تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ " صِحَّةِ أُصُولِ مَذْهَبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ " وَمَنْزِلَةِ مَالِكٍ الْمَنْسُوبِ إلَيْهِ مَذْهَبُهُمْ فِي الْإِمَامَةِ وَالدِّيَانَةِ ; وَضَبْطِهِ عُلُومَ الشَّرِيعَةِ عِنْدَ أَئِمَّةِ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ وَأَهْلِ الثِّقَةِ وَالْخِبْرَةِ مِنْ سَائِرِ الْأَعْصَارِ ؟
1234567891011121314151617181920212223242526272829303132333435
وَالْكَلَامُ فِي إجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي تِلْكَ الْأَعْصَارِ . وَالتَّحْقِيقُ فِي " مَسْأَلَةِ إجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ " أَنَّ مِنْهُ مَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ; وَمِنْهُ مَا هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ; وَمِنْهُ مَا لَا يَقُولُ بِهِ إلَّا بَعْضُهُمْ . وَذَلِكَ أَنَّ إجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى أَرْبَعِ مَرَاتِبَ . الْأُولَى مَا يَجْرِي مَجْرَى النَّقْلِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . مِثْلُ نَقْلِهِمْ لِمِقْدَارِ الصَّاعِ وَالْمُدِّ ; وَكَتَرْكِ صَدَقَةِ الْخَضْرَاوَاتِ وَالْأَحْبَاسِ فَهَذَا مِمَّا هُوَ حُجَّةٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . أَمَّا الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَأَصْحَابُهُمَا فَهَذَا حُجَّةٌ عِنْدَهُمْ بِلَا نِزَاعٍ كَمَا هُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ مَالِكٍ . وَذَلِكَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ . قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ أَجَلُّ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَوَّلُ مَنْ لُقِّبَ قَاضِي الْقُضَاةِ - لَمَّا اجْتَمَعَ بِمَالِكِ وَسَأَلَهُ عَنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَأَجَابَهُ مَالِكٌ بِنَقْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْمُتَوَاتِرِ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ إلَى قَوْلِهِ وَقَالَ : لَوْ رَأَى صَاحِبِي مِثْلَ مَا رَأَيْت لَرَجَعَ مِثْلَ مَا رَجَعْت . فَقَدْ نَقَلَ أَبُو يُوسُفَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا النَّقْلِ حُجَّةٌ عِنْدَ صَاحِبِهِ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا هُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ غَيْرِهِ لَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يَبْلُغْهُ هَذَا النَّقْلُ كَمَا لَمْ يَبْلُغْهُ وَلَمْ يَبْلُغْ غَيْرَهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ كَثِيرٌ مِنْ الْحَدِيثِ فَلَا لَوْمَ عَلَيْهِمْ فِي تَرْكِ مَا لَمْ يَبْلُغْهُمْ عِلْمُهُ . وَكَانَ رُجُوعُ أَبِي يُوسُفَ إلَى هَذَا النَّقْلِ كَرُجُوعِهِ إلَى أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ اتَّبَعَهَا هُوَ وَصَاحِبُهُ مُحَمَّدٌ وَتَرَكَا قَوْلَ شَيْخِهِمَا ; لِعِلْمِهِمَا بِأَنَّ شَيْخَهُمَا كَانَ يَقُولُ : إنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ أَيْضًا حُجَّةٌ إنْ صَحَّتْ لَكِنْ لَمْ تَبْلُغْهُ . وَمَنْ ظَنَّ بِأَبِي حَنِيفَةَ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ يَتَعَمَّدُونَ مُخَالَفَةَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِقِيَاسِ أَوْ غَيْرِهِ فَقَدْ أَخْطَأَ عَلَيْهِمْ وَتَكَلَّمَ إمَّا بِظَنِّ وَإِمَّا بِهَوَى فَهَذَا أَبُو حَنِيفَةَ يَعْمَلُ بِحَدِيثِ التوضي بِالنَّبِيذِ فِي السَّفَرِ مُخَالَفَةً لِلْقِيَاسِ وَبِحَدِيثِ الْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلْقِيَاسِ ; لِاعْتِقَادِهِ صِحَّتَهُمَا وَإِنْ كَانَ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ لَمْ يُصَحِّحُوهُمَا . وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي رِسَالَةِ " رَفْعِ الْمَلَامِ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ " وَبَيَّنَّا أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ لَا يُخَالِفُ حَدِيثًا صَحِيحًا بِغَيْرِ عُذْرٍ بَلْ لَهُمْ نَحْوٌ مِنْ عِشْرِينَ عُذْرًا مِثْلَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمْ لَمْ يَبْلُغْهُ الْحَدِيثُ ; أَوْ بَلَغَهُ مِنْ وَجْهٍ لَمْ يَثِقْ بِهِ أَوْ لَمْ يَعْتَقِدْ دَلَالَتَهُ عَلَى الْحُكْمِ ; أَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ الدَّلِيلَ قَدْ عَارَضَهُ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ كَالنَّاسِخِ ; أَوْ مَا يَدُلُّ عَلَى النَّاسِخِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . وَالْأَعْذَارُ يَكُونُ الْعَالِمُ فِي بَعْضِهَا مُصِيبًا فَيَكُونُ لَهُ أَجْرَانِ وَيَكُونُ فِي بَعْضِهَا مُخْطِئًا بَعْدَ اجْتِهَادِهِ فَيُثَابُ عَلَى اجْتِهَادِهِ وَخَطَؤُهُ مَغْفُورٌ لَهُ ; : لِقَوْلِهِ تَعَالَى { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ هَذَا الدُّعَاءَ وَقَالَ : قَدْ فَعَلْت } وَلِأَنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ عَنْ داود وَسُلَيْمَانَ أَنَّهُمَا حَكَمَا فِي قَضِيَّةٍ وَأَنَّهُ فَهَّمَهَا أَحَدَهُمَا ; وَلَمْ يَعِبْ الْآخَرَ ; بَلْ أَثْنَى عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَنَّهُ آتَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا فَقَالَ : { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } . وَهَذِهِ الْحُكُومَةُ تَتَضَمَّنُ مَسْأَلَتَيْنِ تَنَازَعَ فِيهِمَا الْعُلَمَاءُ : مَسْأَلَةُ نَفْشِ الدَّوَابِّ فِي الْحَرْثِ بِاللَّيْلِ وَهُوَ مَضْمُونٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ ; كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَأَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يَجْعَلْهُ مَضْمُونًا . وَالثَّانِي ضَمَانٌ بِالْمِثْلِ وَالْقِيمَةِ وَفِي ذَلِكَ نِزَاعٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا . وَالْمَأْثُورُ عَنْ أَكْثَرِ السَّلَفِ فِي نَحْوِ ذَلِكَ يَقْتَضِي الضَّمَانَ بِالْمِثْلِ إذَا أَمْكَنَ كَمَا قَضَى بِهِ سُلَيْمَانُ وَكَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ لَا يَضْمَنُونَ ذَلِكَ إلَّا بِالْقِيمَةِ كَالْمَعْرُوفِ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ عَمَلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الَّذِي يَجْرِي مَجْرَى النَّقْلِ حُجَّةٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَالَ مَالِكٌ لِأَبِي يُوسُفَ - لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ الصَّاعِ وَالْمُدِّ وَأَمَرَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِإِحْضَارِ صِيعَانِهِمْ وَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ إسْنَادَهَا عَنْ أَسْلَافِهِمْ - أَتَرَى هَؤُلَاءِ يَا أَبَا يُوسُفَ يَكْذِبُونَ ؟ قَالَ : لَا وَاَللَّهِ مَا يَكْذِبُونَ فَأَنَا حَرَّرْت هَذِهِ الصِّيعَانَ فَوَجَدْتهَا خَمْسَةَ أَرْطَالٍ وَثُلُثٍ بِأَرْطَالِكُمْ يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ . فَقَالَ : رَجَعْت إلَى قَوْلِك يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَلَوْ رَأَى صَاحِبِي مَا رَأَيْت لَرَجَعَ كَمَا رَجَعْت . وَسَأَلَهُ عَنْ صَدَقَةِ الْخَضْرَاوَاتِ فَقَالَ : هَذِهِ مباقيل أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهَا صَدَقَةٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَبِي بَكْرٍ وَلَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَعْنِي : وَهِيَ تَنْبُتُ فِيهَا الْخَضْرَاوَاتُ . وَسَأَلَهُ عَنْ الْإِحْبَاسِ فَقَالَ : هَذَا حَبْسُ فُلَانٍ وَهَذَا حَبْسُ فُلَانٍ يُذْكَرُ لِبَيَانِ الصَّحَابَةِ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا : قَدْ رَجَعْت يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَلَوْ رَأَى صَاحِبِي مَا رَأَيْت لَرَجَعَ كَمَا رَجَعْت . وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَافَقَا بَقِيَّةَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَفِي أَنَّهُ لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ كَمَذْهَبِ هَؤُلَاءِ وَأَنَّ الْوَقْفَ عِنْدَهُ لَازِمٌ كَمَذْهَبِ هَؤُلَاءِ . وَإِنَّمَا قَالَ مَالِكٌ : أَرْطَالُكُمْ يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ ; لِأَنَّهُ لَمَّا انْقَرَضَتْ الدَّوْلَةُ الْأُمَوِيَّةُ وَجَاءَتْ دَوْلَةُ وَلَدِ الْعَبَّاسِ قَرِيبًا ; فَقَامَ أَخُوهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْمُلَقَّبُ بِالْمَنْصُورِ فَبَنَى بَغْدَادَ فَجَعَلَهَا دَارَ مُلْكِهِ وَكَانَ أَبُو جَعْفَرٍ يَعْلَمُ أَنَّ أَهْلَ الْحِجَازِ حِينَئِذٍ كَانُوا أَعْنَى بِدِينِ الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَيُرْوَى أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ لِمَالِكِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ قَالَ : نَظَرْت فِي هَذَا الْأَمْرِ فَوَجَدْت أَهْلَ الْعِرَاقِ أَهْلَ كَذِبٍ وَتَدْلِيسٍ ; - أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ - وَوَجَدْت أَهْلَ الشَّامِ إنَّمَا هُمْ أَهْلُ غَزْوٍ وَجِهَادٍ وَوَجَدْت هَذَا الْأَمْرَ فِيكُمْ . وَيُقَالُ : إنَّهُ قَالَ لِمَالِكِ : أَنْتَ أَعْلَمُ أَهْلِ الْحِجَازِ ; أَوْ كَمَا قَالَ . فَطَلَبَ أَبُو جَعْفَرٍ عُلَمَاءَ الْحِجَازِ أَنْ يَذْهَبُوا إلَى الْعِرَاقِ وَيَنْشُرُوا الْعِلْمَ فِيهِ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ ; وَمُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ ; وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ ; وَرَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ ; وَحَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ الجمحي ; وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ الماجشون وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ . وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ يَخْتَلِفُ فِي مَجَالِسِ هَؤُلَاءِ وَيَتَعَلَّمُ مِنْهُمْ الْحَدِيثَ وَأَكْثَرُ عَمَّنْ قَدِمَ مِنْ الْحِجَازِ ; وَلِهَذَا يُقَالُ فِي أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ : أَبُو يُوسُفَ أَعْلَمُهُمْ بِالْحَدِيثِ ; وَزُفَرُ أطردهم لِلْقِيَاسِ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ اللؤلؤي أَكْثَرُهُمْ تَفْرِيعًا وَمُحَمَّدٌ أَعْلَمُهُمْ بِالْعَرَبِيَّةِ وَالْحِسَابِ ; وَرُبَّمَا قِيلَ أَكْثَرُهُمْ تَفْرِيعًا فَلَمَّا صَارَتْ الْعِرَاقُ دَارَ الْمُلْكِ وَاحْتَاجَ النَّاسُ إلَى تَعْرِيفِ أَهْلِهَا بِالسُّنَّةِ وَالشَّرِيعَةِ غُيِّرَ الْمِكْيَالُ الشَّرْعِيُّ بِرِطْلِ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَكَانَ رِطْلُهُمْ بِالْحِنْطَةِ الثَّقِيلَةِ وَالْعَدَسِ إذْ ذَاكَ تِسْعِينَ مِثْقَالًا : مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةَ أَسْبَاعِ الدِّرْهَمِ . فَهَذَا هُوَ الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى لِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ حُجَّةٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ .