وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ " صِحَّةِ أُصُولِ مَذْهَبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ " وَمَنْزِلَةِ مَالِكٍ الْمَنْسُوبِ إلَيْهِ مَذْهَبُهُمْ فِي الْإِمَامَةِ وَالدِّيَانَةِ ; وَضَبْطِهِ عُلُومَ الشَّرِيعَةِ عِنْدَ أَئِمَّةِ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ وَأَهْلِ الثِّقَةِ وَالْخِبْرَةِ مِنْ سَائِرِ الْأَعْصَارِ ؟
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ هُوَ دُونَ الرَّسُولِ إذَا حَرَّمَ شَيْئًا لِمَا فِيهِ مِنْ الْفَسَادِ وَأَذِنَ أَنْ يُفْعَلَ بِطَرِيقِ لَا فَائِدَةَ فِيهِ لَكَانَ هَذَا عَيْبًا وَسَفَهًا ; فَإِنَّ الْفَسَادَ بَاقٍ وَلَكِنْ زَادَهُمْ غِشًّا وَإِنْ كَانَ فِيهِ كُلْفَةٌ فَقَدْ كَلَّفَهُمْ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ فَكَيْفَ يُظَنُّ هَذَا بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ بَلْ مَعْلُومٌ أَنَّ الْمُلُوكَ لَوْ نَهَوْا عَمَّا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحْتَالَ الْمَنْهِيُّ عَلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ بِمِثْلِ هَذِهِ الطَّرِيقِ لَعَدُّوهُ لَاعِبًا مُسْتَهْزِئًا بِأَوَامِرِهِمْ وَقَدْ عَذَّبَ اللَّهُ أَهْلَ الْجَنَّةِ الَّذِينَ احْتَالُوا عَلَى أَلَّا يَتَصَدَّقُوا وَعَذَّبَ اللَّهُ الْقَرْيَةَ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ لَمَّا اسْتَحَلُّوا الْمُحَرَّمَ بِالْحِيلَةِ بِأَنْ مَسَخَهُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ وَعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَرْكَبُوا مَا ارْتَكَبَتْ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ بِأَدْنَى الْحِيَلِ } . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى " قَاعِدَةِ إبْطَالِ الْحِيَلِ وَسَدِّ الذَّرَائِعِ " فِي كِتَابٍ كَبِيرٍ مُفْرَدٍ وَقَرَّرْنَا فِيهِ مَذْهَبَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ . وَكَذَلِكَ رِبَا النسأ فَإِنَّ أَهْلَ ثَقِيفٍ الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ الْقُرْآنُ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَأْتِي إلَى الْغَرِيمِ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ فَيَقُولُ : أَتَقْضِي أَمْ تُرْبِي ؟ فَإِنْ لَمْ يَقْضِهِ وَإِلَّا زَادَهُ الْمَدِينُ فِي الْمَاءِ وَزَادَهُ الطَّالِبُ فِي الْأَجَلِ فَيُضَاعِفُ الْمَالَ فِي الْمُدَّةِ لِأَجْلِ التَّأْخِيرِ . وَهَذَا هُوَ الرِّبَا الَّذِي لَا يُشَكُّ فِيهِ بِاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَفِيهِ نَزَلَ الْقُرْآنُ وَالظُّلْمُ وَالضَّرَرُ فِيهِ ظَاهِرٌ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَحَلَّ الْبَيْعَ وَأَحَلَّ التِّجَارَةَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَالْمُبْتَاعُ يَبْتَاعُ مَا يَسْتَنْفِعُ بِهِ كَطَعَامِ وَلِبَاسٍ وَمَسْكَنٍ وَمَرْكَبٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَالتَّاجِرُ يَشْتَرِي مَا يُرِيدُ أَنْ يَبِيعَهُ لِيَرْبَحَ فِيهِ وَأَمَّا آخِذُ الرِّبَا فَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ أَنْ يَأْخُذَ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ إلَى أَجَلٍ فَيَلْزَمُ الْآخَرُ أَكْثَرَ مِمَّا أَخَذَ بِلَا فَائِدَةٍ حَصَلَتْ لَهُ لَمْ يَبِعْ وَلَمْ يَتَّجِرْ وَالْمُرْبِي آكِلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ بِظُلْمِهِ وَلَمْ يَنْفَعْ النَّاسَ لَا بِتِجَارَةِ وَلَا غَيْرِهَا ; بَلْ يُنْفِقُ دَرَاهِمَهُ بِزِيَادَةِ بِلَا مَنْفَعَةٍ حَصَلَتْ لَهُ وَلَا لِلنَّاسِ . فَإِذَا كَانَ هَذَا مَقْصُودَهُمَا فَبِأَيِّ شَيْءٍ تَوَصَّلُوا إلَيْهِ حَصَلَ الْفَسَادُ وَالظُّلْمُ مِثْلَ أَنْ تَوَاطَآ عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ ثُمَّ يَبْتَاعَهُ فَهَذِهِ بَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ فَلَهُ أَوْكَسُهُمَا أَوْ الرِّبَا } مِثْلَ أَنْ يُدْخِلَ بَيْنَهُمَا مُحَلِّلًا يَبْتَاعُ مِنْهُ أَحَدُهُمَا مَا لَا غَرَضَ لَهُ فِيهِ لِيَبِيعَهُ آكِلُ الرِّبَا لِمُوكِلِهِ فِي الرِّبَا ثُمَّ الْمُوكِلُ يَرُدُّهُ إلَى الْمُحَلِّلِ بِمَا نَقَصَ مِنْ الثَّمَنِ . وَقَدْ ثَبَتَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَهُ وَكَاتِبَهُ } { وَلَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } . وَمِثْلَ أَنْ يَضُمَّا إلَى الرِّبَا نَوْعَ قَرْضٍ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ وَلَا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنُ وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَك . } ثُمَّ { إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ } وَهُوَ : اشْتِرَاءُ الثَّمَرِ وَالْحَبِّ بِخَرْصِ وَكَمَا نَهَى عَنْ بَيْعِ الصُّبْرَةِ مِنْ الطَّعَامِ لَا يُعْلَمُ كَيْلُهَا بِالطَّعَامِ الْمُسَمَّى ; لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالتَّسَاوِي فِيمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّسَاوِي كَالْعِلْمِ بِالتَّفَاضُلِ وَالْخَرْصُ لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُ المكال إنَّمَا هُوَ حَزْرٌ وَحَدْسٌ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ . ثُمَّ إنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ أَرْخَصَ فِي الْعَرَايَا يَبْتَاعُهَا أَهْلُهَا بِخَرْصِهَا تَمْرًا فَيَجُوزُ ابْتِيَاعُ الرِّبَوِيِّ هُنَا بِخَرْصِهِ وَأَقَامَ الْخَرْصَ عِنْدَ الْحَاجَةِ مَقَامَ الْكَيْلِ وَهَذَا مِنْ تَمَامِ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ كَمَا أَنَّهُ فِي الْعِلْمِ بِالزَّكَاةِ وَفِي الْمُقَاسَمَةِ أَقَامَ الْخَرْصَ مَقَامَ الْكَيْلِ فَكَانَ يَخْرُصُ الثِّمَارَ عَلَى أَهْلِهَا يُحْصِي الزَّكَاةَ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يُقَاسِمُ أَهْلَ خَيْبَرَ خَرْصًا بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إذَا أَمْكَنَ التَّقْدِيرُ بِالْكَيْلِ فُعِلَ فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ كَانَ الْخَرْصُ قَائِمًا مَقَامَهُ لِلْحَاجَةِ كَسَائِرِ الْأَبْدَالِ فِي الْمَعْلُومِ وَالْعَلَامَةِ ; فَإِنَّ الْقِيَاسَ يَقُومُ مَقَامَ النَّصِّ عِنْدَ عَدَمِهِ وَالتَّقْوِيمَ يَقُومُ مَقَامَ الْمِثْلِ وَعَدَمِ الثَّمَنِ الْمُسَمَّى عِنْدَ تَعَذُّرِ الْمِثْلِ وَالثَّمَنِ الْمُسَمَّى . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الْقَافَةُ الَّتِي هِيَ اسْتِدْلَالٌ بِالشَّبَهِ عَلَى النَّسَبِ إذَا تَعَذَّرَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْقَرَائِنِ ; إذْ الْوَلَدُ يُشْبِهُ وَالِدَهُ فِي الْخَرْصِ وَالْقَافَةُ وَالتَّقْوِيمُ أَبْدَالٌ فِي الْعِلْمِ كَالْقِيَاسِ مَعَ النَّصِّ وَكَذَلِكَ الْعَدْلُ فِي الْعَمَلِ ; فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ مَبْنَاهَا عَلَى الْعَدْلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } .