تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ " صِحَّةِ أُصُولِ مَذْهَبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ " وَمَنْزِلَةِ مَالِكٍ الْمَنْسُوبِ إلَيْهِ مَذْهَبُهُمْ فِي الْإِمَامَةِ وَالدِّيَانَةِ ; وَضَبْطِهِ عُلُومَ الشَّرِيعَةِ عِنْدَ أَئِمَّةِ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ وَأَهْلِ الثِّقَةِ وَالْخِبْرَةِ مِنْ سَائِرِ الْأَعْصَارِ ؟
1234567891011121314151617181920212223242526272829303132333435
فَصْلٌ وَلَمَّا كَانَ الْمُحَرَّمُ نَوْعَيْنِ : نَوْعٌ لِعَيْنِهِ وَنَوْعٌ لِكَسْبِهِ ; فَالْكَسْبُ الَّذِي هُوَ مُعَامَلَةُ النَّاسِ نَوْعَانِ : مُعَاوَضَةٌ ; وَمُشَارَكَةٌ . فَالْمُبَايَعَةُ وَالْمُؤَاجَرَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ هِيَ الْمُعَاوَضَةُ . وَأَمَّا الْمُشَارَكَةُ فَمِثْلُ مُشَارَكَةِ الْعَنَانِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمُشَارَكَاتِ . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ فِي الْمُشَارَكَاتِ مِنْ أَصَحِّ الْمَذَاهِبِ وَأَعْدَلِهَا ; فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ شَرِكَةَ الْعَنَانِ وَالْأَبْدَانِ وَغَيْرَهُمَا وَيُجَوِّزُ الْمُضَارَبَةَ وَالْمُزَارَعَةَ وَالْمُسَاقَاةَ . وَالشَّافِعِيُّ لَا يُجَوِّزُ مِنْ الشَّرِكَةِ إلَّا مَا كَانَ تَبَعًا لِشَرِكَةِ الْمِلْكِ ; فَإِنَّ الشَّرِكَةَ نَوْعَانِ : شَرِكَةٌ فِي الْأَمْلَاكِ ; وَشَرِكَةٌ فِي الْعُقُودِ . فَأَمَّا شَرِكَةُ الْأَمْلَاكِ كَاشْتِرَاكِ الْوَرَثَةِ فِي الْمِيرَاثِ فَهَذَا لَا يَحْتَاجُ إلَى عَقْدٍ وَلَكِنْ إذَا اشْتَرَكَ اثْنَانِ فِي عَقْدٍ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الشَّرِكَةَ لَا تَحْصُلُ بِعَقْدِ وَلَا تَحْصُلُ الْقِسْمَةُ بِعَقْدِ . وَأَحْمَد تَحْصُلُ الشَّرِكَةُ عِنْدَهُ بِالْعَقْدِ وَالْقِسْمَةُ بِالْعَقْدِ فَيُجَوِّزُ شَرِكَةَ الْعَنَانِ مَعَ اخْتِلَافِ الْمَالَيْنِ وَعَدَمِ الِاخْتِلَاطِ وَإِذَا تَحَاسَبَ الشَّرِيكَانِ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ إفْرَازٍ كَانَ ذَلِكَ قِسْمَةً حَتَّى لَوْ خَسِرَ الْمَالَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ تُجْبَرْ الْوَضِيعَةُ بِالرِّبْحِ . وَالشَّافِعِيُّ لَا يُجَوِّزُ شَرِكَةَ الْأَبْدَانِ وَلَا الْوُجُوهِ وَلَا الشَّرِكَةَ بِدُونِ خَلْطِ الْمَالَيْنِ وَلَا أَنْ يَشْتَرِطَ لِأَحَدِهِمَا رِبْحًا زَائِدًا عَلَى نَصِيبِ الْآخَرِ مِنْ مَالِهِ إذْ لَا تَأْثِيرَ عِنْدَهُ لِلْعَقْدِ وَجَوَّزَ الْمُضَارَبَةَ وَبَعْضَ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةَ تَبَعًا لِأَجْلِ الْحَاجَةِ لَا لِوَفْقِ الْقِيَاسِ . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ نَفْسُهُ فَلَا يُجَوِّزُ مُسَاقَاةً وَلَا مُزَارَعَةً ; لِأَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْمُؤَاجَرَةِ وَالْمُؤَاجَرَةُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ بِالْأُجْرَةِ . وَمَالِكٌ فِي هَذَا الْبَابِ أَوْسَعُ مِنْهُمَا حَيْثُ جَوَّزَ الْمُسَاقَاةَ عَلَى جَمِيعِ الثِّمَارِ مَعَ تَجْوِيزِ الْأَنْوَاعِ مِنْ الْمُشَارَكَاتِ الَّتِي هِيَ شَرِكَةُ الْعَنَانِ وَالْأَبْدَانِ لَكِنَّهُ لَمْ يُجَوِّزْ الْمُزَارَعَةَ عَلَى الْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ مُوَافَقَةً لِلْكُوفِيِّينَ . وَأَمَّا قُدَمَاءُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ هُمْ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَكَانُوا يُجَوِّزُونَ هَذَا كُلَّهُ وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ ; وَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَبِي يُوسُفَ ; وَمُحَمَّدٍ ; وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ . وَالشُّبْهَةُ الَّتِي مَنَعَتْ أُولَئِكَ الْمُعَامَلَةَ : أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ إجَارَةٌ وَالْإِجَارَةُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ بِقَدْرِ الْأُجْرَةِ ثُمَّ اسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ الْمُضَارَبَةَ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ ; إذْ الدَّرَاهِمُ لَا تُؤَجَّرُ . وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ مِنْ نَفْسِ الْمُشَارَكَاتِ لَا مِنْ جِنْسِ الْمُعَاوَضَاتِ ; فَإِنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَقْصِدُ اسْتِيفَاءَ الْعَمَلِ كَمَا يَقْصِدُ اسْتِيفَاءَ عَمَلِ الْخَيَّاطِ وَالْخَبَّازِ وَالطَّبَّاخِ وَنَحْوِهِمْ وَأَمَّا فِي هَذَا الْبَابِ فَلَيْسَ الْعَمَلُ هُوَ الْمَقْصُودَ بَلْ هَذَا يَبْذُلُ نَفْعَ بَدَنِهِ وَهَذَا يَبْذُلُ نَفْعَ مَالِهِ لِيَشْتَرِكَا فِيمَا رَزَقَ اللَّهُ مِنْ رِبْحٍ فَإِمَّا يَغْنَمَانِ جَمِيعًا أَوْ يَغْرَمَانِ جَمِيعًا وَعَلَى هَذَا { عَامَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ خَيْبَرَ أَنْ يَعْمُرُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ وَزَرْعٍ } . وَاَلَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كِرَاءِ الْمُزَارَعَةِ فِي حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَغَيْرِهِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرَهُ اللَّيْثُ وَغَيْرُهُ ; فَإِنَّهُ { نَهَى أَنْ يُكْرَى بِمَا تُنْبِتُ الماذيانات وَالْجَدَاوِلُ وَشَيْءٌ مِنْ التِّبْنِ } فَرُبَّمَا غَلَّ هَذَا وَلَمْ يَغُلَّ هَذَا فَنَهَى أَنْ يُعَيِّنَ الْمَالِكُ زَرْعَ بُقْعَةٍ بِعَيْنِهَا كَمَا نَهَى فِي الْمُضَارَبَةِ أَنْ يُعَيِّنَ الْعَامِلُ مِقْدَارًا مِنْ الرِّبْحِ وَرِبْحَ ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ الْعَدْلَ فِي الْمُشَارَكَةِ . وَأَصْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي هَذَا الْبَابِ أَصَحُّ مِنْ أَصْلِ غَيْرِهِمْ الَّذِي يُوجِبُ أُجْرَةَ الْمِثْلِ وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ ; فَإِنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَمَلٍ وَلِهَذَا لَمْ يُشْتَرَطْ الْعِلْمُ بِالْعَمَلِ وَقَدْ تَكُونُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ أَكْثَرَ مِنْ الْمَالِ وَرِبْحِهِ : فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ فِي الْفَاسِدِ نَظِيرَ مَا يَسْتَحِقُّ مِنْ الصَّحِيحِ فَإِذَا كَانَ الْوَاجِبُ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ ثَمَنًا وَأُجْرَةً وَجَبَ فِي الْفَاسِدِ قِسْطٌ مِنْ الرِّبْحِ كَانَ الْوَاجِبُ فِي الْفَاسِدِ قِسْطًا مِنْ الرِّبْحِ وَكَذَلِكَ فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَغَيْرِهِمَا . وَمَا يَضْعُفُ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ قَوْلِ مُتَأَخِّرِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَقَوْلُ الْكُوفِيِّينَ فِيهِ أَضْعَفُ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا كُلُّهُ مِنْ الرَّأْيِ الْمُحْدَثِ الَّذِي عَلِمَ بِهِ مَنْ عَابَهُ مِنْ السَّلَفِ وَأَمَّا مَا مَضَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَالْعَمَلُ فَهُوَ الْعَدْلُ . وَمَنْ تَدَبَّرَ الْأُصُولَ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ وَالْمُضَارَبَةَ أَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ مِنْ الْمُؤَاجَرَةِ ; فَإِنَّ الْمُؤَاجَرَةَ مُخَاطَرَةٌ وَالْمُسْتَأْجِرَ قَدْ يَنْتَفِعُ وَقَدْ لَا يَنْتَفِعُ بِخِلَافِ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ فَإِنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي الْغُنْمِ وَالْغُرْمِ فَلَيْسَ فِيهَا مِنْ الْمُخَاطَرَةِ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ مَا فِي الْمُؤَاجَرَةِ .