تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ . سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَدَ ابْنُ تيمية قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ مَا قَوْلُكُمْ فِي مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي الِاعْتِقَادِ وَمَذْهَبِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ ؟ مَا الصَّوَابُ مِنْهُمَا ؟ وَمَا تَنْتَحِلُونَهُ أَنْتُمْ مِنْ الْمَذْهَبَيْنِ ؟ وَفِي أَهْلِ الْحَدِيثِ : هَلْ هُمْ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ غَيْرِهِمْ ؟ وَهَلْ هُمْ الْمُرَادُونَ بِالْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ ؟ وَهَلْ حَدَثَ بَعْدَهُمْ عُلُومٌ جَهِلُوهَا وَعَلِمَهَا غَيْرُهُمْ ؟ .
12345678910111213141516171819202122232425262728293031
فَصْلٌ وَأَمَّا كَوْنُهُمْ أَعْلَمَ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ وَأَحْكَمَ وَأَنَّ مُخَالِفَهُمْ أَحَقُّ بِالْجَهْلِ وَالْحَشْوِ . فَنُبَيِّنُ ذَلِكَ بِالْقِيَاسِ الْمَعْقُولِ ; مِنْ غَيْرِ احْتِجَاجٍ بِنَفْسِ الْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ كَمَا قَالَ اللَّهُ : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } فَأَخْبَرَ : أَنَّهُ سَيُرِيهِمْ الْآيَاتِ الْمَرْئِيَّةَ الْمَشْهُودَةَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ . ثُمَّ قَالَ : { أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } أَيْ بِإِخْبَارِ اللَّهِ رَبِّك فِي الْقُرْآنِ وَشَهَادَتِهِ بِذَلِكَ . فَنَقُولُ : مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ يُشَارِكُونَ كُلَّ طَائِفَةٍ فِيمَا يَتَحَلَّوْنَ بِهِ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَيَمْتَازُونَ عَنْهُمْ بِمَا لَيْسَ عِنْدَهُمْ . فَإِنَّ الْمُنَازِعَ لَهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يَذْكُرَ فِيمَا يُخَالِفُهُمْ فِيهِ طَرِيقًا أُخْرَى ; مِثْلَ الْمَعْقُولِ وَالْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ وَالْكَلَامِ وَالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَالْمُحَاجَّةِ وَالْمُجَادَلَةِ وَالْمُكَاشَفَةِ وَالْمُخَاطَبَةِ وَالْوَجْدِ وَالذَّوْقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَكُلُّ هَذِهِ الطُّرُقِ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ صَفْوَتُهَا وَخُلَاصَتُهَا : فَهُمْ أَكْمَلُ النَّاسِ عَقْلًا ; وَأَعْدَلُهُمْ قِيَاسًا وَأَصْوَبُهُمْ رَأْيًا وَأَسَدُّهُمْ كَلَامًا وَأَصَحُّهُمْ نَظَرًا وَأَهْدَاهُمْ اسْتِدْلَالًا وَأَقْوَمُهُمْ جَدَلًا وَأَتَمُّهُمْ فِرَاسَةً وَأَصْدَقُهُمْ إلْهَامًا وَأَحَدُّهُمْ بَصَرًا وَمُكَاشَفَةً وَأَصْوَبُهُمْ سَمْعًا وَمُخَاطَبَةً وَأَعْظَمُهُمْ وَأَحْسَنُهُمْ وَجْدًا وَذَوْقًا . وَهَذَا هُوَ لِلْمُسْلِمِينَ بِالنِّسْبَةِ إلَى سَائِرِ الْأُمَمِ وَلِأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ بِالنِّسْبَةِ إلَى سَائِرِ الْمِلَلِ . فَكُلُّ مَنْ اسْتَقْرَأَ أَحْوَالَ الْعَالَمِ وَجَدَ الْمُسْلِمِينَ أَحَدَّ وَأَسَدَّ عَقْلًا وَأَنَّهُمْ يَنَالُونَ فِي الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ مِنْ حَقَائِقِ الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ أَضْعَافَ مَا يَنَالُهُ غَيْرُهُمْ فِي قُرُونٍ وَأَجْيَالٍ وَكَذَلِكَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ تَجِدُهُمْ كَذَلِكَ مُتَمَتِّعِينَ . وَذَلِكَ لِأَنَّ اعْتِقَادَ الْحَقِّ الثَّابِتِ يُقَوِّي الْإِدْرَاكَ وَيُصَحِّحُهُ قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى } وَقَالَ : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا } { وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا } { وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا } . وَهَذَا يُعْلَمُ تَارَةً بِمَوَارِدِ النِّزَاعِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ فَلَا تَجِدُ مَسْأَلَةً خُولِفُوا فِيهَا إلَّا وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَقَّ مَعَهُمْ . وَتَارَةً بِإِقْرَارِ مُخَالِفِيهِمْ وَرُجُوعِهِمْ إلَيْهِمْ دُونَ رُجُوعِهِمْ إلَى غَيْرِهِمْ أَوْ بِشَهَادَتِهِمْ عَلَى مُخَالِفِيهِمْ بِالضَّلَالِ وَالْجَهْلِ . وَتَارَةً بِشَهَادَةِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ . وَتَارَةً بِأَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ تَعْتَصِمُ بِهِمْ فِيمَا خَالَفَتْ فِيهِ الْأُخْرَى وَتَشْهَدُ بِالضَّلَالِ عَلَى كُلِّ مَنْ خَالَفَهَا أَعْظَمُ مِمَّا تَشْهَدُ بِهِ عَلَيْهِمْ . فَأَمَّا شَهَادَةُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ : فَهَذَا أَمْرٌ ظَاهِرٌ مَعْلُومٌ بِالْحِسِّ وَالتَّوَاتُرِ لِكُلِّ مَنْ سَمِعَ كَلَامَ الْمُسْلِمِينَ لَا تَجِدُ فِي الْأُمَّةِ عُظِّمَ أَحَدٌ تَعْظِيمًا أَعْظَمَ مِمَّا عُظِّمُوا بِهِ وَلَا تَجِدُ غَيْرَهُمْ يُعَظَّمُ إلَّا بِقَدْرِ مَا وَافَقَهُمْ فِيهِ كَمَا لَا يُنْقَصُ إلَّا بِقَدْرِ مَا خَالَفَهُمْ . حَتَّى إنَّك تَجِدُ الْمُخَالِفِينَ لَهُمْ كُلَّهُمْ وَقْتَ الْحَقِيقَةِ يُقِرُّ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : " آيَةُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ يَوْمُ الْجَنَائِزِ " فَإِنَّ الْحَيَاةَ بِسَبَبِ اشْتِرَاكِ النَّاسِ فِي الْمَعَاشِ يُعَظِّمُ الرَّجُلُ طَائِفَتَهُ فَأَمَّا وَقْتَ الْمَوْتِ فَلَا بُدَّ مِنْ الِاعْتِرَافِ بِالْحَقِّ مِنْ عُمُومِ الْخَلْقِ . وَلِهَذَا لَمْ يُعْرَفْ فِي الْإِسْلَامِ مِثْلُ جِنَازَتِهِ : مَسَحَ الْمُتَوَكِّلُ مَوْضِعَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَوَجَدَ أَلْفَ أَلْفٍ وَسِتَّمِائَةِ أَلْفٍ ; سِوَى مَنْ صَلَّى فِي الْخَانَاتِ وَالْبُيُوتِ وَأَسْلَمَ يَوْمَئِذٍ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عِشْرُونَ أَلْفًا . وَهُوَ إنَّمَا نَبُلَ عِنْدَ الْأُمَّةِ بِاتِّبَاعِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ . وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَغَيْرُهُمَا إنَّمَا نَبُلُوا فِي الْإِسْلَامِ بِاتِّبَاعِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ . وَكَذَلِكَ الْبُخَارِيُّ وَأَمْثَالُهُ إنَّمَا نَبُلُوا بِذَلِكَ وَكَذَلِكَ مَالِكٌ والأوزاعي وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمْ إنَّمَا نَبُلُوا فِي عُمُومِ الْأُمَّةِ وَقُبِلَ قَوْلُهُمْ لَمَّا وَافَقُوا فِيهِ الْحَدِيثَ وَالسُّنَّةَ وَمَا تَكَلَّمَ فِيمَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ مِنْهُمْ إلَّا بِسَبَبِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي لَمْ يَتَّفِقْ لَهُ مُتَابَعَتُهَا مِنْ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ إمَّا لِعَدَمِ بَلَاغِهَا إيَّاهُ أَوْ لِاعْتِقَادِهِ ضَعْفَ دَلَالَتِهَا أَوْ رُجْحَانِ غَيْرِهَا عَلَيْهَا . وَكَذَلِكَ الْمَسَائِلُ الِاعْتِقَادِيَّةُ الْخَبَرِيَّةُ ; لَمْ يَنْبُلْ أَحَدٌ مِنْ الطَّوَائِفِ وَرُءُوسِهِمْ عِنْدَ الْأُمَّةِ إلَّا بِمَا مَعَهُ مِنْ الْإِثْبَاتِ وَالسُّنَّةِ فَالْمُعْتَزِلَةُ أَوَّلًا - وَهُمْ فُرْسَانُ الْكَلَامِ - إنَّمَا يُحْمَدُونَ وَيُعَظَّمُونَ عِنْدَ أَتْبَاعِهِمْ وَعِنْدَ مَنْ يُغْضِي عَنْ مَسَاوِئِهِمْ لِأَجْلِ مَحَاسِنِهِمْ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ بِمَا وَافَقُوا فِيهِ مَذْهَبَ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ وَالسُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَرَدِّهِمْ عَلَى الرَّافِضَةِ بَعْضَ مَا خَرَجُوا فِيهِ عَنْ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ : مِنْ إمَامَةِ الْخُلَفَاءِ وَعَدَالَةِ الصَّحَابَةِ وَقَبُولِ الْأَخْبَارِ وَتَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَالْغُلُوِّ فِي عَلِيٍّ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ الشِّيعَةُ الْمُتَقَدِّمُونَ كَانُوا يُرَجَّحُونَ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ بِمَا خَالَفُوهُمْ فِيهِ مِنْ إثْبَاتِ الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ وَالشَّفَاعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ كَانُوا يَسْتَحْمِدُونَ بِمَا خَالَفُوا فِيهِ الْخَوَارِجَ مِنْ تَكْفِيرِ عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ وَغَيْرِهِمَا وَمَا كَفَّرُوا بِهِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الذُّنُوبِ وَيَسْتَحْمِدُونَ بِمَا خَالَفُوا فِيهِ الْمُرْجِئَةَ مِنْ إدْخَالِ الْوَاجِبَاتِ فِي الْإِيمَانِ . وَلِهَذَا قَالُوا بِالْمَنْزِلَةِ وَإِنْ لَمْ يَهْتَدُوا إلَى السُّنَّةِ الْمَحْضَةِ . وَكَذَلِكَ مُتَكَلِّمَةُ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ مِثْلَ الكلابية والكرامية وَالْأَشْعَرِيَّةِ إنَّمَا قُبِلُوا وَاتُّبِعُوا واستحمدوا إلَى عُمُومِ الْأُمَّةِ بِمَا أَثْبَتُوهُ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ مِنْ إثْبَاتِ الصَّانِعِ وَصِفَاتِهِ وَإِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ وَالرَّدِّ عَلَى الْكُفَّارِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَبَيَانِ تَنَاقُضِ حُجَجِهِمْ وَكَذَلِكَ استحمدوا بِمَا رَدُّوهُ عَلَى الجهمية وَالْمُعْتَزِلَةِ ; وَالرَّافِضَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَقَالَاتِ الَّتِي يُخَالِفُونَ فِيهَا أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ . فَحَسَنَاتُهُمْ نَوْعَانِ : إمَّا مُوَافَقَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ . وَإِمَّا الرَّدُّ عَلَى مَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ وَالْحَدِيثَ بِبَيَانِ تَنَاقُضِ حُجَجِهِمْ . وَلَمْ يَتَّبِعْ أَحَدٌ مَذْهَبَ الْأَشْعَرِيِّ وَنَحْوَهُ إلَّا لِأَحَدِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا . وَكُلُّ مَنْ أَحَبَّهُ وَانْتَصَرَ لَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَائِهِمْ فَإِنَّمَا يُحِبُّهُ وَيَنْتَصِرُ لَهُ بِذَلِكَ . فَالْمُصَنِّفُ فِي مَنَاقِبِهِ الدَّافِعُ لِلطَّعْنِ وَاللَّعْنِ عَنْهُ - كالبيهقي ; والقشيري أَبِي الْقَاسِمِ ; وَابْنِ عَسَاكِرَ الدِّمَشْقِيِّ - إنَّمَا يَحْتَجُّونَ لِذَلِكَ بِمَا يَقُولُهُ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ أَوْ بِمَا رَدَّهُ مِنْ أَقْوَالِ مُخَالِفِيهِمْ لَا يَحْتَجُّونَ لَهُ عِنْدَ الْأُمَّةِ وَعُلَمَائِهَا وَأُمَرَائِهَا إلَّا بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ وَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَقْرَبِ بَنِي جِنْسِهِ إلَى ذَلِكَ لَأَلْحَقُوهُ بِطَبَقَتِهِ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ كَشَيْخِهِ الْأَوَّلِ " أَبِي عَلِيٍّ ; وَوَلَدِهِ أَبِي هَاشِمٍ . لَكِنْ كَانَ لَهُ مِنْ مُوَافَقَةِ مَذْهَبِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ فِي الصِّفَاتِ ; وَالْقَدَرِ وَالْإِمَامَةِ ; وَالْفَضَائِلِ وَالشَّفَاعَةِ وَالْحَوْضِ وَالصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ وَلَهُ مِنْ الرُّدُودِ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ ; وَالرَّافِضَةِ والجهمية وَبَيَانِ تَنَاقُضِهِمْ : مَا أَوْجَبَ أَنْ يَمْتَازَ بِذَلِكَ عَنْ أُولَئِكَ ; وَيُعْرَفَ لَهُ حَقُّهُ وَقَدْرُهُ { قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } وَبِمَا وَافَقَ فِيهِ السُّنَّةَ وَالْحَدِيثَ صَارَ لَهُ مِنْ الْقَبُولِ وَالْأَتْبَاعِ مَا صَارَ . لَكِنَّ الْمُوَافَقَةَ الَّتِي فِيهَا قَهْرُ الْمُخَالِفِ وَإِظْهَارُ فَسَادِ قَوْلِهِ : هِيَ مِنْ جِنْسِ الْمُجَاهِدِ الْمُنْتَصِرِ . فَالرَّادُّ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ مُجَاهِدٌ حَتَّى كَانَ " يَحْيَى بْنُ يَحْيَى يَقُولُ : الذَّبُّ عَنْ السُّنَّةِ أَفْضَلُ مِنْ الْجِهَادِ " وَالْمُجَاهِدُ قَدْ يَكُونُ عَدْلًا فِي سِيَاسَتِهِ وَقَدْ لَا يَكُونُ وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ فُجُورٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ وَبِأَقْوَامِ لَا خَلَاقَ لَهُمْ } " وَلِهَذَا مَضَتْ السُّنَّةُ بِأَنْ يُغْزَى مَعَ كُلِّ أَمِيرٍ بَرًّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا وَالْجِهَادُ عَمَلٌ مَشْكُورٌ لِصَاحِبِهِ فِي الظَّاهِرِ لَا مَحَالَةَ وَهُوَ مَعَ النِّيَّةِ الْحَسَنَةِ مَشْكُورٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَوَجْهُ شُكْرِهِ : نَصْرُهُ لِلسُّنَّةِ وَالدِّينِ فَهَكَذَا الْمُنْتَصِرُ لِلْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ يُشْكَرُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ . فَحَمْدُ الرِّجَالِ عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِحَسَبِ مَا وَافَقُوا فِيهِ دِينَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ وَشَرْعَهُ مِنْ جَمِيعِ الْأَصْنَافِ ; إذْ الْحَمْدُ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْحَسَنَاتِ . وَالْحَسَنَاتُ : هِيَ مَا وَافَقَ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ التَّصْدِيقِ بِخَبَرِ اللَّهِ وَالطَّاعَةِ لِأَمْرِهِ . وَهَذَا هُوَ السُّنَّةُ . فَالْخَيْرُ كُلُّهُ - بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ - هُوَ فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَكَذَلِكَ مَا يُذَمُّ مَنْ يُذَمُّ مِنْ الْمُنْحَرِفِينَ عَنْ السُّنَّةِ وَالشَّرِيعَةِ وَطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَّا بِمُخَالَفَةِ ذَلِكَ . وَمَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْأُمَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ إنَّمَا تَكَلَّمَ فِيهِ أَهْلُ الْإِيمَانِ بِمُخَالَفَتِهِ السُّنَّةَ وَالشَّرِيعَةَ . وَبِهَذَا ذَمَّ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ أَهْلَ الْكَلَامِ والمتكلمين الصفاتية كَابْنِ كَرَّامٍ ; وَابْنِ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ . وَمَا تَكَلَّمَ فِيهِ مَنْ تَكَلَّمَ مِنْ أَعْيَانِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا الْمَقْبُولِينَ فِيهَا مِنْ جَمِيعِ طَوَائِفِ الْفُقَهَاءِ ; وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ إلَّا بِمَا يَقُولُونَ إنَّهُمْ خَالَفُوا فِيهِ السُّنَّةَ وَالْحَدِيثَ لِخَفَائِهِ عَلَيْهِمْ أَوْ إعْرَاضِهِمْ عَنْهُ أَوْ لِاقْتِضَاءِ أَصْلِ قِيَاسٍ - مَهَّدُوهُ - رُدَّ ذَلِكَ كَمَا يَقَعُ نَحْوُ ذَلِكَ فِي الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ . فَإِنَّ مُخَالَفَةَ الْمُسْلِمِ الصَّحِيحِ الْإِيمَانِ النَّصَّ إنَّمَا يَكُونُ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِهِ أَوْ لِاعْتِقَادِهِ صِحَّةَ مَا عَارَضَهُ لَكِنْ هُوَ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ السُّنَّةِ وَعَظُمَ أَمْرُهُ يَقَعُ بِتَفْرِيطِ مِنْ الْمُخَالِفِ وَعُدْوَانٍ فَيَسْتَحِقُّ مِنْ الذَّمِّ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ فِي النَّصِّ الْخَفِيِّ وَكَذَلِكَ فِيمَا يُوقِعُ الْفُرْقَةَ وَالِاخْتِلَافَ ; يَعْظُمُ فِيهِ أَمْرُ الْمُخَالَفَةِ لِلسُّنَّةِ . وَلِهَذَا اهْتَمَّ كَثِيرٌ مِنْ الْمُلُوكِ وَالْعُلَمَاءِ بِأَمْرِ الْإِسْلَامِ وَجِهَادِ أَعْدَائِهِ حَتَّى صَارُوا يَلْعَنُونَ الرَّافِضَةَ والجهمية وَغَيْرَهُمْ عَلَى الْمَنَابِرِ ; حَتَّى لَعَنُوا كُلَّ طَائِفَةٍ رَأَوْا فِيهَا بِدْعَةً . فَلَعَنُوا الكلابية وَالْأَشْعَرِيَّةَ : كَمَا كَانَ فِي مَمْلَكَةِ الْأَمِيرِ " مَحْمُودِ بْنِ سبكتكين وَفِي دَوْلَةِ السَّلَاجِقَةِ ابْتِدَاءً وَكَذَلِكَ الْخَلِيفَةُ الْقَادِرُ ; رُبَّمَا اهْتَمَّ بِذَلِكَ وَاسْتَشَارَ الْمُعْتَزِلَةَ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَرَفَعُوا إلَيْهِ أَمْرَ الْقَاضِي " أَبِي بَكْرٍ " وَنَحْوِهِ وَهَمُّوا بِهِ حَتَّى كَانَ يَخْتَفِي وَإِنَّمَا تَسَتَّرَ بِمَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَمُوَافَقَتِهِ ثُمَّ وَلَّى النِّظَامُ وَسَعَوْا فِي رَفْعِ اللَّعْنَةِ وَاسْتَفْتَوْا مَنْ اسْتَفْتَوْهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ كالدامغاني الْحَنَفِيِّ وَأَبِي إسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ وَفَتْوَاهُمَا حُجَّةٌ عَلَى مَنْ بِخُرَاسَانَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ أَبَا إسْحَاقَ اسْتَعْفَى مِنْ ذَلِكَ فَأَلْزَمُوهُ وَأَفْتَوْا بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَعْنَتُهُمْ وَيُعَزَّرُ مَنْ يَلْعَنُهُمْ وَعَلَّلَ الدامغاني : بِأَنَّهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ . وَعَلَّلَ أَبُو إسْحَاقَ - مَعَ ذَلِكَ - : بِأَنَّ لَهُمْ ذَبًّا وَرَدًّا عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ الْمُخَالِفِينَ لِلسُّنَّةِ فَلَمْ يُمْكِنْ الْمُفْتِيَ أَنْ يُعَلِّلَ رَفْعَ الذَّمِّ إلَّا بِمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ . وَكَذَلِكَ رَأَيْت فِي فَتَاوَى الْفَقِيهِ أَبِي مُحَمَّدٍ فَتْوَى طَوِيلَةً فِيهَا أَشْيَاءُ حَسَنَةٌ قَدْ سُئِلَ بِهَا عَنْ مَسَائِلَ مُتَعَدِّدَةٍ قَالَ فِيهَا : - وَلَا يَجُوزُ شَغْلُ الْمَسَاجِدِ بِالْغِنَاءِ وَالرَّقْصِ وَمُخَالَطَةِ المردان وَيُعَزَّرُ فَاعِلُهُ تَعْزِيرًا بَلِيغًا رَادِعًا وَأَمَّا لُبْسُ الْحَلَقِ وَالدَّمَالِجِ وَالسَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ وَالتَّخَتُّمُ بِالْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ فَبِدْعَةٌ وَشُهْرَةٌ . وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَهِيَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَهِيَ لِبَاسُ أَهْلِ النَّارِ وَهِيَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إنْ مَاتُوا عَلَى ذَلِكَ . وَلَا يَجُوزُ السُّجُودُ لِغَيْرِ اللَّهِ مِنْ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ وَلَا تَقْبِيلُ الْقُبُورِ وَيُعَزَّرُ فَاعِلُهُ . وَمَنْ لَعَنَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ عُزِّرَ عَلَى ذَلِكَ تَعْزِيرًا بَلِيغًا . وَالْمُؤْمِنُ لَا يَكُونُ لَعَّانًا وَمَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ عَوْدِ اللَّعْنَةِ عَلَيْهِ قَالَ : وَلَا تَحِلُّ الصَّلَاةُ عِنْدَ الْقُبُورِ وَلَا الْمَشْيُ عَلَيْهَا مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَلَا تُعْمَلُ مَسَاجِدَ لِلصَّلَاةِ فَإِنَّهُ " { اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } " . قَالَ : وَأَمَّا لَعْنُ الْعُلَمَاءِ لِأَئِمَّةِ الْأَشْعَرِيَّةِ فَمَنْ لَعَنَهُمْ عُزِّرَ . وَعَادَتْ اللَّعْنَةُ عَلَيْهِ فَمَنْ لَعَنَ مَنْ لَيْسَ أَهْلًا لِلَّعْنَةِ وَقَعَتْ اللَّعْنَةُ عَلَيْهِ . وَالْعُلَمَاءُ أَنْصَارُ فُرُوعِ الدِّينِ وَالْأَشْعَرِيَّةُ أَنْصَارُ أُصُولِ الدِّينِ . قَالَ : وَأَمَّا دُخُولُهُمْ النِّيرَانَ فَمَنْ لَا يَتَمَسَّكُ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّهُ فِتْنَةٌ لَهُمْ وَمَضَلَّةٌ لِمَنْ يَرَاهُمْ كَمَا يَفْتَتِنُ النَّاسُ بِمَا يَظْهَرُ عَلَى يَدَيْ الدَّجَّالِ فَإِنَّهُ مَنْ ظَهَرَ عَلَى يَدَيْهِ خَارِقٌ فَإِنَّهُ يُوزَنُ بِمِيزَانِ الشَّرْعِ فَإِنْ كَانَ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ كَانَ مَا ظَهَرَ عَلَى يَدَيْهِ كَرَامَةً وَمَنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ كَانَ ذَلِكَ فِتْنَةً كَمَا يَظْهَرُ عَلَى يَدَيْ الدَّجَّالِ مِنْ إحْيَاءِ الْمَيِّتِ وَمَا يَظْهَرُ مِنْ جَنَّتِهِ وَنَارِهِ . فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ بِمَا يَظْهَرُ عَلَى يَدَيْ هَؤُلَاءِ . وَأَمَّا مَنْ تَمَسَّكَ بِالشَّرْعِ الشَّرِيفِ : فَإِنَّهُ لَوْ رَأَى مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ ; أَوْ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ ; فَإِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ فِتْنَةٌ لِلْعِبَادِ . انْتَهَى . فَالْفَقِيهُ أَبُو مُحَمَّدٍ أَيْضًا إنَّمَا مَنَعَ اللَّعْنَ وَأَمَرَ بِتَعْزِيرِ اللَّاعِنِ لِأَجْلِ مَا نَصَرُوهُ مِنْ " أُصُولِ الدِّينِ " وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ مُوَافَقَةِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَالرَّدِّ عَلَى مَنْ خَالَفَ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ وَالْحَدِيثَ . وَلِهَذَا كَانَ الشَّيْخُ أَبُو إسْحَاقَ يَقُولُ : " إنَّمَا نَفَقَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ عِنْدَ النَّاسِ بِانْتِسَابِهِمْ إلَى الْحَنَابِلَةِ " وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَيْهِ وَعَلَى أَئِمَّةِ أَصْحَابِهِ فِي كُتُبِهِمْ وَمُصَنَّفَاتِهِمْ قَبْلَ وُقُوعِ الْفِتْنَةِ القشيرية بِبَغْدَادَ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ فِي مَنَاقِبِهِ : " مَا زَالَتْ الْحَنَابِلَةُ وَالْأَشَاعِرَةُ فِي قَدِيمِ الدَّهْرِ مُتَّفِقِينَ غَيْرَ مُفْتَرِقِينَ حَتَّى حَدَثَتْ فِتْنَةُ " ابْنِ القشيري ثُمَّ بَعْدَ حُدُوثِ الْفِتْنَةِ وَقَبْلَهَا لَا تَجِدُ مَنْ يَمْدَحُ الْأَشْعَرِيَّ بِمِدْحَةِ ; إلَّا إذَا وَافَقَ السُّنَّةَ وَالْحَدِيثَ وَلَا يَذُمُّهُ مَنْ يَذُمُّهُ إلَّا بِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ . وَهَذَا إجْمَاعٌ مِنْ جَمِيعِ هَذِهِ الطَّوَائِفِ عَلَى تَعْظِيمِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَاتِّفَاقِ شَهَادَاتِهِمْ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ . وَلِهَذَا تَجِدُ أَعْظَمَهُمْ مُوَافَقَةً لِأَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ أَعْظَمَ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ . فَالْأَشْعَرِيُّ نَفْسُهُ لَمَّا كَانَ أَقْرَبَ إلَى قَوْلِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ كَانَ عِنْدَهُمْ أَعْظَمَ مِنْ أَتْبَاعِهِ وَالْقَاضِي " أَبُو بَكْرٍ بْنُ الباقلاني لَمَّا كَانَ أَقْرَبَهُمْ إلَى ذَلِكَ كَانَ أَعْظَمَ عِنْدَهُمْ مِنْ غَيْرِهِ . وَأَمَّا مِثْلُ الْأُسْتَاذِ أَبِي الْمَعَالِي ; وَأَبِي حَامِدٍ ; وَنَحْوِهِمَا مِمَّنْ خَالَفُوا أُصُولَهُ فِي مَوَاضِعَ فَلَا تَجِدُهُمْ يُعَظَّمُونَ إلَّا بِمَا وَافَقُوا فِيهِ السُّنَّةَ وَالْحَدِيثَ وَأَكْثَرُ ذَلِكَ تَقَلَّدُوهُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي الْفِقْهِ الْمُوَافِقِ لِلسُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَمِمَّا ذَكَرُوهُ فِي الْأُصُولِ مِمَّا يُوَافِقُ السُّنَّةَ وَالْحَدِيثَ وَمَا رَدُّوهُ مِمَّا يُخَالِفُ السُّنَّةَ وَالْحَدِيثَ . وَبِهَذَا الْقَدْرِ يَنْتَحِلُونَ السُّنَّةَ وَيَنْحَلُونَهَا وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ . وَكَانَتْ الرَّافِضَةُ وَالْقَرَامِطَةُ - عُلَمَاؤُهَا وَأُمَرَاؤُهَا - قَدْ اسْتَظْهَرَتْ فِي أَوَائِلِ الدَّوْلَةِ السَّلْجُوقِيَّةِ حَتَّى غَلَبَتْ عَلَى الشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَأَخْرَجَتْ الْخَلِيفَةَ الْقَائِمَ بِبَغْدَادَ إلَى تكريت وَحَبَسُوهُ بِهَا فِي فِتْنَةِ البساسيري الْمَشْهُورَةِ فَجَاءَتْ بَعْدَ ذَلِكَ السَّلْجُوقِيَّةُ حَتَّى هَزَمُوهُمْ وَفَتَحُوا الشَّامَ وَالْعِرَاقَ وَقَهَرُوهُمْ بِخُرَاسَانَ وَحَجَرُوهُمْ بِمِصْرِ . وَكَانَ فِي وَقْتِهِمْ مِنْ الْوُزَرَاءِ مِثْلُ : " نَظَّامِ الْمَلِكِ " وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مِثْلُ : " أَبِي الْمَعَالِي الجويني فَصَارُوا بِمَا يُقِيمُونَهُ مِنْ السُّنَّةِ وَيَرُدُّونَهُ مِنْ بِدْعَةِ هَؤُلَاءِ وَنَحْوِهِمْ لَهُمْ مِنْ الْمَكَانَةِ عِنْدَ الْأُمَّةِ بِحَسَبِ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ الَّذِينَ وَافَقُوهُ : " كَأَبِي الْوَلِيدِ الباجي وَالْقَاضِي " أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ وَنَحْوِهِمَا لَا يُعَظَّمُونَ إلَّا بِمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَأَمَّا الْأَكَابِرُ : مِثْلُ ابْنِ حَبِيبٍ و ابْنِ سحنون وَنَحْوِهِمَا ; فَلَوْنٌ آخَرُ . وَكَذَلِكَ أَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ حَزْمٍ فِيمَا صَنَّفَهُ مِنْ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ إنَّمَا يُسْتَحْمَدُ بِمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ مِثْلَ مَا ذَكَرَهُ فِي مَسَائِلِ " الْقَدَرِ " وَ " الْإِرْجَاءِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا انْفَرَدَ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ فِي التَّفْضِيلِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ . وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ فِي " بَابِ الصِّفَاتِ " فَإِنَّهُ يُسْتَحْمَدُ فِيهِ بِمُوَافَقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ لِكَوْنِهِ يَثْبُتُ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَيُعَظِّمُ السَّلَفَ وَأَئِمَّةَ الْحَدِيثِ وَيَقُولُ إنَّهُ مُوَافِقٌ لِلْإِمَامِ أَحْمَد فِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهَا وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لَهُ وَلَهُمْ فِي بَعْضِ ذَلِكَ . لَكِنَّ الْأَشْعَرِيَّ وَنَحْوَهُ أَعْظَمُ مُوَافَقَةً لِلْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِي الْقُرْآنِ وَالصِّفَاتِ وَإِنْ كَانَ " أَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ حَزْمٍ فِي مَسَائِلِ الْإِيمَانِ وَالْقَدَرِ أَقْوَمَ مِنْ غَيْرِهِ وَأَعْلَمَ بِالْحَدِيثِ وَأَكْثَرَ تَعْظِيمًا لَهُ وَلِأَهْلِهِ مَنْ غَيْرِهِ لَكِنْ قَدْ خَالَطَ مِنْ أَقْوَالِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فِي مَسَائِلِ الصِّفَاتِ مَا صَرَفَهُ عَنْ مُوَافَقَةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي مَعَانِي مَذْهَبِهِمْ فِي ذَلِكَ فَوَافَقَ هَؤُلَاءِ فِي اللَّفْظِ وَهَؤُلَاءِ فِي الْمَعْنَى . وَبِمِثْلِ هَذَا صَارَ يَذُمُّهُ مَنْ يَذُمُّهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ والمتكلمين وَعُلَمَاءِ الْحَدِيثِ بِاتِّبَاعِهِ لِظَاهِرِ لَا بَاطِنَ لَهُ كَمَا نَفَى الْمَعَانِيَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالِاشْتِقَاقِ وَكَمَا نَفَى خَرْقَ الْعَادَاتِ وَنَحْوَهُ مِنْ عِبَادَاتِ الْقُلُوبِ . مَضْمُومًا إلَى مَا فِي كَلَامِهِ مِنْ الْوَقِيعَةِ فِي الْأَكَابِرِ وَالْإِسْرَافِ فِي نَفْيِ الْمَعَانِي وَدَعْوَى مُتَابَعَةِ الظَّوَاهِرِ . وَإِنْ كَانَ لَهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ وَالْعُلُومِ الْوَاسِعَةِ الْكَثِيرَةِ مَا لَا يَدْفَعُهُ إلَّا مُكَابِرٌ ; وَيُوجَدُ فِي كُتُبِهِ مِنْ كَثْرَةِ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْأَقْوَالِ وَالْمَعْرِفَةِ بِالْأَحْوَالِ ; وَالتَّعْظِيمِ لِدَعَائِمِ الْإِسْلَامِ وَلِجَانِبِ الرِّسَالَةِ مَا لَا يَجْتَمِعُ مِثْلُهُ لِغَيْرِهِ . فَالْمَسْأَلَةُ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا حَدِيثٌ يَكُونُ جَانِبُهُ فِيهَا ظَاهِرَ التَّرْجِيحِ . وَلَهُ مِنْ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالضَّعِيفِ وَالْمَعْرِفَةِ بِأَقْوَالِ السَّلَفِ مَا لَا يَكَادُ يَقَعُ مِثْلُهُ لِغَيْرِهِ مِنْ الْفُقَهَاءِ . وَتَعْظِيمُ أَئِمَّةِ الْأُمَّةِ وَعَوَامِّهَا لِلسُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَأَهْلِهِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ : أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ هُنَا . وَتَجِدُ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ كُلَّمَا ظَهَرَ وَقَوِيَ كَانَتْ السُّنَّةُ وَأَهْلُهَا أَظْهَرَ وَأَقْوَى وَإِنْ ظَهَرَ شَيْءٌ مِنْ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ ظَهَرَتْ الْبِدَعُ بِحَسَبِ ذَلِكَ مِثْلُ : دَوْلَةِ الْمَهْدِيِّ وَالرَّشِيدِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّنْ كَانَ يُعَظِّمُ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ وَيَغْزُو أَعْدَاءَهُ مِنْ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ . كَانَ أَهْلُ السُّنَّةِ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ أَقْوَى وَأَكْثَرَ وَأَهْلُ الْبِدَعِ أَذَلَّ وَأَقَلَّ . فَإِنَّ الْمَهْدِيَّ قَتَلَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ الزَّنَادِقَةِ مَنْ لَا يُحْصِي عَدَدَهُ إلَّا اللَّهُ وَالرَّشِيدُ كَانَ كَثِيرَ الْغَزْوِ وَالْحَجِّ . وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا انْتَشَرَتْ الدَّوْلَةُ الْعَبَّاسِيَّةُ وَكَانَ فِي أَنْصَارِهَا مِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَالْأَعَاجِمِ طَوَائِفُ مِنْ الَّذِينَ نَعَتَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : " { الْفِتْنَةُ هَاهُنَا } " ; ظَهَرَ حِينَئِذٍ كَثِيرٌ مِنْ الْبِدَعِ وَعُرِّبَتْ أَيْضًا إذْ ذَاكَ طَائِفَةٌ مِنْ كُتُبِ الْأَعَاجِمِ - مِنْ الْمَجُوسِ الْفُرْسِ وَالصَّابِئِينَ الرُّومِ وَالْمُشْرِكِينَ الْهِنْدِ - وَكَانَ الْمَهْدِيُّ مِنْ خِيَارِ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ وَأَحْسَنِهِمْ إيمَانًا وَعَدْلًا وَجُودًا فَصَارَ يَتَتَبَّعُ الْمُنَافِقِينَ الزَّنَادِقَةَ كَذَلِكَ . وَكَانَ خُلَفَاءُ بَنِي الْعَبَّاسِ أَحْسَنَ تَعَاهُدًا لِلصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ فَإِنَّ أُولَئِكَ كَانُوا كَثِيرَ الْإِضَاعَةِ لِمَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ كَمَا جَاءَتْ فِيهِمْ الْأَحَادِيثُ : " { سَيَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا وَاجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ نَافِلَةً } " . لَكِنْ كَانَتْ الْبِدَعُ فِي الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْفَاضِلَةِ مَقْمُوعَةً وَكَانَتْ الشَّرِيعَةُ أَعَزَّ وَأَظْهَرَ وَكَانَ الْقِيَامُ بِجِهَادِ أَعْدَاءِ الدِّينِ مِنْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ أَعْظَمَ . وَفِي دَوْلَةِ " أَبِي الْعَبَّاسِ الْمَأْمُونِ ظَهَرَ الخرمية " وَنَحْوُهُمْ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَعَرَّبَ مَنْ كُتُبِ الْأَوَائِلِ الْمَجْلُوبَةِ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ مَا انْتَشَرَ بِسَبَبِهِ مَقَالَاتُ الصَّابِئِينَ وَرَاسَلَ مُلُوكَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الْهِنْدِ وَنَحْوِهِمْ حَتَّى صَارَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مَوَدَّةٌ . فَلَمَّا ظَهَرَ مَا ظَهَرَ مِنْ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ فِي الْمُسْلِمِينَ وَقَوِيَ مَا قَوِيَ مِنْ حَالِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ ; كَانَ مِنْ أَثَرِ ذَلِكَ : مَا ظَهَرَ مِنْ اسْتِيلَاءِ الجهمية ; وَالرَّافِضَةِ ; وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ وَتَقْرِيبِ الصَّابِئَةِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ . وَذَلِكَ بِنَوْعِ رَأْيٍ يَحْسَبُهُ صَاحِبُهُ عَقْلًا وَعَدْلًا وَإِنَّمَا هُوَ جَهْلٌ وَظُلْمٌ إذْ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْمُنَافِقِ ; وَالْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ أَعْظَمُ الظُّلْمِ وَطَلَبُ الْهُدَى عِنْدَ أَهْلِ الضَّلَالِ أَعْظَمُ الْجَهْلِ فَتَوَلَّدَ مِنْ ذَلِكَ مِحْنَةُ الجهمية حَتَّى اُمْتُحِنَتْ الْأُمَّةُ بِنَفْيِ الصِّفَاتِ وَالتَّكْذِيبِ بِكَلَامِ اللَّهِ وَرُؤْيَتِهِ وَجَرَى مِنْ مِحْنَةِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مَا جَرَى مِمَّا يَطُولُ وَصْفُهُ . وَكَانَ فِي أَيَّامِ " الْمُتَوَكِّلِ قَدْ عَزَّ الْإِسْلَامُ حَتَّى أُلْزِمَ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِالشُّرُوطِ الْعُمَرِيَّةِ ; وَأُلْزِمُوا الصَّغَارَ فَعَزَّتْ السُّنَّةُ وَالْجَمَاعَةُ وَقُمِعَتْ الجهمية وَالرَّافِضَةُ وَنَحْوُهُمْ . وَكَذَلِكَ فِي أَيَّامِ " الْمُعْتَضِدِ وَالْمَهْدِيِّ وَالْقَادِرِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْخُلَفَاءِ الَّذِينَ كَانُوا أَحْمَد سِيرَةً وَأَحْسَنَ طَرِيقَةً مِنْ غَيْرِهِمْ . وَكَانَ الْإِسْلَامُ فِي زَمَنِهِمْ أَعَزَّ وَكَانَتْ السُّنَّةُ بِحَسَبِ ذَلِكَ . وَفِي دَوْلَةِ " بَنِي بويه " وَنَحْوِهِمْ : الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ فَإِنَّهُمْ كَانَ فِيهِمْ أَصْنَافُ الْمَذَاهِبِ الْمَذْمُومَةِ . قَوْمٌ مِنْهُمْ زَنَادِقَةٌ وَفِيهِمْ قَرَامِطَةٌ كَثِيرَةٌ وَمُتَفَلْسِفَةٌ وَمُعْتَزِلَةٌ وَرَافِضَةٌ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ فِيهِمْ غَالِبَةٌ عَلَيْهِمْ . فَحَصَلَ فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ فِي أَيَّامِهِمْ مِنْ الْوَهْنِ مَا لَمْ يُعْرَفْ حَتَّى اسْتَوْلَى النَّصَارَى عَلَى ثُغُورِ الْإِسْلَامِ وَانْتَشَرَتْ الْقَرَامِطَةُ فِي أَرْضِ مِصْرَ وَالْمَغْرِبِ وَالْمَشْرِقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَجَرَتْ حَوَادِثُ كَثِيرَةٌ . وَلَمَّا كَانَتْ مَمْلَكَةُ مَحْمُودِ بْنِ سبكتكين مِنْ أَحْسَنِ مَمَالِكِ بَنِي جِنْسِهِ : كَانَ الْإِسْلَامُ وَالسُّنَّةُ فِي مَمْلَكَتِهِ أَعَزَّ فَإِنَّهُ غَزَا الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ الْهِنْدِ وَنَشَرَ مِنْ الْعَدْلِ مَا لَمْ يَنْشُرْهُ مِثْلُهُ . فَكَانَتْ السُّنَّةُ فِي أَيَّامِهِ ظَاهِرَةً وَالْبِدَعُ فِي أَيَّامِهِ مَقْمُوعَةً . وَكَذَلِكَ السُّلْطَانُ " نُورُ الدِّينِ مَحْمُودٌ الَّذِي كَانَ بِالشَّامِ ; عَزَّ أَهْلُ الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ فِي زَمَنِهِ وَذَلَّ الْكُفَّارُ وَأَهْلُ الْبِدَعِ مِمَّنْ كَانَ بِالشَّامِ وَمِصْرَ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الرَّافِضَةِ والجهمية وَنَحْوِهِمْ . وَكَذَلِكَ مَا كَانَ فِي زَمَنِهِ مِنْ خِلَافَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ وَوِزَارَةِ ابْنِ هُبَيْرَةَ لَهُمْ فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ أَمْثَلِ وُزَرَاءِ الْإِسْلَامِ . وَلِهَذَا كَانَ لَهُ مِنْ الْعِنَايَةِ بِالْإِسْلَامِ وَالْحَدِيثِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ . وَمَا يُوجَدُ مِنْ إقْرَارِ أَئِمَّةِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ وَشَهَادَتِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَى بَنِي جِنْسِهِمْ بِالضَّلَالِ وَمِنْ شَهَادَةِ أَئِمَّةِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ ; فَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ يَحْتَمِلَهُ هَذَا الْمَوْضِعُ وَكَذَلِكَ مَا يُوجَدُ مِنْ رُجُوعِ أَئِمَّتِهِمْ إلَى مَذْهَبِ عُمُومِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَعَجَائِزِهِمْ كَثِيرٌ وَأَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ لَا يُرْجَعُ مِنْهُمْ أَحَدٌ لِأَنَّ " الْإِيمَانَ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ لَا يَسْخَطُهُ أَحَدٌ " وَكَذَلِكَ مَا يُوجَدُ مِنْ شَهَادَتِهِمْ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ بِالسَّلَامَةِ وَالْخَلَاصِ مِنْ أَنْوَاعِ الضَّلَالِ وَهُمْ لَا يَشْهَدُونَ لِأَهْلِ الْبِدَعِ إلَّا بِالضَّلَالِ . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ كَمَا قَدَّمْنَاهُ . وَجَمِيعُ الطَّوَائِفِ الْمُتَقَابِلَةِ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ تَشْهَدُ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ أَصْلَحُ مِنْ الْآخَرِينَ وَأَقْرَبُ إلَى الْحَقِّ فَنَجِدُ كَلَامَ أَهْلِ النِّحَلِ فِيهِمْ وَحَالَهُمْ مَعَهُمْ بِمَنْزِلَةِ كَلَامِ أَهْلِ الْمِلَلِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَحَالَهُمْ مَعَهُمْ . وَإِذَا قَابَلْنَا بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ - أَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ - فَاَلَّذِي يَعِيبُ بَعْضَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الْجَمَاعَةِ بِحَشْوِ الْقَوْلِ : إنَّمَا يَعِيبُهُمْ بِقِلَّةِ الْمَعْرِفَةِ ; أَوْ بِقِلَّةِ الْفَهْمِ . أَمَّا الْأَوَّلُ : فَبِأَنْ يَحْتَجُّوا بِأَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ أَوْ مَوْضُوعَةٍ ; أَوْ بِآثَارِ لَا تَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ . وَأَمَّا الثَّانِي : فَبِأَنْ لَا يَفْهَمُوا مَعْنَى الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ بَلْ قَدْ يَقُولُونَ الْقَوْلَيْنِ الْمُتَنَاقِضَيْنِ وَلَا يَهْتَدُونَ لِلْخُرُوجِ مِنْ ذَلِكَ . وَالْأَمْرُ رَاجِعٌ إلَى شَيْئَيْنِ : - إمَّا زِيَادَةُ أَقْوَالٍ غَيْرِ مُفِيدَةٍ يُظَنُّ أَنَّهَا مُفِيدَةٌ كَالْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ وَإِمَّا أَقْوَالٌ مُفِيدَةٌ لَكِنَّهُمْ لَا يَفْهَمُونَهَا إذْ كَانَ اتِّبَاعُ الْحَدِيثِ يَحْتَاجُ أَوَّلًا إلَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ . وَثَانِيًا إلَى فَهْمِ مَعْنَاهُ كَاتِّبَاعِ الْقُرْآنِ . فَالْخَلَلُ يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ مِنْ تَرْكِ إحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ . وَمَنْ عَابَهُمْ مِنْ النَّاسِ فَإِنَّمَا يَعِيبُهُمْ بِهَذَا . وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا مَوْجُودٌ فِي بَعْضِهِمْ يَحْتَجُّونَ بِأَحَادِيثَ مَوْضُوعَةٍ فِي مَسَائِلِ " الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ " وَبِآثَارِ مُفْتَعَلَةٍ وَحِكَايَاتٍ غَيْرِ صَحِيحَةٍ وَيَذْكُرُونَ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ مَا لَا يَفْهَمُونَ مَعْنَاهُ وَرُبَّمَا تَأَوَّلُوهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ ; وَوَضَعُوهُ عَلَى غَيْرِ مَوْضِعِهِ . ثُمَّ إنَّهُمْ بِهَذَا الْمَنْقُولِ الضَّعِيفِ وَالْمَعْقُولِ السَّخِيفِ قَدْ يُكَفِّرُونَ وَيُضَلِّلُونَ وَيُبَدِّعُونَ أَقْوَامًا مِنْ أَعْيَانِ الْأُمَّةِ ويجهلونهم فَفِي بَعْضِهِمْ مِنْ التَّفْرِيطِ فِي الْحَقِّ وَالتَّعَدِّي عَلَى الْخَلْقِ مَا قَدْ يَكُونُ بَعْضُهُ خَطَأً مَغْفُورًا وَقَدْ يَكُونُ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا وَقَدْ يَكُونُ مِنْ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ الَّتِي تُوجِبُ غَلِيظَ الْعُقُوبَاتِ فَهَذَا لَا يُنْكِرُهُ إلَّا جَاهِلٌ أَوْ ظَالِمٌ وَقَدْ رَأَيْت مِنْ هَذَا عَجَائِبَ . لَكِنْ هُمْ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِمْ فِي ذَلِكَ كَالْمُسْلِمِينَ بِالنِّسْبَةِ إلَى بَقِيَّةِ الْمِلَلِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الظُّلْمِ وَالْجَهْلِ وَالْبِدَعِ وَالْفُجُورِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا مَنْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا لَكِنْ كُلُّ شَرٍّ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ فِي غَيْرِهِمْ أَكْثَرَ وَكُلُّ خَيْرٍ يَكُونُ فِي غَيْرِهِمْ فَهُوَ فِيهِمْ أَعْلَى وَأَعْظَمُ وَهَكَذَا أَهْلُ الْحَدِيثِ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِمْ . وَبَيَانُ ذَلِكَ : أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ فُضُولِ الْكَلَامِ الَّذِي لَا يُفِيدُ مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّهُ طَرِيقٌ إلَى التَّصَوُّرِ وَالتَّصْدِيقِ - هُوَ فِي أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْمَنْطِقِ أَضْعَافُ أَضْعَافِ أَضْعَافِ مَا هُوَ فِي أَهْلِ الْحَدِيثِ ; فَبِإِزَاءِ احْتِجَاجِ أُولَئِكَ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ احْتِجَاجُ هَؤُلَاءِ بِالْحُدُودِ وَالْأَقْيِسَةِ الْكَثِيرَةِ الْعَقِيمَةِ ; الَّتِي لَا تُفِيدُ مَعْرِفَةً ; بَلْ تُفِيدُ جَهْلًا وَضَلَالًا وَبِإِزَاءِ تَكَلُّمِ أُولَئِكَ بِأَحَادِيثَ لَا يَفْهَمُونَ مَعْنَاهَا تَكَلُّفُ هَؤُلَاءِ مِنْ الْقَوْلِ بِغَيْرِ عِلْمٍ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَكْثَرُ وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الْإِمَامِ أَحْمَد : " ضَعِيفُ الْحَدِيثِ خَيْرٌ مِنْ رَأْيِ فُلَانٍ " . ثُمَّ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ مِنْ الْمَزِيَّةِ : أَنَّ مَا يَقُولُونَهُ مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي لَا يَفْهَمُهُ بَعْضُهُمْ هُوَ كَلَامٌ فِي نَفْسِهِ حَقٌّ وَقَدْ آمَنُوا بِذَلِكَ وَأَمَّا الْمُتَكَلِّمَةُ : فَيَتَكَلَّفُونَ مِنْ الْقَوْلِ مَا لَا يَفْهَمُونَهُ وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ حَقٌّ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ لَا يَسْتَدِلُّونَ بِحَدِيثِ ضَعِيفٍ فِي نَقْضِ أَصْلٍ عَظِيمٍ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ بَلْ إمَّا فِي تَأْيِيدِهِ ; وَإِمَّا فِي فَرْعٍ مِنْ الْفُرُوعِ وَأُولَئِكَ يَحْتَجُّونَ بِالْحُدُودِ وَالْمَقَايِيسِ الْفَاسِدَةِ فِي نَقْضِ الْأُصُولِ الْحَقَّةِ الثَّابِتَةِ .