وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ " صِحَّةِ أُصُولِ مَذْهَبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ " وَمَنْزِلَةِ مَالِكٍ الْمَنْسُوبِ إلَيْهِ مَذْهَبُهُمْ فِي الْإِمَامَةِ وَالدِّيَانَةِ ; وَضَبْطِهِ عُلُومَ الشَّرِيعَةِ عِنْدَ أَئِمَّةِ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ وَأَهْلِ الثِّقَةِ وَالْخِبْرَةِ مِنْ سَائِرِ الْأَعْصَارِ ؟
لَكِنَّ جُمْلَةَ مَذَاهِبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ رَاجِحَةٌ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى مَذَاهِبِ أَهْلِ الْمَغْرِبِ وَالْمَشْرِقِ وَذَلِكَ يَظْهَرُ بِقَوَاعِدَ جَامِعَةٍ : مِنْهَا : قَاعِدَةُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنَّجَاسَاتِ فِي الْمِيَاهِ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ اللَّهَ قَالَ فِي كِتَابِهِ : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } فَاَللَّهُ تَعَالَى أَحَلَّ لَنَا الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ عَلَيْنَا الْخَبَائِثَ وَالْخَبَائِثُ نَوْعَانِ : مَا خُبْثُهُ لِعَيْنِهِ لِمَعْنَى قَامَ بِهِ كَالدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ . وَمَا خُبْثُهُ لِكَسْبِهِ كَالْمَأْخُوذِ ظُلْمًا ; أَوْ بِعَقْدِ مُحَرَّمٍ كَالرِّبَا وَالْمَيْسِرِ . فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَكُلُّ مَا حَرُمَ مُلَابَسَتُهُ كَالنَّجَاسَاتِ حَرُمَ أَكْلُهُ وَلَيْسَ كُلُّ مَا حَرُمَ أَكْلُهُ حَرُمَتْ مُلَابَسَتُهُ كَالسُّمُومِ وَاَللَّهُ قَدْ حَرَّمَ عَلَيْنَا أَشْيَاءَ مِنْ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ مِنْ الْمَلَابِسِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي الْأَشْرِبَةِ أَشَدُّ مِنْ مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ ; فَإِنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ وَسَائِرَ الْأَمْصَارِ وَفُقَهَاءَ الْحَدِيثِ يُحَرِّمُونَ كُلَّ مُسْكِرٍ وَإِنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَحَرَامٌ وَإِنَّ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ وَلَمْ يَتَنَازَعْ فِي ذَلِكَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَا أَوَّلُهُمْ وَلَا آخِرُهُمْ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الثِّمَارِ أَوْ الْحُبُوبِ ; أَوْ الْعَسَلِ أَوْ لَبَنِ الْخَيْلِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ . وَالْكُوفِيُّونَ لَا خَمْرَ عِنْدَهُمْ إلَّا مَا اشْتَدَّ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ فَإِنْ طُبِخَ قَبْلَ الِاشْتِدَادِ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ حَلَّ وَنَبِيذُ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ مُحَرَّمٌ إذَا كَانَ مُسْكِرًا نِيئًا فَإِنْ طُبِخَ أَدْنَى طَبْخٍ حَلَّ وَإِنْ أَسْكَرَ وَسَائِرُ الْأَنْبِذَةِ تَحُلُّ وَإِنْ أَسْكَرَتْ لَكِنْ يُحَرِّمُونَ الْمُسْكِرَ مِنْهَا . وَأَمَّا الْأَطْعِمَةُ فَأَهْلُ الْكُوفَةِ أَشَدُّ فِيهَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ; فَإِنَّهُمْ مَعَ تَحْرِيمِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ ; وَتَحْرِيمِ اللَّحْمِ حَتَّى يُحَرِّمُونَ الضَّبَّ وَالضَّبُعَ وَالْخَيْلَ تَحْرُمُ عِنْدَهُمْ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَمَالِكٌ يُحَرِّمُ تَحْرِيمًا جَازِمًا مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ فَذَوَاتُ الْأَنْيَابِ إمَّا أَنْ يُحَرِّمَهَا تَحْرِيمًا دُونَ ذَلِكَ وَإِمَّا أَنْ يَكْرَهَهَا فِي الْمَشْهُورِ وَرُوِيَ عَنْهُ كَرَاهَةُ ذَوَاتِ الْمَخَالِبِ وَالطَّيْرُ لَا يُحَرِّمُ مِنْهَا شَيْئًا وَلَا يَكْرَهُهُ وَإِنْ كَانَ التَّحْرِيمُ عَلَى مَرَاتِبَ وَالْخَيْلُ يَكْرَهُهَا وَرُوِيَتْ الْإِبَاحَةُ وَالتَّحْرِيمُ أَيْضًا . وَمَنْ تَدَبَّرَ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ فِي هَذَا الْبَابِ عَلِمَ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَتْبَعُ لِلسُّنَّةِ فَإِنَّ بَابَ الْأَشْرِبَةِ قَدْ ثَبَتَ فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْأَحَادِيثِ مَا يَعْلَمُ مَنْ عَلِمَهَا أَنَّهَا مِنْ أَبْلَغِ الْمُتَوَاتِرَاتِ بَلْ قَدْ صَحَّ عَنْهُ فِي النَّهْيِ عَنْ الْخَلِيطَيْنِ وَالْأَوْعِيَةِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى عَالِمٍ بِالسُّنَّةِ وَأَمَّا الْأَطْعِمَةُ فَإِنَّهُ وَإِنْ قِيلَ : إنَّ مَالِكًا خَالَفَ أَحَادِيثَ صَحِيحَةً فِي التَّحْرِيمِ فَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ . وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي خَالَفَهَا مَنْ حَرَّمَ الضَّبَّ وَغَيْرَهُ تُقَاوِمُ ذَلِكَ أَوْ تَرْبُو عَلَيْهِ ثُمَّ إنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ قَلِيلَةٌ جِدًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى أَحَادِيثِ الْأَشْرِبَةِ . وَأَيْضًا فَمَالِكٌ مَعَهُ فِي ذَلِكَ آثَارٌ عَنْ السَّلَفِ كَابْنِ عَبَّاسٍ ; وَعَائِشَةَ ; وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمْ مَعَ مَا تَأَوَّلَهُ مِنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَمُبِيحُ الْأَشْرِبَةِ لَيْسَ مَعَهُ لَا نَصٌّ وَلَا قِيَاسٌ بَلْ قَوْلُهُ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ وَالْقِيَاسِ . وَأَيْضًا فَتَحْرِيمُ جِنْسِ الْخَمْرِ أَشَدُّ مِنْ تَحْرِيمِ اللُّحُومِ الْخَبِيثَةِ فَإِنَّهَا يَجِبُ اجْتِنَابُهَا مُطْلَقًا وَيَجِبُ عَلَى مَنْ شَرِبَهَا الْحَدُّ وَلَا يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهَا . وَأَيْضًا فَمَالِكٌ جَوَّزَ إتْلَافَ عَيْنِهَا اتِّبَاعًا لِمَا جَاءَ مِنْ السُّنَّةِ فِي ذَلِكَ وَمَنَعَ مِنْ تَخْلِيلِهَا وَهَذَا كُلُّهُ فِيهِ مِنْ اتِّبَاعِ السُّنَّةِ مَا لَيْسَ فِي قَوْلِ مَنْ خَالَفَهُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَلَمَّا كَانَ تَحْرِيمُ الشَّارِعِ لِلْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ أَشَدَّ مِنْ تَحْرِيمِهِ لِلْأَطْعِمَةِ : كَانَ الْقَوْلُ الَّذِي يَتَضَمَّنُ مُوَافَقَةَ الشَّارِعِ أَصَحَّ . وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ اسْتَحَلَّتْ الْغِنَاءَ حَتَّى صَارَ يُحْكَى ذَلِكَ عَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَقَدْ قَالَ عِيسَى بْنُ إسْحَاقَ الطَّبَّاعُ : سُئِلَ مَالِكٌ عَمًّا يَتَرَخَّصُ فِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ الْغِنَاءِ ؟ فَقَالَ : إنَّمَا يَفْعَلُهُ عِنْدَنَا الْفُسَّاقُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا أَخَفُّ مِمَّا اسْتَحَلَّهُ مَنْ اسْتَحَلَّ الْأَشْرِبَةَ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي تَحْرِيمِ الْغِنَاءِ مِنْ النُّصُوصِ الْمُسْتَفِيضَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فِي تَحْرِيمِ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ فَعُلِمَ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَتْبَعُ لِلسُّنَّةِ .