وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ " صِحَّةِ أُصُولِ مَذْهَبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ " وَمَنْزِلَةِ مَالِكٍ الْمَنْسُوبِ إلَيْهِ مَذْهَبُهُمْ فِي الْإِمَامَةِ وَالدِّيَانَةِ ; وَضَبْطِهِ عُلُومَ الشَّرِيعَةِ عِنْدَ أَئِمَّةِ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ وَأَهْلِ الثِّقَةِ وَالْخِبْرَةِ مِنْ سَائِرِ الْأَعْصَارِ ؟
وَفِي الْقُرُونِ الَّتِي أَثْنَى عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَصَحَّ مَذَاهِبِ أَهْلِ الْمَدَائِنِ ; فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَأَسَّوْنَ بِأَثَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ مِنْ سَائِرِ الْأَمْصَارِ وَكَانَ غَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ دُونَهُمْ فِي الْعِلْمِ بِالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وَاتِّبَاعِهَا حَتَّى أَنَّهُمْ لَا يَفْتَقِرُونَ إلَى نَوْعٍ مِنْ سِيَاسَةِ الْمُلُوكِ وَأَنَّ افْتِقَارَ الْعُلَمَاءِ وَمَقَاصِدِ الْعِبَادِ أَكْثَرُ مِنْ افْتِقَارِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ; حَيْثُ كَانُوا أَغْنَى مِنْ غَيْرِهِمْ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِمَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ الْآثَارِ النَّبَوِيَّةِ الَّتِي يَفْتَقِرُ إلَى الْعِلْمِ بِهَا وَاتِّبَاعِهَا كُلُّ أَحَدٍ . وَلِهَذَا لَمْ يَذْهَبْ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ إلَى أَنَّ إجْمَاعَ أَهْلِ مَدِينَةٍ مِنْ الْمَدَائِنِ حُجَّةٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهَا غَيْرُ الْمَدِينَةِ لَا فِي تِلْكَ الْأَعْصَارِ وَلَا فِيمَا بَعْدَهَا لَا إجْمَاعَ أَهْلِ مَكَّةَ ; وَلَا الشَّامِ ; وَلَا الْعِرَاقِ ; وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ . وَمَنْ حَكَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَوْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَّ إجْمَاعَ أَهْلِ الْكُوفَةِ حُجَّةٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهَا عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فَقَدْ غَلِطَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ فِي ذَلِكَ . وَأَمَّا الْمَدِينَةُ فَقَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي إجْمَاعِ أَهْلِهَا وَاشْتُهِرَ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ أَنَّ إجْمَاعَ أَهْلِهَا حُجَّةٌ وَإِنْ كَانَ بَقِيَّةُ الْأَئِمَّةِ يُنَازِعُونَهُمْ فِي ذَلِكَ . وَالْكَلَامُ إنَّمَا هُوَ فِي إجْمَاعِهِمْ فِي تِلْكَ الْأَعْصَارِ الْمُفَضَّلَةِ وَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ إجْمَاعَ أَهْلِهَا لَيْسَ بِحُجَّةِ إذْ كَانَ حِينَئِذٍ فِي غَيْرِهَا مِنْ الْعُلَمَاءِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا لَا سِيَّمَا مِنْ حِينِ ظَهَرَ فِيهَا الرَّفْضُ فَإِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بِمَذْهَبِهِمْ الْقَدِيمِ مُنْتَسِبِينَ إلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ إلَى أَوَائِلِ الْمِائَةِ السَّادِسَةِ أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ قَدِمَ إلَيْهِمْ مِنْ رَافِضَةِ الْمَشْرِقِ مِنْ أَهْلِ قاشان وَغَيْرِهِمْ مَنْ أَفْسَدَ مَذْهَبَ كَثِيرٍ مِنْهُمْ لَا سِيَّمَا الْمُنْتَسِبُونَ مِنْهُمْ إلَى الْعِتْرَةِ النَّبَوِيَّةِ وَقَدِمَ عَلَيْهِمْ بِكُتُبِ أَهْلِ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبَذَلَ لَهُمْ أَمْوَالًا كَثِيرَةً فَكَثُرَتْ الْبِدْعَةُ فِيهَا مِنْ حِينَئِذٍ . فَأَمَّا الْأَعْصَارُ الثَّلَاثَةُ الْمُفَضَّلَةُ فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ بِدْعَةٌ ظَاهِرَةٌ أَلْبَتَّةَ وَلَا خَرَجَ مِنْهَا بِدْعَةٌ فِي أُصُولِ الدِّينِ أَلْبَتَّةَ كَمَا خَرَجَ مِنْ سَائِرِ الْأَمْصَارِ فَإِنَّ الْأَمْصَارَ الْكِبَارَ الَّتِي سَكَنَهَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَخَرَجَ مِنْهَا الْعِلْمُ وَالْإِيمَانُ خَمْسَةٌ : الْحَرَمَانِ وَالْعِرَاقَانِ وَالشَّامُ ; مِنْهَا خَرَجَ الْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ وَالْفِقْهُ وَالْعِبَادَةُ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الْإِسْلَامِ . وَخَرَجَ مِنْ هَذِهِ الْأَمْصَارِ بِدَعُ أُصُولِيَّةِ غَيْرِ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ . فَالْكُوفَةُ خَرَجَ مِنْهَا التَّشَيُّعُ وَالْإِرْجَاءُ وَانْتَشَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهَا . وَالْبَصْرَةُ خَرَجَ مِنْهَا الْقَدَرُ وَالِاعْتِزَالُ وَالنُّسُكُ الْفَاسِدُ وَانْتَشَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهَا . وَالشَّامُ كَانَ بِهَا النُّصُبُ وَالْقَدَرُ .