وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ " صِحَّةِ أُصُولِ مَذْهَبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ " وَمَنْزِلَةِ مَالِكٍ الْمَنْسُوبِ إلَيْهِ مَذْهَبُهُمْ فِي الْإِمَامَةِ وَالدِّيَانَةِ ; وَضَبْطِهِ عُلُومَ الشَّرِيعَةِ عِنْدَ أَئِمَّةِ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ وَأَهْلِ الثِّقَةِ وَالْخِبْرَةِ مِنْ سَائِرِ الْأَعْصَارِ ؟
وَمِنْ ذَلِكَ " صِفَاتُ الْعِبَادَاتِ " فَإِنَّ مَالِكًا وَأَهْلَ الْمَدِينَةِ لَا يُجَوِّزُونَ تَغْيِيرَ صِفَةِ الْعِبَادَةِ الْمَشْرُوعَةِ فَلَا يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِغَيْرِ التَّكْبِيرِ الْمَشْرُوعِ ; وَهُوَ قَوْلُ : اللَّهُ أَكْبَرُ كَمَا أَنَّ هَذَا التَّكْبِيرَ هُوَ الْمَشْرُوعُ فِي الْأَذَانِ وَالْأَعْيَادِ وَلَا يُجَوِّزُونَ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ وَلَا يُجَوِّزُونَ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ الْمَقْصُودِ الْمَنْصُوصِ فِي الزَّكَاةِ إلَى مَا يَخْتَارُ الْمَالِكُ مِنْ الْأَمْوَالِ بِالْقِيمَةِ . وَهُمْ فِي مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ أَتْبَعُ لِلسُّنَّةِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ حَيْثُ يَسْتَحِبُّونَ تَقْدِيمَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ وَيَجْعَلُونَ وَقْتَ الْعَصْرِ إذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ وَهُوَ آخِرُ وَقْتِ الظُّهْرِ وَيَجْعَلُونَ وَقْتَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَصَلَاةِ الْمَغْرِبِ مُشْتَرِكًا لِلْمَعْذُورِ كَالْحَائِضِ إذَا طَهُرَتْ وَالْمَجْنُونِ إذَا أَفَاقَ وَيُجَوِّزُونَ الْجَمْعَ لِلْمُسَافِرِ الَّذِي جَدَّ بِهِ السَّيْرُ ; وَالْمَرِيضِ ; وَفِي الْمَطَرِ . وَهُمْ فِي صَلَاةِ السَّفَرِ مُعْتَدِلُونَ ; فَإِنَّ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَجْعَلُ الْإِتْمَامَ أَفْضَلَ مِنْ الْقَصْرِ أَوْ يَجْعَلُ الْقَصْرَ أَفْضَلَ لَكِنْ لَا يَكْرَهُ الْإِتْمَامَ بَلْ يَرَى أَنَّهُ الْأَظْهَرُ وَأَنَّهُ لَا يَقْصُرُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْقَصْرَ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ الْإِتْمَامَ غَيْرَ جَائِزٍ وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ السُّنَّةَ هِيَ الْقَصْرُ وَإِذَا رَبَّعَ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ وَيَجْعَلُونَ الْقَصْرَ سُنَّةً رَاتِبَةً وَالْجَمْعَ رُخْصَةً عَارِضَةً . وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَشْبَهُ الْأَقْوَالِ بِالسُّنَّةِ . وَكَذَلِكَ فِي " السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ " يَجْعَلُونَ الْوِتْرَ رَكْعَةً وَاحِدَةً وَإِنْ كَانَ قَبْلَهَا شَفْعٌ . وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ : لَا وِتْرَ إلَّا كَالْمَغْرِبِ . مَعَ أَنَّ تَجْوِيزَ كِلَيْهِمَا أَصَحُّ ; لَكِنَّ الْفَصْلَ أَفْضَلُ مِنْ الْوَصْلِ . فَقَوْلُهُمْ أَرْجَحُ مِنْ قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ مُطْلَقًا وَلَا يَرَوْنَ لِلْجُمُعَةِ قَبْلَهَا سُنَّةً رَاتِبَةً خِلَافًا لِمَنْ خَالَفَهُمْ مِنْ الْكُوفِيِّينَ . وَمَالِكٌ لَا يُوَقِّتُ مَعَ الْفَرَائِضِ شَيْئًا وَبَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ وَقَّتَ أَشْيَاءَ بِأَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ فَقَوْلُ مَالِكٍ أَقْرَبُ إلَى السُّنَّةِ . وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يَرَوْنَ الْجَمْعَ وَالْقَصْرَ لِلْحَاجِّ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَالْقَصْرَ بِمِنَى سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَوْ غَيْرِهِمْ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي مَضَتْ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَا رَيْبٍ وَهَذَا الْقَوْلُ أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَصْرُ إلَّا لِمَنْ كَانَ مِنْهُمْ عَلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ فَقَوْلُهُ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ وَأَضْعَفُ مِنْهُ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ إلَّا لِمَنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ ; وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ لِلْجَمْعِ أَسْبَابًا غَيْرَ السَّفَرِ الطَّوِيلِ ; وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : إنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ كَمَا يَجُوزُ فِي الطَّوِيلِ أَقْوَى مِنْ قَوْلِ مَنْ لَا يُجَوِّزْهُ إلَّا فِي الطَّوِيلِ لَا فِي الْقَصِيرِ . وَظَنَّ مَنْ قَالَ هَذِهِ الْأَقْوَالَ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِمِنَى ثُمَّ قَالَ : يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفَرٌ } وَهَذَا بَاطِلٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَإِنَّمَا الَّذِي فِي السُّنَنِ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ لَمَّا صَلَّى فِي مَكَّةَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ وَكَذَلِكَ قَدْ نَقَلُوا هَذَا عَنْ عُمَرَ . وَيُرْوَى أَنَّ الرَّشِيدَ لَمَّا حَجَّ أَمَرَ أَبَا يُوسُفَ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ : يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفَرٌ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْمَكِّيِّينَ : أَتَقُولُ لَنَا هَذَا وَمِنْ عِنْدَنَا خَرَجَتْ السُّنَّةُ ؟ وَقَالَ : هَذَا مِنْ فِقْهِك تَكَلَّمَ وَأَنْتَ فِي الصَّلَاةِ . وَهَذَا الْمَكِّيُّ وَافَقَ أَبَا يُوسُفَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُمْ لَا يَقْصُرُونَ لَكِنْ مِنْ قِلَّةِ فِقْهِهِ تَكَلَّمَ وَتَكَلُّمُ النَّاسِي وَالْجَاهِلِ بِتَحْرِيمِ الْكَلَامِ لَا يُبْطِلُ صَلَاتَهُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَيُبْطِلُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ . وَلَوْ كَانَ الْمَكِّيُّ عَالِمًا بِالسُّنَّةِ لَقَالَ : لَيْسَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ بَلْ قَدْ صَلَّى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنَى رَكْعَتَيْنِ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَكَذَلِكَ صَلَّوْا بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ رَكْعَتَيْنِ وَلَمْ يَأْمُرُوا مَنْ خَلْفَهُمْ مِنْ الْمَكِّيِّينَ بِإِتْمَامِ الصَّلَاةِ فِيهَا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ .