فَهُوَ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ مِمَّنْ جَعَلَهُ عِضِينَ ; إنْ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ آمَنَ بِمَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ كَلَامَهُ فَأَقَرَّ بِأَنَّهُ جَمِيعُهُ كَلَامُ اللَّهِ وَأَقَرَّ بِهِ كُلِّهِ فَلَمْ يَكْفُرْ بِحَرْفِ مِنْهُ وَعَلِمَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ كَلَامٍ وَأَنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا أَحْسَنَ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا وَلَا أَصْدَقَ مِنْهُ قِيلًا وَأَقَرَّ بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِ بَعْضِ كَلَامِهِ كَفَضْلِ ( فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَ ( آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَ ( { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَنَحْوِ ذَلِكَ بَلْ وَتَفْضِيلُ ( يس وَ ( تَبَارَكَ وَالْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بَلْ وَتَفْضِيلُ ( الْبَقَرَةِ وَ ( آلِ عِمْرَانَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ السُّورِ وَالْآيَاتِ الَّتِي نَطَقَتْ النُّصُوصُ بِفَضْلِهَا وَأَقَرَّ بِأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ مِنْهُ شَيْءٌ كَلَامًا لِغَيْرِهِ لَا مَعَانِيهِ وَلَا حُرُوفُهُ فَهُوَ أَبْعَدُ عَنْ جَعْلِهِ عِضِينَ مِمَّنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ ; بَلْ آمَنَ بِفَضْلِهِ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِفَضْلِهِ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلَّمِ فِيهِ ; فَإِنَّ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ آمَنَ بِهِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ . وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ : إنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ وَأَنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَمْ يَتَكَلَّمْ اللَّهُ بِهِ ; بَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ خَلَقَهُ اللَّهُ فِي الْهَوَاءِ أَوْ أَحْدَثَهُ جِبْرِيلُ أَوْ مُحَمَّدٌ فَهَذَا أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِيمَنْ عَضَهَ الْقُرْآنُ وَرَمَاهُ بِالْإِفْكِ وَجَعَلَ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ كَلَامَ مَخْلُوقٍ : إمَّا بَشَرٌ وَإِمَّا مَلِكٌ وَإِمَّا غَيْرُهُمَا فَمَنْ جَعَلَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ كَلَامَ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ وَلَا هُوَ مِنْ إحْدَاثِ مَخْلُوقٍ لَا جِبْرِيلَ وَلَا مُحَمَّدٍ وَلَا شَيْءٍ مِنْهُ بَلْ جِبْرِيلُ رَسُولٌ مَلَكٌ وَمُحَمَّدٌ رَسُولٌ بَشَرٌ وَاَللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنْ النَّاسِ فَاصْطَفَى لِكَلَامِهِ الرَّسُولَ الْمَلَكِيَّ فَنَزَلَ بِهِ عَلَى الرَّسُولِ الْبَشَرِيِّ الَّذِي اصْطَفَاهُ وَقَدْ أَضَافَهُ إلَى كُلٍّ مِنْ الرَّسُولَيْنِ لِأَنَّهُ بَلَّغَهُ وَأَدَّاهُ ; لَا لِأَنَّهُ أَنْشَأَهُ وَابْتَدَاهُ قَالَ تَعَالَى : { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } { ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ } { مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } فَهَذَا نَعْتُ جِبْرِيلَ الَّذِي قَالَ فِيهِ : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ } وَقَالَ : { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ } { عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } وَقَالَ : { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ } { وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } { تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ } { لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ } { ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ } { فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } فَهَذِهِ صِفَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَضَافَ الْقَوْلَ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِاسْمِ الرَّسُولِ فَقَالَ { لَقَوْلُ رَسُولٍ } لِأَنَّ الرَّسُولَ يَدُلُّ عَلَى الْمُرْسَلِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَوْلُ رَسُولٍ بَلَّغَهُ عَنْ مُرْسَلٍ . لَمْ يَقُلْ : إنَّهُ لَقَوْلُ مَلَكٍ وَلَا بَشَرٍ بَلْ كَفَرَ مَنْ جَعَلَهُ قَوْلَ بَشَرٍ بِقَوْلِهِ : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا } { وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا } { وَبَنِينَ شُهُودًا } { وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا } { ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ } { كَلَّا إنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا } { سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا } { إنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ } { فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } { ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } { ثُمَّ نَظَرَ } { ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ } { ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ } { فَقَالَ إنْ هَذَا إلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ } { إنْ هَذَا إلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ } فَمِنْ قَالَ إنَّهُ قَوْلُ بِشَرِّ أَوْ قَوْلُ مَخْلُوقٍ غَيْرِ الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ وَمَنْ جَعَلَهُ قَوْلَ رَسُولٍ مِنْ الْبَشَرِ فَقَدْ صَدَقَ ; لِأَنَّ الرَّسُولَ لَيْسَ لَهُ فِيهِ إلَّا التَّبْلِيغُ وَالْأَدَاءُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } وَفِي سُنَنِ أَبِي داود عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ فِي الْمَوْسِمِ وَيَقُولُ : أَلَا رَجُلٍ يَحْمِلُنِي إلَى قَوْمِهِ لِأُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي ؟ فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدّ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي } . وَاَلَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ السَّلَفُ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ : مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ . قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ : " مِنْهُ بَدَأَ " أَيْ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ لَمْ يَبْتَدِ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا قَالَتْ الجهمية الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ قَالُوا : خَلْقُهُ فِي غَيْرِهِ فَهُوَ مُبْتَدَأٌ مِنْ ذَلِكَ الْمَحَلِّ الْمَخْلُوقِ وَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا لِذَلِكَ الْمَحَلِّ الْمَخْلُوقِ لَا لِلَّهِ تَعَالَى ; لَا سِيَّمَا والجهمية كُلُّهُمْ يَقُولُونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَهُمْ غُلَاةٌ فِي الْجَبْرِ وَلَكِنْ الْمُعْتَزِلَةِ تُوَافِقُهُمْ عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ وَالْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَتُخَالِفُهُمْ فِي الْقَدَرِ وَالْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ فَإِذَا كَانَ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ مَا سِوَاهُ لَزِمَهُمْ أَنْ يَكُونَ كُلُّ كَلَامٍ كَلَامَهُ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَهُ وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَرَبِيٍّ الطَّائِيُّ - وَكَانَ مِنْ غُلَاةِ هَؤُلَاءِ الجهمية يَقُولُ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ - قَالَ : وَكُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُهُ سَوَاءٌ عَلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ وَلِهَذَا قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ داود الْهَاشِمِيُّ - نَظِيرُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ الَّذِي قَالَ الشَّافِعِيُّ : مَا رَأَيْت أَعْقَلَ مِنْ رَجُلَيْنِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَسُلَيْمَانَ بْنِ داود الْهَاشِمِيِّ - قَالَ : مَنْ قَالَ : { إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا } مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ . وَإِنْ كَانَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقًا كَمَا زَعَمُوا فَلِمَ صَارَ فِرْعَوْنُ أَوْلَى بِأَنْ يُخَلَّدُ فِي النَّارِ إذْ قَالَ : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } وَزَعَمُوا أَنَّ هَذَا مَخْلُوقٌ ؟ . وَمَعْنَى ذَلِكَ كَوْنُ قَوْلِ فِرْعَوْنَ : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } كَلَامًا قَائِمًا بِذَاتِ فِرْعَوْنَ فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ { إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا } كَلَامًا خَلَقَهُ فِي الشَّجَرَةِ كَانَتْ الشَّجَرَةُ هِيَ الْقَائِلَةُ لِذَلِكَ كَمَا كَانَ فِرْعَوْنُ هُوَ الْقَائِلُ لِذَلِكَ وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ جَعْلُ الشَّجَرَةِ إلَهًا أَعْظَمَ كُفْرًا مِنْ جَعْلِ فِرْعَوْنَ إلَهًا . والجهمية وَالْمُعْتَزِلَةُ لَمْ يَقُمْ عِنْدَهُمْ بِذَاتِ اللَّهِ لَا طَلَبٌ وَلَا إرَادَةٌ وَلَا مَحَبَّةٌ وَلَا رِضًا وَلَا غَضَبٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يُجْعَلُ مَدْلُولَ الْأَصْوَاتِ الْمَخْلُوقَةِ . وَلَا قَامَ بِذَاتِهِ عِنْدَهُمْ إيجَابٌ وَإِلْزَامٌ وَلَا تَحْرِيمٌ وَحَظْرٌ فَلَمْ يَكُنْ لِلْكَلَامِ الْمَخْلُوقِ فِي غَيْرِهِ مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِهِ يَدُلُّ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْمَخْلُوقُ حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَ مَا خَلَقَهُ فِي الْجَمَادِ وَمَا خَلَقَهُ فِي الْحَيَوَانِ . وَكَانَ مَقْصُودُ السَّلَفِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْقُرْآنِ وَسَائِرِ كَلَامِهِ . وَأَنَّهُ مِنْهُ نَزَلَ لَمْ يَنْزِلْ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ : إنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ وَإِنَّمَا قَالُوا هُوَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَقَالُوا لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَمَتَى شَاءَ وَكَيْفَ شَاءَ وَكَمَا شَاءَ وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ : إنَّ اللَّهَ فِي الْأَزَلِ نَادَى مُوسَى وَلَا قَالَ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ يَقُولُ يَا آدَمَ يَا نُوحُ يَا مُوسَى يَا إبْلِيسُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُ قَالَ . وَلَكِنْ طَائِفَةٌ مِمَّنْ اتَّبَعَ السَّلَفَ اعْتَقَدُوا أَنَّهُ إذَا كَانَ غَيْرَ مَخْلُوقٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا إذْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ إلَّا هَذَا وَهَذَا وَهَؤُلَاءِ يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَوْ يَغْضَبُ عَلَى الْكُفَّارِ إذَا عَصَوْهُ أَوْ يَرْضَى عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إذَا أَطَاعُوهُ أَوْ يَفْرَحُ بِتَوْبَةِ التَّائِبِينَ إذَا تَابُوا أَوْ يَكُونُ نَادَى مُوسَى حِينَ أَتَى الشَّجَرَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَقَوْلِهِ : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } وَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ } وَقَوْلِهِ : { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } . وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ كَلِمَاتِهِ لَا نَفَادَ لَهَا بِقَوْلِهِ : { لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } . وَأَتْبَاعُ السَّلَفِ يَقُولُونَ : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ قَدِيمٌ أَيْ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ لَا يَقُولُونَ : إنَّ نَفْسَ الْكَلِمَةِ الْمُعَيَّنَةِ قَدِيمَةٌ كَنِدَائِهِ لِمُوسَى وَنَحْوِ ذَلِكَ . لَكِنَّ هَؤُلَاءِ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْقُرْآنَ وَسَائِرَ كَلَامِ اللَّهِ قَدِيمُ الْعَيْنِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . ثُمَّ اخْتَلَفُوا : فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْقَدِيمُ هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ هُوَ جَمِيعُ مَعَانِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَأَنَّ التَّوْرَاةَ إذَا عُبِّرَ عَنْهَا بِالْعَرَبِيَّةِ صَارَتْ قُرْآنًا وَالْقُرْآنُ إذَا عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعِبْرِيَّةِ صَارَ تَوْرَاةً : قَالُوا : وَالْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ لَمْ يَتَكَلَّمْ اللَّهُ بِهِ بَلْ إمَّا أَنْ يَكُونَ خَلَقَهُ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَحْدَثَهُ جِبْرِيلُ أَوْ مُحَمَّدٌ فَيَكُونُ كَلَامًا لِذَلِكَ الرَّسُولِ تَرْجَمَ بِهِ عَنْ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ الْقَائِمِ بِذَاتِ الرَّبِّ الَّذِي هُوَ جَمِيعُ مَعَانِي الْكَلَامِ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ الْقُرْآنُ الْقَدِيمُ هُوَ حُرُوفٌ أَوْ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ وَهِيَ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِ الرَّبِّ أَزَلًا وَأَبَدًا وَهِيَ مُتَعَاقِبَةٌ فِي ذَاتِهَا وَمَاهِيَّتِهَا لَا فِي وُجُودِهَا ; فَإِنَّ الْقَدِيمَ لَا يَكُونُ بَعْضُهُ مُتَقَدِّمًا عَلَى بَعْضٍ فَفَرَّقُوا بَيْنَ ذَاتِ الْكَلَامِ وَبَيْنَ وُجُودِهِ وَجَعَلُوا التَّعَاقُبَ فِي ذَاتِهِ لَا فِي وُجُودِهِ كَمَا يُفَرِّقُ بَيْنَ وُجُودِ الْأَشْيَاءِ بِأَعْيَانِهَا وَمَاهِيَّاتِهَا مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ والمتفلسفة وَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ تَقُولُ : إنَّهُ إذَا كَلَّمَ مُوسَى أَوْ الْمَلَائِكَةَ أَوْ الْعِبَادَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُ بِكَلَامِ يَتَكَلَّمُ بِهِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ حِينَ يُكَلِّمُهُ وَلَكِنْ يَخْلُقُ لَهُ إدْرَاكًا يُدْرِكُ ذَلِكَ الْكَلَامَ الْقَدِيمَ اللَّازِمَ لِذَاتِ اللَّهِ أَزَلًا وَأَبَدًا . وَعِنْدَهُمْ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ يَقُولُ : { يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ } وَ : { يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ } و { يَا إبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } وَنَحْوَ ذَلِكَ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَغَيْرِهَا فِي مَوَاضِعَ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَنْقُلَ وَاحِدًا مِنْهُمَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ : أَعْنِي الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْمَشْهُورِينَ بِالْعِلْمِ وَالدِّينِ الَّذِينَ لَهُمْ فِي الْأُمَّةِ لِسَانُ صِدْقٍ فِي زَمَنِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَلَا زَمَنِ الشَّافِعِيِّ وَلَا زَمَنِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا قَبْلَهُمْ . وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ هَذَا الْأَصْلَ هُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ وَعَرَفَ أَنَّ الْحُرُوفَ مُتَعَاقِبَةٌ فَيَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ قَدِيمَةَ الْأَعْيَانِ فَإِنَّ الْمُتَأَخِّرَ قَدْ سَبَقَهُ غَيْرُهُ وَالْقَدِيمُ لَا يَسْبِقُهُ غَيْرُهُ وَالصَّوْتُ الْمُعَيَّنُ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ فَكَيْفَ يَكُونُ قَدِيمًا فَقَالَ بِأَنَّ الْقَدِيمَ هُوَ الْمَعْنَى ثُمَّ جَعَلَ الْمَعْنَى وَاحِدًا لَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَبَعَّضُ لِامْتِنَاعِ اخْتِصَاصِهِ بِعَدَدِ مُعَيَّنٍ وَامْتِنَاعِ مَعَانٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا فِي آنٍ وَاحِدٍ وَجَعَلَ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ . فَلَمَّا شَاعَ قَوْلُهُ وَعَرَفَ جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ فَسَادَهُ شَرْعًا وَعَقْلًا قَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى - مِمَّنْ وَافَقَتْهُ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ - إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَعَلَى الْأَصْلِ الَّذِي أَحْدَثَهُ مِنْ الْقَوْلِ بِقِدَمِ الْقُرْآنِ - : إنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ الْحُرُوفِ الْمُتَعَاقِبَةِ وَالْأَصْوَاتِ الْمُؤَلَّفَةِ . فَصَارَ قَوْلُ هَؤُلَاءِ مُرَكَّبًا مِنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَقَوْلِ الكلابية فَإِذَا نَاظَرُوا الْمُعْتَزِلَةَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ نَاظَرُوهُمْ بِطَرِيقَةِ ابْنِ كُلَّابٍ وَإِذَا نَاظَرَهُمْ الكلابية عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ كَلَامُ اللَّهِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي يَقْرَأهُ الْمُسْلِمُونَ كَلَامُ اللَّهِ نَاظَرُوهُمْ بِحُجَجِ الْمُعْتَزِلَةِ . وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ كَمَا بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَلَا قَالَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ لَا الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَلَا أَصْحَابُهُمْ الَّذِينَ أَدْرَكُوهُمْ وَإِنَّمَا قَالَهُ - مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَيْهِمْ - بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ تَلَقَّوْهَا عَمَّنْ قَالَهَا مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ خِبْرَةٌ لَا بِأَقْوَالِ السَّلَفِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْعَقْلُ الصَّرِيحُ وَلَا بِحَقَائِقِ أَقْوَالِ أَهْلِ الْكَلَامِ الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَفُ وَلِمَ قَالُوا هَذَا وَمَا الَّذِي أَلْجَأَهُمْ إلَى هَذَا ؟ وَقَدْ شَاعَ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ قَوْلٌ مُبْتَدَعٌ مَذْمُومٌ عِنْدَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فَصَارَ مَنْ يُطَالِعُ كُتُبَ الْكَلَامِ الَّتِي لَا يَجِدُ فِيهَا إلَّا قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ وَقَوْلَ مَنْ رَدَّ عَلَيْهِمْ وَانْتَسَبَ إلَى السُّنَّةِ يَظُنُّ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ إلَّا هَذَا الْقَوْلُ وَهَذَا وَذَاكَ قَدْ عَرَفَ أَنَّهُ قَوْلٌ مَذْمُومٌ عِنْدَ السَّلَفِ فَيُظَنُّ الْقَوْلَ الْآخَرَ قَوْلَ السَّلَفِ كَمَا يَقَعُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ فِي غَيْرِ هَذِهِ : لَا يَعْرِفُ الرَّجُلُ فِي الْمَسْأَلَةِ إلَّا قَوْلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً فَيَظُنُّ الصَّوَابَ وَاحِدًا مِنْهَا وَيَكُونُ فِيهَا قَوْلٌ لَمْ يَبْلُغْهُ وَهُوَ الصَّوَابُ دُونَ تِلْكَ . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ . وَاَللَّهُ يَهْدِينَا وَسَائِرَ إخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ إلَى مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَمَنْ اجْتَهَدَ بِقَصْدِ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ لَمْ يُكَلِّفْهُ اللَّهُ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ بَلْ يُثِيبُهُ اللَّهُ عَلَى مَا فَعَلَهُ مِنْ طَاعَتِهِ وَيَغْفِرُ مَا أَخْطَأَ فِيهِ فَعَجَزَ عَنْ مَعْرِفَتِهِ .