تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ " صِحَّةِ أُصُولِ مَذْهَبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ " وَمَنْزِلَةِ مَالِكٍ الْمَنْسُوبِ إلَيْهِ مَذْهَبُهُمْ فِي الْإِمَامَةِ وَالدِّيَانَةِ ; وَضَبْطِهِ عُلُومَ الشَّرِيعَةِ عِنْدَ أَئِمَّةِ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ وَأَهْلِ الثِّقَةِ وَالْخِبْرَةِ مِنْ سَائِرِ الْأَعْصَارِ ؟
1234567891011121314151617181920212223242526272829303132333435
وَمِنْ ذَلِكَ فِي الطَّهَارَةِ أَنَّ مَالِكًا رَأَى الْوُضُوءَ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ وَلَمْسِ النِّسَاءِ لِشَهْوَةِ دُونَ الْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ وَلَمْسِ النِّسَاءِ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ وَدُونَ الْخَارِجِ النَّادِرِ مِنْ السَّبِيلَيْنِ وَالْخَارِجِ النَّجِسِ مِنْ غَيْرِهِمَا . وَأَبُو حَنِيفَةَ رَآهَا مِنْ الْقَهْقَهَةِ وَالْخَارِجِ النَّجِسِ مِنْ السَّبِيلَيْنِ مُطْلَقًا وَلَا يَرَاهَا مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَادِيثَ نَقْضِ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ أَثْبَتُ وَأَعْرَفُ مِنْ أَحَادِيثِ الْقَهْقَهَةِ ; فَإِنَّهُ لَمْ يَرْوِ أَحَدٌ مِنْهَا فِي السُّنَنِ شَيْئًا وَهِيَ مَرَاسِيلُ ضَعِيفَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ ; وَلِهَذَا لَمْ يَذْهَبْ إلَى وُجُوبِ الْوُضُوءِ مِنْ الْقَهْقَهَةِ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ ; لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهَا شَيْءٌ . وَالْوُضُوءُ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ فِيهِ طَرِيقَانِ : مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ تَعَبُّدًا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ فَلَا يَكُونُ بَعِيدًا عَنْ الْأُصُولِ كَالْوُضُوءِ مِنْ الْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَجْعَلُهُ تَعَبُّدًا ; فَهُوَ حِينَئِذٍ أَظْهَرُ وَأَقْوَى . وَأَمَّا لَمْسُ النِّسَاءِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ مَشْهُورَةٍ : قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ : لَا وُضُوءَ مِنْهُ بِحَالِ وَقَوْلُ مَالِكٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ - وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَد - : أَنَّهُ إنْ كَانَ بِشَهْوَةِ نَقَضَ الْوُضُوءَ وَإِلَّا فَلَا وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ بِكُلِّ حَالٍ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْلَ مَالِكٍ هُمَا الْقَوْلَانِ الْمَشْهُورَانِ فِي السَّلَفِ وَأَمَّا إيجَابُ الْوُضُوءِ مِنْ لَمْسِ النِّسَاءِ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ فَقَوْلٌ شَاذٌّ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ وَلَا فِي أَثَرٍ عَنْ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَلَا هُوَ مُوَافِقٌ لِأَصْلِ الشَّرِيعَةِ ; فَإِنَّ اللَّمْسَ الْعَارِيَ عَنْ شَهْوَةٍ لَا يُؤَثِّرُ لَا فِي الْإِحْرَامِ وَلَا فِي الِاعْتِكَافِ كَمَا يُؤَثِّرُ فِيهِمَا اللَّمْسُ مَعَ الشَّهْوَةِ وَلَا يُكْرَهُ لِصَائِمِ وَلَا يُوجِبُ مُصَاهَرَةً وَلَا يُؤَثِّرُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَحْكَامِ فَمَنْ جَعَلَهُ مُفْسِدًا لِلطَّهَارَةِ فَقَدْ خَالَفَ الْأُصُولَ وقَوْله تَعَالَى { أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ } إنْ أُرِيدَ بِهِ الْجِمَاعُ فَقَطْ كَمَا قَالَهُ عُمَرُ وَغَيْرُهُ فَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ أَوْ لَامَسْتُمْ فِي الْوُضُوءِ كَقَوْلِهِ فِي الِاعْتِكَافِ : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } وَالْمُبَاشَرَةُ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ لَا تُؤَثِّرُ هُنَاكَ ; فَكَذَلِكَ هُنَا . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ } . هَذَا مَعَ أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ مَا زَالَ الرِّجَالُ يَمَسُّونَ النِّسَاءَ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ فَلَوْ كَانَ الْوُضُوءُ مِنْ ذَلِكَ وَاجِبًا لَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ وَلَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُنْقَلُ وَيُؤْثَرُ . وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ احْتَجَّ مَنْ احْتَجَّ عَلَى مَالِكٍ فِي مَسْأَلَةِ الْمَنِيِّ أَنَّ النَّاسَ لَا يَزَالُونَ يَحْتَلِمُونَ فِي الْمَنَامِ فَتُصِيبُ الْجَنَابَةُ أَبْدَانَهُمْ وَثِيَابَهُمْ فَلَوْ كَانَ الْغُسْلُ وَاجِبًا لَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ بِهِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِغَسْلِ مَا أَصَابَهُ مِنْ مَنِيٍّ لَا فِي بَدَنِهِ وَلَا فِي ثِيَابِهِ وَقَدْ أَمَرَ الْحَائِضَ أَنْ تَغْسِلَ دَمَ الْحَيْضِ مِنْ ثَوْبِهَا وَمَعْلُومٌ أَنَّ إصَابَةَ الْجَنَابَةِ ثِيَابَ النَّاسِ أَكْثَرُ مِنْ إصَابَةِ دَمِ الْحَيْضِ ثِيَابَ النِّسَاءِ فَكَيْفَ يُبَيِّنُ هَذَا لِلْحَائِضِ وَيَتْرُكُ بَيَانَ ذَلِكَ الْحُكْمِ الْعَامِّ ؟ مَعَ أَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ وَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَغْسِلُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ وَثَبَتَ عَنْهَا أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ أَنَّهَا كَانَتْ تَفْرُكُهُ فَكَيْفَ وَقَدْ ثَبَتَ هَذَا أَيْضًا أَنَّ الْغُسْلَ يَكُونُ لِقَذَارَتِهِ كَمَا قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ : أَمِطْهُ عَنْك وَلَوْ بإذخرة فَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ . فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْحُجَّةُ مُسْتَقِيمَةً فَمِثْلُهَا يُقَالُ فِي الْوُضُوءِ مِنْ لَمْسِ النِّسَاءِ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ وَلَمْسِهِنَّ لِشَهْوَةِ فِي التوضي مِنْهُ اجْتِهَادٌ وَتَنَازُعٌ قَدِيمٌ وَأَمَّا لَمْسُهُنَّ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ فَكَمَا تَرَى . وَكَذَلِكَ الِاغْتِسَالُ مِنْ الْجَنَابَةِ ; فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَد بَلْ هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْهُ : اتِّبَاعُ السُّنَّةِ فِيهِ ; فَإِنَّ مَنْ نَقَلَ غُسْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَعَائِشَةَ وَمَيْمُونَةَ لَمْ يَنْقُلْ أَنَّهُ غَسَلَ بَدَنَهُ كُلَّهُ ثَلَاثًا بَلْ ذَكَرَ أَنَّهُ بَعْدَ الْوُضُوءِ وَتَخْلِيلِ أُصُولِ الشَّعْرِ حَثَا حَثْيَةً عَلَى شِقِّ رَأْسِهِ وَأَنَّهُ أَفَاضَ الْمَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى سَائِرِ بَدَنِهِ . وَاَلَّذِينَ اسْتَحَبُّوا الثَّلَاثَ إنَّمَا ذَكَرُوهُ قِيَاسًا عَلَى الْوُضُوءِ وَالسُّنَّةُ قَدْ فَرَّقَتْ بَيْنَهُمَا . وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ } وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ كَانَ السُّنَّةُ فِي الْغُسْلِ التَّثْلِيثَ لَمْ يَكْفِهِ ذَلِكَ فَإِنَّ سَائِرَ الْأَعْضَاءِ فَوْقَ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِ مَرَّاتٍ .